رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 6 أبريل، 2021 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب اليد العليا خير من اليد السفلى

عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رضي الله عنه - قَال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قال: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ؛ بُورِكَ لَهُ فِيه، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ؛ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى»، الحديث الثاني في الباب حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه -، أخرجه مسلم (2/717)، ورواه البخاري (6076) في كتاب الرقاق: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «هذا المال خضرة حلوة».

     وحكيم بن حزام - رضي الله عنه - هو ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قُصي بن كلاب، أبو خالد القُرشي الأسْدي، أسلم يوم الفتح وحَسُن إسلامه، وغزا حُنيناً والطائف، وكان مِنْ أشراف قريش وعقلائها ونبلائها، وكانت خديجة عمته، وكان الزبير ابن عمه، حدث عنه ابناه هشام الصحابي وحزام، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وسعيد بن المسيب، وعروة، وموسى بن طلحة، ويوسف بن ماهك وآخرون.

فقيه النَّفس كبير الشأن

وكان حكيم - رضي الله عنه - علامةً بالنَّسب، فقيه النَّفس كبير الشأن، يبلغ عدد مسنده أربعين حديثاً، له في الصحيحين أربعة أحاديث متفق عليها، قيل: إنه كان إذا اجتهد في يمينه، قال: لا والذي نجاني يوم بدر من القتل. قال إبراهيم بن المنذر: عاش مئة وعشرين سنة، وولد قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنة، وله مزايا وخصائص انفرد بها عن غيره من أصحاب رسول الله، ومن ذلك: أنه عاش ستين سنةً في الجاهلية، وستين سنة في الإسلام، وكان جواداً باذلاً، لم ينفق نفقة في الجاهلية؛ إلا أنفق مثلها في الإسلام، ومات سنة أربع وخمسين - رضي الله عنه -. وقيل: إنه دُخل على حكيم عند الموت، وهو يقول: لا إله إلا الله، قد كنتُ أخشاك، وأنا اليومَ أرجُوك.

إن هذا المالَ خضِرةٌ حلوةٌ

     يقول حكيم: «سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني» يعني: سألته مالاً فأعطاني، ثم سَألته فأعْطاني، ثم سألته فأعطاني»، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: «يا حَكيم، إن هذا المالَ خضِرةٌ حلوةٌ»، قوله «خَضِرَةٌ حلوة» شَبهه في الرغبة فيه، والميل إليه، وحرص النفوس عليه، بالفاكهة الخَضراء الحُلوة المستلذة؛ فإنَّ الأخضر مرغوب فيه على انفراده، والحُلو كذلك على انفراده، فاجتماعهما يكون أشد. وفيه إشارة: إلى عدم بقائه، لأنَّ الخضروات لا تبقى ولا تراد للبقاء. (عبدالباقي).

     فالإنسان يُحب مِن الألوان الشيء الأخضر، ومن الطُّعوم الشيء الحلو، فخضر حلو، يعني: يجد فيه الإنسان بغيته من جهة النظر، ومن جهة الطعم، والتأنيث في «خَضِرَة» للمبالغة، أو باعتبار أنواع المال، أو الصّورة، أو تقديره كالفاكهة الخضرة الحلوة، والمال لا شك أنَّ النُّفوس تُحبه طبعاً وفطرةً، كما قال -تعالى-: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر:20)، وقال -تعالى-: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} العاديات. والخير هو المال، وقال -تعالى-: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} آل عمران: 14، وقال -تعالى- : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الكهف: 7).

قوله: «فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه»

     وفي الرواية الأخرى: «فمنْ أخذه بسَخاوة نفس بورك له فيه» يعني: مَنْ أخذ المال بطيب نفسٍ وسُخاوة، أي: مَن أَخَذ المالَ الذي يُبذَلُ له بغَيرِ إلْحاحٍ في السُّؤالِ، ولا إكراهٍ أو إحراجٍ للمُعطِي؛ كَثُر ماله ونَمَا، وكان رِزْقًا حَلالًا، يَشْعُر بِلَذَّتِه، وأخذه بنيّة إنْفاقه في وجُوه الخير، أي: يأخذه فلا يمسكه ضنَّا به وبُخلا، لكن يُنفقه ويتصدق به، فإنه يُبارك له فيه، والبركة إذا وجدت ولو في الشيء القليل، فإن الله تبارك و-تعالى- ينفع به النفع العظيم، وقد يحصل الإنسان مالاً كثيرًا، لكنه إذا نُزعت منه البركة؛ صار لا قيمة له، بل إن الإنسان إذا سئل عنه، أين هو؟ يقول: ذهب، أين ذهب؟ كيف أنفقته؟ يقول: لا أدري، هو يتعجَّب من هذا المال الكثير أين ذهب؟! ما اشترى شيئًا يراه ذا شأن، فهذا مِنْ نزع البركة، وهذا الذي يعاني منه كثير من الناس اليوم، نسأل الله السلامة.

قوله: «ومن أخذه بإشراف نفسٍ، لم يُبارك له فيه»

أي: مَنْ أخذه بتطلعٍ له، واسْتشراف نفس، وتَطلُّعٍ لِمَا في أيدِي غيرِه، وطمعٍ وحرص وشَره، وهذه قاعدة: من أراد البركة؛ فليأخذ المال بسخاوة نفسٍ، من غير اسْتشراف ولا طلب، هذه كلها قاعدة أساسية في التعاملات مع المال، ومع الناس، فالبركة هي المعتبر.

قوله: «وكان كالذي يأكلُ ولا يشبع»

أي: فسبيله في ذلك سبيل مَنْ يأكل ولا يَجد شبعاً، بسبب سَقمٍ وآفة، فيأكل فيزداد سقماً، فينجع فيه الطعام، وهو الجوع الكاذب، وهو علة من العلل، وما فائدة الأكل حينئذ إذا كان الإنسان يأكل ولا يشبع؟! لا فائدة فيه، وإذا وجدت البركة في الطعام، فإنه قد يأكل القليل ويحصل به الكفاية.

قوله: «واليد العليا خير من اليد السفلى»

     واليد العليا هي المنفقة، والسفلى السائلة. كما روى ذلك ابن عمر عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق، فمهما استطاع الإنسان أن يستغني عن الناس فليفعل؛ في كل شيء، مهما استطعت أن تستغني ولا تحتاج للناس فافعل، وهذا لا شك أنه من أعظم الغنى، وأما الافتقار إلى المخلوقين ففيه نوعُ عبودية لهم، وإنما تكون عبودية الإنسان لله -تعالى-، ومَن أحسنَ إليك أسَرَك، فلا داعِيَ أن تكون أسيراً للمخلوقين.

الطريق إلى البركة

فالطريق إلى البركة بأمور، منها: أن يُؤخذ المال بسخاوة نفس، والقاعدة الأخرى: أن اليد العليا خير من اليد السفلى، بمعنى: أن المعطي أفضل من الآخذ، فاحرص أن تكون أنت المعطي، ولا تكنْ أنت الآخذ، فالإنسان الذي يأخذ من الناس ويطلب منهم، يطلب من هذا، ويطلب من هذا، ومن هذا مساعدة، ومن هذا هبة، ومن هذا صدقة، فالناس يستثقلون هذا جدًّا، ويكرهون من يطلب أموالهم؛ وفي الأثر عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: اسْتغنِ عمَّن شئت تكنْ نظيره، وأحْسن إلى مَنْ شئتَ تكن أميره، واحتجْ إلى مَنْ شئت تكن أسيره، فاحرص دائماً أن تكون أنت صاحب اليد العليا، فهو الخير لك.

لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شيئًا

وفي رواية البخاري: «قال حَكِيمٌ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ؛ لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شيئًا، حتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا» لا أرْزأ يعني: لا أطلب، وأصل: رزأ، أي: نقص، بمعنى أني لا أُنقص أحداً من ماله بالطلب منه، أو الأخذ منه، حتى أفارق الدنيا.

     قال: « فَكانَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - يَدْعُو حَكِيمًا إلى العَطَاءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ منه، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فأبَى أَنْ يَقْبَلَ منه شيئًا، فَقالَ عُمَرُ: إنِّي أُشْهِدُكُمْ يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ علَى حَكِيمٍ؛ أَنِّي أَعْرِضُ عليه حَقَّهُ مِن هذا الفَيْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى تُوُفِّيَ».

     فكان أبو بكر -رضي الله عنه أيام خلافته- يدعو حكيماً ليعطيه العطاء، فيأبى أن يقبل منه شيئاً، مع أن هذا حق له، أنْ يعطيه من بيت المال، من الفيء، كما يعطي غيره من الصحابة، قال: ثم إنَّ عمر - رضي الله عنه - دعاه ليعطيه، فأبى أن يقبله، فقال عمر: يا معشر المسلمين، أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقَّه الذي قسمه الله له في هذا الفيء، فيأبى أنْ يأخذه، قال: «فلم يرزأ حكيمٌ أحداً من الناس بعد النبي حتى توفي». ربما يكون قد خشي أنه إذا قبل وأخذ هذا العطاء، أن نفسه تعود إلى ما كانت عليه من الطلب، وقد قال للنبي: لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً، والله أعلم.

من فوائد الحديث

- جواز إعطاء السائل من المال مرةً ومرتين، وثلاث مرّات وأكثر.

- ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكرم والجود مع أصحابه.

- تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - نفوس أصحابه على التعفّف وترك السؤال، فالكلام الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لحكيم أثّر فيه أيّما تأثير.

- كثرة السؤال بطلب المال، تُذهب ماء الوجه.

- الموعظة والحض على الاستغناء عن الناس بالصبر، والتوكل على الله.

- التعفف عما في أيدي الناس.

- المالُ مِن فِتَنِ الحياةِ الدُّنيا التي يَنْبغي لِلمُؤمِنِ أنْ يَصُونَ نفْسَه عنها وعن الحِرصِ عليه، ويَحترِزَ مِن أنْ يَطلُبَه بغَيرِ ما أحلَّ اللهُ، أو يُنفِقَه في غَيرِ مَرضاتِه.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك