رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 18 أغسطس، 2020 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: الصّدقة في المساكين وابن السبيل

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ؛ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ؛ قَدْ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ المَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ المَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ، يُحَوِّلُ المَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقال لَه: يا عَبْدَ اللَّهِ، ما اسْمُكَ؟ قَال: فُلَانٌ لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ في السَّحَابَةِ، فَقال لَهُ: يا عَبْدَ اللَّهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنْ اسْمِي؟ فقَال: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ؛ لِاسْمِكَ، فَما تَصْنَعُ فِيها؟ قال: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا؛ فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ. وفي رواية: «وأَجْعَلُ ثُلُثَهُ فِي المَسَاكِينِ، والسَّائِلِينَ، وابْنِ السَّبِيلِ». الحديث رواه مسلم في الزهد والرقائق (4/2288) باب: الصَّدقة في المساكين.

     قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنا رَجُلٌ بفَلاةٍ من الأرضِ» أي: بَيْنَما هو يمشي في صَحْراءَ من الأرض، قوله: «فسَمِع صوتًا في سَحابةٍ» أي: سَمِع صَوتًا فوقه، لا يُرى مَنْ يَقولُهُ في السَّحابِ، وكأنَّهُ يَأمُرُ السَّحابَةَ، فيَقولُ لها: «اسْقِ حَديقةَ فُلانٍ»، والحَديقةُ: هي الأَرْضُ ذاتُ الشَّجَرِ والزرع والنَّخْلِ ونحوه، فتعجّب الرّجل لما سمعه، فالأرض خالية من البشرّ، ولمّا أدرك أن الصوت صادرٌ من السحابة التي تعلوه، ازداد عجباً وإصراراً على استكشاف الأمر.

 

قوله: «فتَنحَّى ذَلِك السَّحابُ»

     أي: اتَّجَهَ السحاب وتحرّك إلى ذلك المكانِ الذي سُمِّيَ لَهُ صَاحبُهُ، وقَصده، وقوله: «فأَفْرَغَ ماءَهُ في حَرَّةٍ» أي: فأَمْطَرَ ما فيه مِن ماءٍ في حَرَّةٍ، وهي أَرْضٌ ذات حِجارةٌ سوداءُ، كأنَّها أُحْرِقَتْ بالنَّارِ، وهي الحجارة البركانية، وقوله: «فإذا شَرْجَةٌ مِن تِلْك الشِّراجِ» أي: الشّرجة هي فَتْحةٌ مِن فَتَحاتِ مَسيلِ الماءِ في الحرّة، وجمعها: شراج. «قَدِ اسْتَوعَبَتْ ذَلِك الماءَ كلَّهُ»، أي: امْتلأتْ بذَلِك الماءِ.

 

قوله: «فَتَتبَّعَ الرَّجُلُ الماءَ»

     أي: تَتَبَّعَ الرجل الذي سَمِع الصوت في السحاب؛ سَيلانَ الماءِ مِن الشَّرْجَةِ، إلى أَين يَذْهَبُ، وقوله: «فإذا رَجُلٌ قائمٌ في حَديقتِهِ يُحوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ» أي: حتى وصل إلى فلاحٌ قائم، يوزّع الماء الَّذي يَأْتِيهِ مِن تِلْك الشَّرْجَةِ، ويُحوِّلُهُ إلى أَرْضِهِ بمسحاته التي يجرف بها التراب والطين؛ ليَسْقيَها.

     قوله: «فَقالَ له الرَّجُلُ الَّذي سَمِعَ الصَّوتَ في السَّحابَةِ: «يا عبدَ اللهِ، ما اسْمُكَ؟» قوله: يا عبدالله، ثم سأله عنْ اسمه؛ لأنّ جميعَ الخَلق هم عباد الله. فقال له صاحِبُ الحَدِيقَةِ: «فلانٌ- للاسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحَابَةِ-» فلما أبلغه باسمه، كان ذات الاسم الذي سمعه في السحاب، أي: تَأكَّدَ أنَّهُ الشَّخْصُ المَقْصودُ الذي سَمِعَ اسْمَهُ في السَّحابِ، فَقالَ له صاحِبُ الحَدِيقَةِ: «يا عبدَ اللهِ، لِمَ تَسْألُنِي عن اسْمِي؟» فقالَ الرَّجُلُ: «إنِّي سَمِعتُ صوتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ؛ يَقولُ: اسْقِ حَديقةَ فُلانٍ، لاسْمِكَ»، أي: فأَخْبَرَهُ قِصَّةَ الصَّوتِ الذي سَمِعَهُ في السَّحابِ، وأنَّه تَتَبَّعَ الماءَ لِيَعْرِفَ أَيْنَ يَذْهَبُ، فَوَجَدهُ يُحوِّلُهُ بمسحاته إلى حَديقَتِهِ، ثم بيّن له شوقه لمعرفة سرّ هذه العناية الرّبانيّة التي حظي بها؛ فقال له: «فما تَصْنَعُ فيها؟» أي: ماذا تَصْنَعُ في مَحْصولِها وثَمَرِها؟ أو ماذا تَفْعَلُ مِن أعمالٍ صالحةٍ؛ كانت السَّببَ فيما سَمِعتُهُ في السَّحابِ من العناية بك؟

     فقال صَاحِبُ الحَديقَةِ: «أَمَا إذْ قُلْتَ هذا، فإنِّي أَنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ منها، فأَتصدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ»، أي: إنَّ صاحِبَ الحَديقَةِ يُراعِي الحُقوقَ في ثَمَرِ حَديقَتِهِ، فيُخْرِجُ منها حَقَّ الفقراءِ والمساكينِ وابن السبيل ثُلُثًا، ويأكلُ هو وأولادُه ثُلُثَا، ويَرُدُّ الثُّلثَ الأخيرَ في الحَديقَةِ بُذورًا وغيره؛ لِيَتجدَّدَ الزَّرعُ والمَحْصولُ، ويستمر عطاؤها وثمرها.

فوائد الحديث

وفي الحَديثِ من الفوائد منها ما يلي:

- إخبِارُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحَديثِ عن قِصَّةِ رَجُلٍ يتَّقي اللهَ في مالِهِ، ويَعرِفُ الحُقوقَ التي عليه لله -تعالى- وللناس فيُؤدِّيها، وكيف أنَّ اللهَ يُجازي بالإحسانِ إحسانًا.

- وفيه: الحثُّ على حِفْظِ الحُقوقِ في الأموالِ، وإخْراجِ زَكاتِها، والتَّنفُّلِ مِنْها بالصَّدَقاتِ.

- وفيه فضل النفقة على الأهل من الصدقة؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنْفقَ الرجُل على نفْسِه وأهله وولده وخادمه؛ فهو صَدَقة». رواه ابن ماجة (2138) وصححه الألباني.

- وفيه: أنَّ الإنفاق وسيلةٌ لنماء المال وزيادته، وحلول البركة فيه، كحال من يبذر الحبّة في الأرض، سرعان ما تنمو وتكبر، فتُنْبت سبع سنابل يانعة، في كل سُنبلة مائة حبة، والله يُضاعف لمَنْ يشاء، والله واسعٌ عليم، كما قال -سبحانه-: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:261).

- وفيه: لطف الله -تعالى- بأوليائه الصالحين، وعباده المتقين، السبَّاقين إلى الخَيْرات، بصرف البلاء عنهم، والتوسعة عليهم بالأرْزاق، وسوق الخيرات إليهم؛ من حيث لا يحتسبون، وتوفيق الله ونعمته عليهم، ومَنْ كان في كنف الإله ورعايته؛ فأنّى له أنْ يضيع؟! وإذا كان هذا الرّجل الصالح قد نال من خير تلك السحابة وبركاتها، فتلك عاجل بُشْراه في الدنيا، وأما في الآخرة؛ فما أعدّه الله له من ألوان الكرامة والثواب أعظم وأعظم.

وقوع الكرامات للصالحين

- وفى هذا الحديث: دليلٌ على صحّة القول بوقوع الكرامات للصالحين، لصلحاء هذه الأمة، والأمم قبلها؛ وهو أمرٌ ثابت شرعاً في الكتاب والسنة، لا شك فيه، وهو مِنْ تثبيت الله لعبده المُؤمن، ومنْ عاجل مثوبته له، أو دفاعه عنه، قال الطحاوي رحمه الله في «عقيدته»: «ونُؤمن بما جاءَ منْ كراماتهم، وصحَّ عن الثَّقات من رواياتهم» انتهى، لكن لا بدَّ مِنَ الحذر من التوسع في هذا الأمر، وعدم إثبات الكرامة إلا ببرهان واضح، ودليلٍ صحيح، وهي لأهل الإيمان والصلاح والاستقامة، فإنه قد يقع لبعض أهل الضلال منْ خوارق العادات، بسبب السّحر والشعوذة والتلبيس، مما يظنه الجاهل أنه منَ الكرامات، وإنما هو من تلبيس الشياطين.

كرامات الأولياء حقٌّ

     قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «كرامات الأولياء حقٌّ باتفاق أئمة أهل الإسلام والسُّنة والجماعة، وقد دل عليها القرآن في غير موضع، والأحاديث الصحيحة والآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين وغيرهم، وإنما أنكرها أهل البدع من المعتزلة والجهمية ومن تابعهم، لكن كثيرا ممن يدعيها أو تدعى له يكون كذابا أو ملبوسا عليه». (مختصر الفتاوى المصرية ( (2 /63).

ما نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ

- وفيه: دفع ما يظنّه الناس، منْ أنَّ الصَّدقات سببٌ في نقْص الأموال، وهو ما قد يبدو للناظرين إلى ظواهر الأُمور، وأنَّ يد الخير المَمْدوة إلى الفقراء والمساكين، ما هي إلا صُورة منْ تبديد الثروات، وتضييع المدّخرات، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ردّاً على ذلك: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ..». أخرجه مسلم، وقوله في الحديث القدسيّ: «يا بن آدم، أَنْفِق أُنْفِق عليك» متفق عليه، وقال -تعالى-: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: 39). فدلَّ ذلك على أنّ الزكاة والصدقة ليست سبباً لنقص المال وقلّته، بل هي سبب لتكثيره ونمائه، والبركة فيه، إذا كانت بطيبِ نفسٍ ورضا، واحْتساب للأجر والثواب، وحديث الباب شاهد صدقٍ على ذلك، في هذا المزارع الصالح، الذي تحلّى بصفات الكرم والسّخاء.

فضل الصَّدقة

- وفي الحديث فضل الصَّدقة وقَدْرها عند الله -سبحانه وتعالى-، لكونها صُورةً من صور التكافل الإنسانيّ، والشعور بالواجب، والإحساس بالمسؤولية نحو الآخرين، مما يزيد من لُحمة المجتمع وتماسكه.

قيمة العمل ومكانته

     وفي القصّة أيضاً: الإشارة إلى قيمة العمل ومكانته عند المسلم، وأنَّ الولي من أولياء الله؛ قد يكون له مالٌ وضيعة، ولا يُناقض ذلك الولاية، فهذا الرّجل لم يعْتزل الدنيا أو يتركها بالكلية، ولكنّه جدّ واجْتهد، وبذل الأسْباب، وسعى وراء الرّزق، ثم تصدّق بماله، وهذا هو حال الأمّة المسلمة العاملة، تبني وتشيد، وتَزْرع وتَحصد، وتجد وتسعى، حتى تنال مكانتها بين الأمم، وهو ما حثّ عليه الشرع، فقد قال الله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15).

نعمة الله على خلقه

     فذكر -تعالى- نعمته على خَلْقه في تسخيره لهم الأرض، وتذليله إياها لهم، وهيَّأها بما فيها من المنافع، ومواضع الزروع والثمار، فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها، في أنواع المكاسب والتجارات... (ابن كثير)، وقال -تعالى-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 10)، وعن أَبِي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا، فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ». متفق عليه، وعن المقدام - رضي الله عنه -: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أكلَ أحدٌ طعاماً قطّ، خيراً منْ أنْ يأكلَ من عمل يده، وإنَّ نبيَّ الله داود عليه السلام، كان يأكلُ منْ عَمَل يدِه». رواه أحمد.

الاستكثار من الدنيا

     وأما المنهي عنه؛ فهو مَنْ اتخذ الدنيا مُسْتكثراً منها، ومتتبعاً ومتمتعا بزهرتها، فهو مَنْ يُخاف عليه من الميل إلى الدنيا، والرُّكون إليها، كما في حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ألا إنَّ الدنيا مَلعونةٌ، ملعونٌ ما فيها إلا ذكرَ الله -تعالى-، وما وَالاه، وعَالماً ومُتعلّما». رواه الترمذي، وكما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: {لا تتَّخذُوا الضَّيعةَ، فتَرْكنُوا إلى الدنيا} رواه الترمذي، والمقصود بالضَّيعة: ما يتَّخذه الإنسان منْ عقارٍ أو مزرعة ونحو ذلك، مما يشغله عن الله -تعالى- وذكره، والعمل الصالح، ويشتغل بحطامها، ويطول أمله في هذه الحياة، وإلا فالأنصار كانت لهم مزارع، وقد شاركهم المهاجرون حينما هاجروا إليهم، شاركوهم في هذه الأراضي التي كانوا يستصلحونها للزراعة، ولكن المقْصود ألا يَخْلد الإنسان إلى الأرض، وينصرف عن العمل للآخرة، هذا هو المقصود، وتجمع النصوص مع بعضها لأجل أنْ يفهم المراد، فالإسلام ينهى أتباعه عن الاشتغال بالدنيا والإغراق فيها، والتكالب عليها على حساب الآخرة، وأما مَنْ اتخذها معاشاً يصون بها نفسه عنْ ذلّ السؤال، ويحفظ دينه وعياله، وينفق نمنها ويتصدق، فاتخاذها بهذه النيّة من أفضل الأعمال، وهي منْ أفضل الأموال.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك