رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 23 يوليو، 2020 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: الصَّدَقة عنْ الأمِّ المَيْتة

 

 


عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَال: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا، ولَمْ تُوصِ، وأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ، تَصَدَّقَتْ، أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْها؟ قَال: «نَعَمْ». الحديث رواه مسلم في الزكاة (2/696) باب: وُصُول ثواب الصَّدقة عن الميت إليه، ورواه البخاري (1388) في الجنائز، باب: موت الفجأة، البغتة.

     قوله: «افتُلِتَت نفسُها» أي: ماتت فجأةً، وأُخِذَت نفسُها فلتةً. «النهاية» لابن الأثير، زووموت الفجأة: وقوعه بغير سببٍ من مرضٍ وغيره، ولا مُقدّمات، وقال ابن المنيّر: لعل البخاري أراد بهذه الترجمة أنَّ مَنْ ماتَ فجأة، فليستدرك ولده منْ أعمالِ البر ما أمْكنه مما يقبل النيابة، كما وقع في حديث الباب.

     قال النووي -رحمه الله-: «وفي هذا الحديث: أنّ الصدقة عن الميت، تنفع الميت، ويصله ثوابها, وهو كذلك بإجماع العلماء, وكذا أجمعوا على وصول الدعاء وقضاء الدين بالنصوص الواردة في الجميع». (شرح مسلم للنووي)، وقد سبق بيان: أنَّ الصَّدقة عن الميّت جائزة، وأنَّ الميتَ ينتفعُ بذلك، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم -رحمهم الله.

أدلة جواز الصدقة على الأم والأموات

ومما يُستدل به على جواز الصَّدقة عن الأم، ونحوها من الأموات:

     حديث أبي هُرَيرَة - رضي الله عنه -: أنَّ رجلًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أبي مات، وترك مالًا، ولم يُوصِ، فهل يكفِّرُ عنه إنْ تصدَّقْتُ عنه؟ فقال: «نعمْ». رواه مسلم (1630)، وحديث عبدِ اللهِ بنِ عبَّاس -رضي الله عنهما-: أنَّ سعدَ بنَ عُبادة تُوفِّيتْ أمُّه وهو غائبٌ عنها، فأتى النبيَّ فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أمِّي تُوفِّيَتْ وأنا غائِبٌ عنها، فهل ينفَعُها إنْ تصدَّقتُ عنها؟ قال: «نعم»، قال: فإنِّي أُشهِدُك أنَّ حائِطي المِخْرافَ، صدقةٌ عنها» رواه البخاري (2756). والمخراف: البستان المُثْمر.

قال ابن قدامة -رحمه الله-: «وأي قُربة فَعَلها, وجعل ثوابها للميت المُسلم, نفعه ذلك, إنْ شاء الله, أما الدُّعاء, والاستغفار, والصدقة, وأداء الواجبات, فلا أعلم فيه خلافا, إذا كانت الواجبات، مما يدخله النِّيابة». (المغني) (2/226).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «الصَّدقة عن الموتى ونحوها، تصلُ إليهم باتفاق المسلمين». (جامع المسائل) (4/270)، وقد نقل الإجماعَ على جوازِ الصَّدَقةِ عن الميِّت، ووصولِ ثَوابِها إليه غيرُ واحدٍ من أهل العلم، منهم: ابنُ عبد البَرِّ، والنوويُّ، وابنُ تيميَّة، وابنُ القيِّم وغيرهم.

وُصول ثَوابِ الصَّدقةِ إلى الميِّتِ

كما أنَّ وُصولَ ثَوابِ الصَّدقةِ إلى الميِّتِ، هو محضُ القياسِ، فإنَّ الثوابَ حقٌّ للعامِلِ، فإذا وهَبَه لأخيه المُسلمِ، لم يُمْنعْ مِن ذلك، كما لم يُمنَعْ مِن هِبَةِ مالِه في حياتِه وإبرائِه له مِن بَعدِ مَوتِه. انظر كتاب: (الروح لابن القيم) (ص: 122).

وأنْ ليسَ للإنْسَان إلا ما سَعَى

     وهذه الأحاديث مُخّصصةٌ لعموم قوله -تعالى-: {وأنْ ليسَ للإنْسَان إلا ما سَعَى} النجم: 39. وأجمع المسلمون على أنه لا يجبُ على الوارث التصدّق عن ميِّته صدقة التطوع، بل هي مستحبة، وأما الحقوق المالية الثابتة على الميت والديون: فإنْ كان له تركة، وَجَب قضاؤها منها، سواءً أوْصَى بها الميت أم لم يُوص، سواء كانت ديوناً الله -تعالى-، كالزكاة والحج، والنذر والكفارة، وبدل الصوم ونحو ذلك، أو دُيوناً للآدميين، فإنْ لم يكنْ للميت تركة لم يلزم الوارث قضاء دينه، لكن يستحب له ولغيره قضاؤه عنه، أما حديث: عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أنه جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنَّ أمي ماتت، وإني أُريد أنْ أتصدَّق عنها، قال: «أَمَرَتْكَ؟»، قال: لا، قال: «فَلَا تَفْعَلْ». رواه أحمد (16904).

     وفي لفظ آخر: عنه - رضي الله عنه - أيضاً: «أن غُلاما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال يا رسول الله: إنَّ أمي ماتت، وتركت حُلياً، أفأتصدق به عنها؟ قال: «أُمُّكَ أَمَرَتْكَ بذلِك؟»، قال: لا، قال: «فَأَمْسِكْ عَلَيْكَ حُلِيَّ أُمِّكَ». رواه أحمد (16984)، وجاء عند الطبراني في (المعجم الكبير) (17/772) نحوه.

رواية ضعَّفها بعض أهل العلم

     فهذه الرواية ضعَّفها بعض أهل العلم، لوجود ابن لهيعة في سند الحديث، فقد قال محققو مسند الإمام أحمد: «إسناده ضعيف، فيه ابن لهيعة، وهو سيئ الحفظ». ورواه من طريق رشدين بن سعد، ورشدين ضعيف سيئ الحفظ، وكان يخلط في الحديث، وله مناكير، وذهب بعض أهل العلم إلى تحسين الحديث، فقال الهيثمي -رحمه الله-: «ورجال الطبراني رجال الصحيح، وفي إسناد أحمد ابن لهيعة». ( مجمع الزوائد ) (3/334)، وقال أيضاً رحمه الله: (رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح).  (مجمع الزوائد) (4/411)، وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-: «قلت: وهذا الحديث، من صحيح حديث ابن لهيعة أيضا، للمتابعات المذكورة». (السلسلة الصحيحة) (6/278).

محمول على حال معينة

     قال العلماء: إذا قيل بصحّة حديث عقبة، فإنه محمولُ على حال معينة، فيقال: لعل السائلَ كان فقيراً، ولهذا أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُمْسك ماله لحاجته لذلك المال. وقيل: لعل الحامل على أمْره بأنْ يُمسك ماله، ما تبادر إلى ذِهن السائل، من أنْ الميت إذا ترك شيئا، فإنّ على وارثه أنْ يتصدَّق به عنه، كما قد يفهم من رواية: «إنَّ أمي ماتت، وتركت حُلياً، أفأتصدق به عنها»، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُبَين له أنّ ذلك ليس بلازم، والله أعلم.

     قال الشيخ الألباني -رحمه الله- معلقاً على حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: «واعلم أن ظاهر الحديث يدلُّ أنه ليس للولد أنْ يتَصَدّق عن أمه إذا لم تُوص، وقد جاءت أحاديث صريحة بخلافه، منها حديث ابن عباس: أنَّ سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، إنَّ أمي توفيت- وأنا غائب عنها- فهل ينفعها إنْ تصدَّقت بشيء عنها؟ قال: نعم. وهو مخرج في (أحكام الجنائز) (ص 172)، و(صحيح أبي داود) (2566)، وفي معناه أحاديث أخرى مذكورة هناك. أقول: فلعل الجمع بينه وبينها، أنْ يُحْمل على أنَّ الرجل السائل كان فقيراً مُحْتاجاً، ولذلك أَمَره بأنْ يمسك ماله.

ويؤيده: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يُجبه على سؤاله: فهل ينفعها إنْ تصدّقت عنها؟ بقوله مثلا: «لا»، وإنَّما قال له: «احْبِسْ عليك مالك»، أي: لحاجته إليه، هذا ما بدا لي، والله أعلم». (السلسلة الصحيحة) (6/278).

موت الفجأة ليس دائما مذموما

     فائدة: موت الفجأة ليس دائما مذموما، أو أنه -كما يُقال- أمارةٌ على سوء الخاتمة،  فالنصوص الشرعيّة من حيث الأصل لا تدلّ على أن الموت السريع دون معالجة السكرات التي يراها الناس في المحتضرين، مذمومة، بحيث يُظن بصاحبها ظنّ السوء، فليس الأمر كذلك، وهذا ما يشير إليه كلام العلماء وله دلائل من الشرع، ومنه ما بوّب به الإمام البخاري هاهنا باباً في صحيحه، وعنونه بـ: ( باب موت الفجأة البغتة) وأورد بعده الحديث.

حال الموت فجأة

     وقال الحافظ بدر الدين العيني: «هذا بابٌ في بيان حال الموت فجأة، ولم يُبيّنه- أي البخاري- اكتفاءً بما في حديث الباب، بأنَّه غير مكروه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يظهر منه كراهيته لمّا أخبره الرجل بأنّ أمه افتلتت نفسها»، وأما حديث عبيد بن خالد السلمي - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «موتُ الفَجْأة، أخذةُ أَسَف». رواه أحمد وأبو داود.

خوف حرمان الوصية

     فقوله: «أخذةُ أَسَف» قد تُفهم بأنها حالةٌ تستوجب الذمّ، فالأسفُ منْ حيث الأصل اللغوي هو: الغَضَب، ومنه قوله -تعالى-: {فلما آسفونا انتقمنا منهم } (الزخرف: 55)، قال ابن بطال: «والأسَف: الغَضَب، ويحتمل أنْ يكون ذلك، والله أعلم، لما في موت الفجأة منْ خوف حرمان الوصية، وترك الإعْداد للمَعاد، والاغترار الكاذبة، والتسويف بالتوبة»، وذكر الحافظ النووي: أنَّ جماعة منْ الأنبياء والصالحين قد ماتوا كذلك بغتةً، ودون إمهال.

راحةٌ للمؤمن وأخذة أسف للفاجر

     وقد ورد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن موت الفجأة؟ فقال: «راحةٌ للمؤمن، وأخذة أسف للفاجر». رواه أحمد. وفيه عبيد الله بن الوليد وهو الوصافي، متروك، وعبد الله ابن عبيد الله بن عمير لم يسمع من عائشة، ولكن الحديث صحّ من طرقٍ أخرى موقوفاً عليها -رضي الله عنها.

وقد ورد أنه يزداد في آخر الزمان، حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ من أمارات الساعة، أنْ يظهر موتُ الفجأة». رواه الطبراني، وحسّنه الألباني.

خَطر عظيم على المتهاونين الغافلين

     فموت الفجأة، بلا مُقدّمات ولا علامات، ولا إمْهال ولا إخطار، فيه خَطر وضرر عظيم على المتهاونين الغافلين، الذين غرّهم طُول الأمل، وغرّهم بالله الغَرور، فنسوا الله واليوم الآخر، فلينتبهْ المسوّفون للتوبة، والمنشغلون بحطام الدنيا ومتاعها، فلا بدّ من المحاسبة الجادة للنفس، والعودة إلى الله -تعالى-، قبل أنْ يفجأهم الموت، ولاتَ حين مندم، قال الله -تعالى-: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (الزمر:56-58).

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك