رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 3 فبراير، 2021 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: التَّعَفَّف والصَّبر

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ، سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، قَال: «مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ؛ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، ومَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ»، الحديث رواه مسلم في الزكاة (2/727) باب: فضل التعفف والصبر، ورواه البخاري في الزكاة (1469) باب: الاستعفاف عن المسألة، فهو متفق على صحته .

قَوْله: «أَنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ» لم يَذْكر أسْماءهم، وفي رواية للنسائي: أن أبا سعيد خوطب بشيء من الحديث، وقَوْله: «حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ» نفد أي فرغ. «فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ» أي: لنْ أحْبسه وأخبؤه عنكم، وأمنعكم إياه.

مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ

     وقوله: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ» أي: يترك سُؤال الناس، قال القُرْطُبِيّ: «مَنْ يَسْتَعِفّف» أَي: يَمْتَنِع عَنْ السُّؤَال، «يُعِفَّهُ اللَّه» أَيْ: إِنَّهُ يُجَازِيه على اِسْتِعْفَافه بِصِيَانَةِ وَجْهِهِ وَدَفْع فَاقَته»، وقَال اِبن التِّين: «معْنَى قَوْله: «يُعِفَّهُ اللَّه» إِمَّا أَنْ يَرْزُقهُ مِنْ المَال ما يَسْتَغْنِي به عن السُّؤَال, وإِمَّا أَنْ يَرْزُقهُ القَنَاعَة»، الفتح:11/304-305، وقال القاري في (المرقاة) (4/1311): «وَمَنْ يَسْتَغْنِ» أَيْ: يُظْهِرْ الْغِنَى بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَالتَّعَفُّفِ عَنِ السُّؤَالِ، حَتَّى يَحْسَبَهُ الْجَاهِلُ غَنِيًّا مِنَ التَّعَفُّفِ «يُغْنِهِ اللَّهُ» أَيْ: يَجْعَلْهُ غَنِيًّا، أَيْ بِالْقَلْبِ، وقال الطِّيبِيُّ: أَوْ يَطْلُبِ الْعِفَّةَ مِنَ اللَّهِ تَعالى «يُعِفَّهُ اللَّهُ» أَي: يَجْعَلْهُ عَفِيفًا، مِنَ الْإِعْفَافِ، وَهُوَ إِعْطَاءُ الْعِفَّة، وَهِيَ الْحِفْظُ عَنِ الْمَنَاهِي، يَعْنِي: مَنْ قَنِعَ بِأَدْنَى قُوتٍ، وتَرَكَ السُّؤَال: تَسْهُلُ عَلَيْهِ الْقَنَاعَةُ، وَهِيَ كَنْزٌ لَا يَفْنَى» انتهى .

من لم يستعفف يهلك

     وقال الشيخ ابن عثيمين: «فمنْ يستعفّ عما حرَّم الله عليه من النساء: يعفه الله -عز وجل-، والإنسان الذي يتبع نفسه هواها فيما يتعلق بالعفَّة، فإنه يهلك والعياذ بالله؛ لأنه إذا أتْبع نفسَه هواها، وصار يتتبع النساء؛ فإنه يهلك، تزني العين، تزني الأذن، تزني اليد، تزني الرجلين، ثم يزني الفرج؛ وهو الفاحشة والعياذ بالله، فإذا استعفَّ الإنسان عن هذا المحرم: أعفَّه الله -عز وجل-، وحماه، وحمي أهله أيضاً». (شرح رياض الصالحين 1/ 196).

الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى

     وعن حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَلْيَبْدَأْ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ» فقُلتُ: ومِنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «ومِنِّي» قَال حكِيمٌ: قُلْتُ: لَا تَكُونُ يَدِي تَحْتَ يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ أَبَدًا». رواه الإمام أحمد (15578) بسند صحيح، قال السندي -رحمه الله-: «قوله: فقلت: ومنك، أي: لا ينبغي السؤال، وإن سأل منك». (حاشية المسند24/ 344).

ومَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ

     قَوْله: «ومَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ» قال القُرْطُبِي: «ومَنْ يَتَصَبَّرْ» أَيْ: يُعَالِج نَفْسه على تَرْك السُّؤَال، ويَصْبِر إِلى أَنْ يَحْصُل لَهُ الرِّزْق «يُصَبِّرهُ اللَّه» أَيْ: فَإِنَّهُ يُقَوِّيه ويُمَكِّنهُ مِنْ نَفْسه، حَتَّى تَنْقَاد لَهُ، ويُذْعِن لِتَحَمُّلِ الشِّدَّة, فعِنْد ذلِك يَكُون اللَّه معه فَيُظْفِرهُ بِمَطْلُوبِهِ». (الفتح 11/304).

الصَّبْرُ خَيْر الْعَطَاءِ

     وقال اِبن الجَوْزِيّ -رحمه الله-: «لَمَّا كَانَ التَّعَفُّفُ يَقْتَضِي سَتْرَ الْحَالِ عَنِ الْخَلْقِ، وإِظْهَارِ الغِنَى عنهُم، فيَكُونُ صَاحِبُهُ مُعَامِلًا لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ، فَيَقَعُ لَهُ الرِّبْحُ على قَدْرِ الصِّدْقِ فِي ذَلِك، وإِنَّما جُعِلَ الصَّبْرُ خَيْرَ الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّهُ حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ فِعْلِ ما تُحِبُّهُ، وإِلْزَامُهَا بِفِعْلِ مَا تَكْرَهُ فِي الْعَاجِلِ مِمَّا لَوْ فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ، لَتَأَذَّى بِهِ فِي الْآجِلِ». (الفتح 11/304).

مَقَام الصَّبْرِ أَعْلى المَقَامَاتِ

     قوله: «وما أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاء خَيْرًا وَأَوْسَع مِنْ الصَّبْر» أي: ما منَّ الله على أحدٍ بعطاء من رزق، أو غيره خيرًا وأوسع من الصبر؛ لأن الإنسان إذا كان صبورًا تحمَّل كل شيء، إنْ أصابته الضراء صبر، وإنْ عرضَ له الشيطان بفعل المحرم صبَر عنه، فهو صابر على كل ما ابتلاه الله به، قال القاري: «وذلِكَ لِأَنَّ مَقَامَ الصَّبْرِ أَعْلى المَقَامَاتِ؛ لِأَنَّهُ جامِعٌ لِمَكَارِمِ الصِّفَاتِ والحَالَات، ومعْنَى كَوْنِهِ أَوْسَعَ: أَنَّهُ تَتَّسِعُ بِهِ المَعَارِفُ، والمَشَاهِدُ، والأَعْمَالُ، والْمَقَاصِد» . (مرقاة المفاتيح 4/1311).

أرفع الصَّابرين منزلةً عند الله

     وقال ابن بطال: «أرفع الصَّابرين منزلةً عند الله: مَنْ صَبر عنْ محارم الله، وصَبر على العمل بطاعة الله، ومَنْ فعل ذلك فهو من خالصِ عباد الله وصفوته، ألا ترى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لنْ تُعطوا عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر» . (شرح صحيح البخاري10/ 182)

من فوائد الحديث

- من فوائد الحديث أن ما كان عليه الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام- مِنْ الخُلُق والكرم، وأنّه لا يُسأل شيئًا يجده إلا أعطاه، وما عُهِد عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - مَنَع سائلًا، بل كان يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر، ويعيش في بيته عيش الفقراء، وربما رَبَط على بطنه الحَجَر من الجوع، فهو -عليه الصلاة والسلام- أكرم الناس، وأصبر الناس على الفقر.

     ففي الحديث أنَّه لما نفِد ما في يده، أخبرهم أنّه ما مِنْ خيرٍ يكون عنده، فلن يدَّخره عنهم، ولا يمنعهم إياه، ولكن ليس عنده شيء، وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: «في الحَدِيث الحَضّ على الِاسْتِغْنَاء عن النَّاس، والتَّعَفُّف عن سُؤَالهمْ بِالصَّبْرِ، والتَّوَكُّل على اللَّه، وانْتِظَار ما يَرْزُقهُ اللَّه، وأَنَّ الصَّبْر أَفْضَل ما يُعْطَاهُ المَرْء لِكَوْنِ الجَزَاء عليه غَيْر مُقَدَّر ولَا مَحْدُود».

- وفي الحديث الحث على التعفف والقناعة قال النووي -رحمه الله-: «في هَذا الحدِيثِ: الحَثُّ على التَّعَفُّفِ والقَنَاعَة، والرِّضَا بِما تَيَسَّرَ فِي عَفَافٍ، وإِنْ كَانَ قَلِيلًا». (شرح مسلم 7/ 126).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك