رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 16 ديسمبر، 2020 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: التَّسْبيح والتَّهْليل وأعْمال البر صدقة

 

545.عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه -: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، ويَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَال: « أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ما تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، ونَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ، ويَكُونُ لَهُ فِيها أَجْرٌ؟ قال: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ، كَانَ لَهُ أَجْرًا».

الشرح:

الحديث رواه مسلم في الباب السابق.

وهذا الحديث حديثٌ عظيم، ونفعه عميم، لاشتماله على قواعد نفيسة من قواعد الدّين، إذْ يُبَيّن أنَّ الطاعات في الإسلام، ليست قاصرة على بعض العبادات، بل تشمل كلَّ خير وبرّ.

قوله: «أن ناسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، هم فقراء المهاجرين، كما بينه في رواية البخاري، من حديث أبي هريرة.

قوله: «ذهب أهل الدُثور»  الدُّثور: جَمع دثر، وهو المال الكثير، أي: هم الأغنياء أصحاب الأموال.

قوله: «قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، ذَهَبَ أهلُ الدُّثور بالأُجُور» أي: سار ومضى أصْحاب الأموال الكثيرة، بالأجور الزائدة على أُجُورنا.

      قوله: «يُصلون كما نصلي، ويصومون كما نَصُوم، ويتصدقون بفُضُول أموالهم» أي: بأموالهم الفاضلة عن حاجاتهم، وقيدوا بذلك بيانًا لفضل الصدقة، فإنها بغير الفاضل عن الكفاية مكروهة، بل قد تحرم، لحديث: «كفى بالمرء إثمًا أنْ يضيع من يعول» رواه مسلم.

ولفظ البخاري في الدعوات: «وأنفقوا منْ فُضُول أموالهم، وليس لنا أموال».

وفي رواية لمسلم في الصلاة: «ويتَصدَّقون ولا نَتَصدَّق، ويُعتِقونَ ولا نُعْتق»، وقولهم هذا ليس حسدًا، بل هو غبطة، وتحسر على ما يفوتهم من ثواب الصدقات، وعتق الرقاب، والمبرات التي لا يقدرون عليها، لشدة حرصهم على الأعمال الصالحة.

حرص فقراء الصحابة على الخير

     ففيه حرص فقراء الصحابة -رضي الله عنهم- على الاستكثار من فعل الخيرات، والتنافس والتسابق مع الأغنياء في الصالحات، حيث وجدوا في نفوسهم وحزنوا على أن الأغنياء جمعوا بين التطوع بالبدن والتطوع بالمال، وهم عاجزون عن المشاركة في باب الصدقة، وهذا يدل على قوة رغبتهم في الخير، وقد ذكر الله حزن فقراء الصحابة -رضي الله عنهم- على عجزهم عن الخروج في سبيل الله والجهاد مع رسول الله، لقلَّة ما في أيديهم، قال -تعالى-: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}.

     وهذا حزن محمود شرعاً، فالمؤمن حقاً: من يحزن على تقصيره في الطاعة، أو عجزه عن الاستكثار من الصالحات، لأن قلبه مهتم بأمر الآخرة، وتحصيل رضا الله، ولا يكترث كثيرا لأمر الدنيا، ولا يحزن لفقدها، لأن قلبه غير مهتم بها، وأما الغافل فيحزن لفوات الدنيا وعجزه عن الاستكثار منها، ولا يحزن لفوات أمر الدين، والتقصير في عمل الآخرة، لأن قلبه مفتون بحب الدنيا.

فضيلة التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل

     قوله: «قال» جوابًا لهم وجبراً لخاطرهم، «أو ليس» أي: لا تقولوا ذلك، فإنه «قد جعل الله لكم ما تَصَدقون» أي: تتصدقون به، «إن لكم بكل تسبيحةٍ» أي: قول: سبحان الله، «صدقةً، وكل تكبيرةٍ» أي: قول: الله أكبر «صدقةً، وكل تحميدةٍ»، أي: قول: الحمد لله «صدقةً، وكل تهليلةٍ»، أي: قول: لا إله إلا الله «صدقةً»، أي: كأجر الصدقة. «وأمرٍ بالمعروف صدقةً» أي: إذا أمر شخصًا أنْ يفعل طاعة قصّر فيها، فهذه صدقة.»ونهيٍ عن منكرٍ صدقةً» أي: إذا نَهى شَخصًا عن منكر يفعله، فإنَّ ذلك صدقة.

     قوله: «وفي بُضْعِ أحدكم صدقةً» وهو بضم الباء، ويطلق على الجِماع، وعلى الفَرْج نفسه، وكلاهما يصح إرادته ها هنا، وأن المباحات تصير بالنيِّات طاعات، فالجماع يكون عبادة إذا نوى الإنْسان إعْفَاف نفسه وزوجته، وقضاء حقّ الزوجة، ومعاشرتها بالمعروف، أو طلب ولد صالح، أو غيره منْ المقاصد الصالحة.

1- وفيه: أنَّ الصَّدقة لا تختصُّ بالمال، بل ربَّما تكون بغيره أفْضل، كالذِّكر بأنواعه، وتعليم العلم الشرعي والقرآن الكريم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فليست محصورة في بذل المال، بل هي عامة في كل معروف، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب السابق: «كلُّ معروفٍ صدقة».

     فجميع المعروف والإحسان يعتبر في الشرع صدقة، وقد تكاثرت النصوص في الشرع بهذا المعنى، فالذكر باللسان صدقة، والتبسم في وجه المسلم صدقة، وبذل المعروف للغير صدقة، والأمر بالمعروف صدقة والنهي عن المنكر صدقة، وإرشاد الضائع صدقة، وكف الأذى عن المسلمين صدقة، وإعانة الأخرق صدقة، وإزالة الأذى من الطريق صدقة، وتعليم العلم النافع صدقة، وإقراء القرآن صدقة، والشفاعة للمسلمين صدقة، والسعي في قضاء حوائجهم صدقة، والنفقة على الأهل صدقة، وإطعام الحيوان صدقة، وفي صحيح ابن حبان: من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليسَ مِنْ نفسِ ابن آدم، إلا عليها صدقة في كل يوم طلعتْ فيه الشمس» قيل: يا رسول الله، ومنْ أين لنا صدقةً نتصدَّق بها؟ قال: «إنَّ أبواب الجنة لكثيرة، التسبيح والتكبير والتحميد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتُميط الأذى عن الطريق، وتُسمع الأصم، وتهدي الأعمى، وتدل المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كلُّه صدقة منك على نفسك». وفي الصحيحين: «تَكفُّ شركَ عنِ الناس، فإنها صدقة».

والصدقة بغير المال نوعان:

- الأول: صدقة قاصرة، وهي الاشتغال بذكر الله، من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير، ومشي إلى المساجد.

- الثاني: صدقة متعدِّية النفع، بالإحْسان إلى المسلمين بجميع صور البر الحسية والمعنوية، وأعْظمها أجراً تعليم الخَلق دين الله -عز وجل-، وتبصيرهم في أحكام الشرع، وإنقاذهم من الهلاك.

2- وفيه: فضل التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل، وكذا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأنَّها تعدل إنفاق الأموال.

3- وفيه: الحثّ على استحْضار النَّيّة الصالحة في الأُمور المُباحة، وأنَّ الأمر المباح يمكن أنْ يكونَ طاعةً وعبادة وقُربة، بالنية الصالحة الصادقة، كجماع الرجل أهلَه، بنية التعفف، وتناوله طعامه، ونومه، بنية التقوّي على الطاعات.

4- فيه: جواز القياس في الأحْكام الشرعية، وهو من مصادر التشريع الثابتة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وأما القياس المذموم: فهو الذي يتعارض مع النص، لأنه لا اجتهاد مع النص، أو يفقد أحد أركانه.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: «وفيه جواز القياس، وهو مذهب العلماء، ولم يخالف فيه إلا أهل الظَّاهر» اهـ.

5- وفي حديث أبي هريرة: قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: سَمِع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء».

تفضيل بعض العباد

6- وفيه دليل على أنَّ الله قد يفضل بعض عباده في باب العبادات والقرب، ويفتح له أبوابا من الخير أكثر من غيره، فقد يجمع بعض الناس بين التقرب بالمال والتقرب بالبدن، وبين التقرّب بطلب العلم والتعليم، فالله يفضل من يشاء من عباده لحِكمٍ يعلمها، ولا ينبغي لأحد أن يعترض على اختيار الله -تعالى-، ولكن المؤمن يسابق بالخيرات ويتنافس مع إخوانه المؤمنين في عمل الآخرة، ويجتهد على حسب قدرته ويجاهد نفسه، ويحب الخير للمسلمين، ويفرح بتوفيقهم وهدايتهم.

     وقد فتح الله -تعالى- على أقوام منْ أبواب الخير في القديم والحديث، ما لم يفتحه على غيرهم، قال الحسن بن عيسى بن ماسرجس مولى ابن المبارك: اجتمع جماعة مثل الفضل بن موسى، ومخلد بن الحسين، فقالوا: تعالوا نَعُدُّ خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفَصاحة، والشعر، وقيام الليل والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه.

إرشاد النبي - صلى الله عليه وسلم- لفقراء الصحابة

7- أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقراء الصحابة إلى الأذْكار عموماً، ومنها: الأذكار عقب الصلوات، بعد الفراغ من الفريضة، فهي من أفضل أنواع الأذكار.

وأن الذاكر لربه يبلغ منزلة المتصدق بماله، بل قد ورد في الحديث ما يدل على أن الصَّدقة بالذكر، أفضل من الصدقة بالمال، كما في حديث أبي الدرداء: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أنبئكم بخيرِ أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٍ لكم منْ إنفاق الذهب والفضة، وخيرٍ لكم منْ أنْ تَلْقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟». قالوا: بلى يا رسول الله. قال:» ذِكْر الله -عز وجل».

وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -َ: «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا قَطُّ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ « مسند الإمام أحمد.

 -وفي الصحيحين: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير،في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حِرْزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك».

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك