رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 20 أكتوبر، 2020 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: تركُ احْتِقار قليل الصَّدقة


عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ».الشرح: الحديث رواه مسلم في كتاب الزكاة (2/714) باب: الحثّ على الصّدقة ولو بالقليل، ولا تَمْتنع من القليل لاحْتقاره. ورواه البخاري في كتاب الأدب (6017) باب: لا تَحْقرنَّ جارةٌ لجارتها.

قوله: «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ» إعرابها فيه وُجوه، أصحّها وأشْهرها: نصبُ النساء، وجر المسلمات على الإضافة، وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، والموصوف إلى صفته، والأعمّ إلى الأخصّ، كمسجد الجامع، وجانب الغربيّ، ولدار الآخرة.

قال الحافظ: وحاصله أنَّ فيه اختصاراً، لأنَّ المُخاطبين يَعرفون المُراد منه اهـ.

قوله: «لا تَحْقرنَّ جارةٌ لجارتها» قال الكرماني: لجارتها مُتعلق بمحْذوف، أي: لا تحقرنَّ جارةٌ هديةً مُهداة لجارتها اهـ.

     فالنَّهي ألا تَحْقر أنْ تُهدي إلى جارتها شيئا، ولو أنها تُهدي لها شيئاً يسيراً، أي: لتُوادِد الجارة جارتها بهدية ولو حَقُرت، ويتساوى في ذلك الغني والفقير، وخصّ النَّهي بالنساء؛ لأنهنَّ موارد المَودّة والبَغْضاء، ولأنهنَّ أسْرعُ انفعالاً في كل منهما.(الفتح 10/445 بتصرف).

وقال الكرماني: يحتمل أنْ يكون النهي للمُعْطية، ويحتمل أنْ يكون للمُهْدَى إليها. قلت (الحافظ): ولا يتمُّ حمْلُه على المهدى إليها؛ إلا بجعل اللام في قوله «لجارتها» بمعنى «من»، ولا يمتنع حمله على المعنيين اهـ.

- قوله: «ولو فِرسِن شَاة» قال أهل اللغة: الفِرسن: بكسر الفاء وسكون الراء وكسر المهملة ثم نون، من البعير كالحافر من الدّابة، وربما استُعير في الشَّاة، وهو عظم قليل اللحم.

     وأشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشَّيء اليسير وقبوله، لا إلى حقيقة الفِرسن، لأنه لم يجر العادة بإهدائه، أي: لا تمتنع جارةٌ من الهدية لجارتها من الموجود عندها لاستقلاله، بل ينبغي أنْ تجودَ لها بما تيسر وإن كان قليلاً، فهو خيرٌ من العدم، وذكر الفرسن على سبيل المُبالغة. ويحتمل أنْ يكون النَّهي إنما وقع للمُهدى إليها، وأنها لا تَحتقر ما يُهْدى إليها ولو كان قليلاً، وحمله على الأعمّ من ذلك أولى.

الحث على الهدية

- ففي الحديث: - أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحثَّ على الهدية للجار، ولو شيئًا قليلًا، فالفِرسَن: وهو ظِلف الشاة، شيءٌ يسير زهيد، ومع ذلك رغّب - صلى الله عليه وسلم - بإهدائه للجار. كما جاء عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «إذا طَبَخْتَ مَرَقَة, فأكثر ماءَها, وتَعاهدْ جِيْرانك».رواه مسلم.

وفي رواية له قال: «إنَّ خَليلي - صلى الله عليه وسلم - أوْصَاني إذا طبختَ مرقًا فأكثر ماءَه، ثم انْظر أهلَ بيتٍ مِنْ جيرانك؛ فأصِبهم منْها بمعروف».

     فقوله: «أوْصَاني إذا طبختَ مرقًا فأكثر ماءَه» أي: أكثر ماء المرق، يعني: زِدْها ماءً؛ لِتَكثُر وتُوزَّع على جيرانك منها، والمرقة عادة تكون من اللحم، أو من غيره مِمَّا يُؤْتدَم به، وهكذا أيضاً إذا كان عندك غير المرق، أو شراب كفضل اللبن مثلاً، أو العصير وما أشْبهه، ينبغي لك أنْ تتعاهد جيرانك به؛ لأنَّ لهم حقاً عليك.

ففي حديث أبي ذر هذا يحث النبي - صلى الله عليه وسلم - الإنسان إذا وسَّع الله عليه برزق، أنْ يُصِيب منه جارُه بعضَ الشَّيء بالمعروف، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك».

وهذا يوضح صورة من صور عناية الإسلام بحق الجار.

     حتى المَرق إذا أعْطيتَه جيرانك هديةً، فإنك تُثاب على ذلك، وكذلك الابْتسامة في وجهه؛ فإنها مِنَ المعروف إذا لم تلقَ جارك بوجهٍ عبوس مكفهر، بل بوجهٍ طلق مُنْشَرح؛ فإنّ هذا مِنَ الخير ومنَ المعروف؛ لأنَّ أخاك إذا واجهته بهذه المواجهة، يدخل عليه السرور ويفرح، وكل شيء يُدخل السرور على أخيك المسلم، فإنه خير وأجرٌ.

الهدية سُنةٌ نبوية

- والهدية سُنةٌ نبوية، تـُقرِّبُ البعيد، وتصلُ المقطوع، وتذهب بالحقد والغيظ والعداوة، وتشق طريق الدعوة إلى القلوب، وتفتح مغاليق النُّفوس، وتَبْذر المحبَّة بين الناس، وقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تشريع كل ما مِنْ شأنه أن يُؤلف القلوب، فالهدية من هديه - صلى الله عليه وسلم - التي حض عليها حيث قال: «تَهَادُوا تَحَابُّوا». رواه البخاري في الأدب المفرد، ومالك، وصححه الألباني.

وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يهدي، ويقبل الهدية، القليل والكثير، ويثيب عليها، ويرغب فيها، وكان يقول: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِىَ إِلَىَّ ذِرَاعٌ أو كراع لَقَبِلْتُ». رواه البخاري، والكراع: الساق من الغنم والبقر العاري من اللحم.

قال ابن بطال: «حضٌّ منه لأمته على المهاداة، والصلة، والتأليف، والتَحابِ، وإنما أخبر أنه لا يَحقر شيئاً مما يُهدى إليه أو يدعى إليه، لئلا يمتنع الباعث من المهاداة لاحتقار المُهدى، وإنّما أشار بالكُراع إلى المبالغة في قبول القليل من الهدية».

     فالحض على التَّهادي ولو باليسير، فيه اسْتجلاب المَودَّة، وإذهاب الشحناء، وفيه تعاون على أمر المعيشة، والهدية إذا كانت يسيرة، كانت أدل على المودة، وأسقط للمؤنة، وأسهل على المهدي لإطراح التكلف، والكثير قد لا يتيسر كل وقت، والمواصلة باليسير تكون كالكثير.

وفي الحديث: الوصية بالجار: وقد كثرت فيه الأحاديث، فعن ابن عمر وعائشة -رضي الله عنهما- قالا: قال رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ما زال جبريلُ يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه». متفق عليه.

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن!»، قيل: من يا رَسُول اللَّهِ؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» متفق علَيْهِ.

وفي رواية لمسلم: «لا يدخل الجنة؛ من لا يأمن جارُه بوائِقَه».

وعن عبد اللَّه بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ الأصحاب عند اللَّه -تعالى- خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند اللَّه خيرهم لجاره». رواهُ التِّرْمِذِيُّ.

الإحسان إلى الجار

     فالمرء قليلٌ بنفسه، كثيرٌ بإخوانه وجيرانه، ولذا حرص الإسلام على بثّ روح المحبة والتعاون بين الجيران، ومن مظاهر الإيمان الكامل؛ أن يحب الإنسان لجاره ما يحب لنفسه؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبدٌ حتى يحبَّ لجاره، ما يحب لنفسه» رواه مسلم.

     وأوصت السنة بالإحسان إلى الجار، حتى لو كان غير مسلم، ما دام فردًا يعيش في المجتمع الإسلامي، فالإسلام يريد للمجتمع أن يشمله التكافل ويعمه التراحم، فعن مجاهد قال: كنت عند عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وغلام يسلخ له شاة، فقال: «يا غلام، إذا سلختَ فابدأ بجارنا اليهودي، حتى قال ذلك مرارًا، فقال له: كم تقول هذا؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يوصينا بالجار حتّى خَشِينا أَنَّهُ سيُوَرِّثُه» رواه أبو داود والترمذي.

فأقرب الجيران بابًا أحقُّهم بالإحسان، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: «إلى أقربهما منك بابًا». رواه البخاري.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك