رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 16 فبراير، 2021 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: التّعَفّف عن المسألة

 

عَنْ مُعَاوِيَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا؛ فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا، وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ؛ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ». الحديث رواه مسلم في الزكاة (2/718) باب: النَّهي عن المَسألة.

قوله: «لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ»

     الإلْحاف هو الإلْحاح. أي: لا تُلحُّوا وتُبالغوا في المَسألة، وقوله: «لا تلحفوا في المسألة» هذا التركيب يدل على العموم، الفعل المضارع المسبوق بالنهي، لا تلحفوا فهو نهي عام عن الإلحاف، والإلحاف معناه الإلحاح، وقيل له: إلحاف، كأنه من اللحاف الذي يشتمل عليه الإنسان؛ بحيث إنّه يغطيه بأبعاضه، فهذا الذي يلحف في المسألة، يسأل بوجوهٍ مختلفة من أجل أنْ يستخرج ما في أيدي الناس.

     وقد أخذ منه بعض أهل العلم: أنّ ذلك يشمل أيضاً كل ما يستخرج به الإنسان ما في أيدي الناس، وكذا مثله وأشدُّ منه: ما يتحصَّل به الإنسان منْ أشياء بطرائق لا تحلُّ له، كأنْ يزور بعض الأوراق، أو يُغير اسمه أو ينتسب إلى غير أبيه، من أجل أن يحصِّل على مالا يحق له بذلك؛ ونحوه مَنْ يدّعي بأنَّه فقير، أو محتاج، ويسأل الناس ويذكر لهم أشياء غير حقيقية، وهو لا يستحق هذا أصلاً، أو يحتال بوسائل مختلفة من أجل أن يحصِّل قطعة أرض، أو يأتي بشهادات غير حقيقية أو مزورة لذلك، أو نحو ذلك هو داخل فيه، لا يبارك له فيما أخذه، قلَّ أو كثر.

قوله: «فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا»

     قوله: «فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا؛ فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا، وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ؛ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ» أي: فإنَّ هذا الإلحاح يزيل البركة من الشيء المُعْطى لك، ثم أقسم - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لا يَسأله أحدٌ بالإلحاف شيئا، فتخرج مسألته شيئاً وهو كارهٌ لذلك الشيء، يعني كارهٌ لإعْطائه أو لذلك الإخْراج؛ فيُبارك له، أي: فلنْ يبارك له فيما أعطيته، وقد ذكرنا فيما سبق: أنَّ العبرة ليست فيما يصل إلى يد الإنسان وكثرته، إنّما العبرة في البَركة، فقد يصلُ للإنسان الأموال الطائلة والملايين، ولكنها تذهب وتطير من بين يديه، ولا ينتفع بها، وقد ينتفع ببضع مئات، أو بضعة ألوف انتفاعًا كبيرًا، فالمعول إذن إنما هو على البركة.

     وقد ذكر الله تعالى الإلحَاف في كتابه، في قوله -عز وجل-: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 273)، وللعلامة القرطبي في تفسيره لهذه الآية، مباحث جميلة، ننقل منها ما تيسر، قال: «وفيها عشر مسائل:

المسألة الأولى

     قوله -تعالى-: {لِلْفُقَرَاء} اللام متعلقة بقوله {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} وقيل: بمحذوف تقديره الإنفاق، أو الصدقة للفقراء، قال السدي ومجاهد وغيرهما: المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة «الفقراء» غابر الدهر، وإنما خصّ فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم وهم أهل الصفة وكانوا نحوا من أربعمائة رجل، وذلك أنهم كانوا يقدمون فقراء على رسول الله، وما لهم أهل ولا مال فبنيت لهم صفة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل لهم: أهل الصفة. قال أبو ذر: كنت من أهل الصفة، وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأمر كل رجل فينصرف برجل ويبقى من بقي من أهل الصفة عشرة أو أقل فيؤتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشائه ونتعشى معه، فإذا فرغنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ناموا في المسجد».

     ثم بيَّن الله -سبحانه- من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم بقوله -تعالى-: {الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والمعنى: حُبسوا ومنعوا. قال قتادة وابن زيد: معنى {أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} حَبَسوا أنفسهم عن التصرف في معايشهم؛ خوف العدو، ولهذا قال -تعالى-: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} لكون البلاد كلها كفرا مُطبقا، وهذا في صدر الإسلام، فعلَّتهم تَمنع من الاكتساب بالجهاد، وإنكار الكفَّار عليهم إسْلامهم يمنع من التصرف في التجارة فبقوا فقراء، وقيل: معنى {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} أي: لما قد ألزموا أنفسهم من الجهاد، والأول أظهر. والله أعلم.

المسألة الثانية

     قوله -تعالى-: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} أي: أنهم من الانقباض وترك المسألة، والتوكل على الله؛ بحيث يظنهم الجاهل أغنياء، وفيه دليل على أن اسْم الفقر يجوز أنْ يطلق على من له كسوة ذات قيمة، ولا يمنع ذلك من إعطاء الزكاة إليه، وقد أمر الله -تعالى- بإعطاء هؤلاء القوم، وكانوا من المهاجرين الذين يقاتلون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مَرْضى ولا عميان. والتعفف تفعل، وهو بناء مبالغة من عفَّ عن الشيء، إذا أمسك عنه وتنزَّه عن طلبه، وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره.

المسألة الثالثة

     قوله -تعالى-: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} فيه دليل على أن للسيما أثراً في اعتبار مَنْ يظهر عليه ذلك، حتى إذا رأينا ميتا في دار الإسلام، وعليه زنار، وهو غير مختون، لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء، ومنه قوله -تعالى-: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}، فدلت الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثيابٌ وكسوة وزي في التجمل، واتفق العلماء على ذلك، وإنْ اختلفوا بعده في مقدار ما يأخذه إذا احتاج؛ فأبو حنيفة عَدَّ مقدار ما تجب فيه الزكاة، والشافعي عد قوت سنة، ومالك عد أربعين درهما، والشافعي لا يصرف الزكاة إلى المكتسب، والسيما «مقصورة»: العلامة، وقد تمد فيقال السيماء، وقد اختلف العلماء في تعيينهما، فقال مجاهد: هي الخشوع والتواضع. السدي: أثر الفاقة والحاجة في وجوههم وقلة النعمة. ابن زيد: رثاثة ثيابهم.

المسألة الرابعة

      قوله -تعالى-: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} مصدر في موضع الحال، أي: ملحفين يقال: ألحف وأحفى وألح في المسألة سواء. ويقال: وليس للملحف مثل الرَّد، واشتقاق الإلحاف من اللحاف، سمي بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللِّحاف مِنَ التَّغْطية، أي هذا السائل يعم الناس بسؤاله، فيلحفهم ذلك، وروى النسائي ومسلم: عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس المسكينُ الذي تردُّه التمرةُ والتمرتان، واللقمة واللقمتان؛ إنَّما المِسكين المتعفف، اقرؤوا إنْ شئتم: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافا}.

المسألة الخامسة

      واختلف العلماء في معنى قوله: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} على قولين، فقال قوم منهم الطبري والزجاج: إن المعنى لا يسألون ألبتة، وهذا على أنهم متعففون عن المسألة عفةً تامة، وعلى هذا جمهور المفسرين، يكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي: لا يسألون الناس إلحاحًا ولا غير إلحاح، وقال قوم: إن المراد نفي الإلحاف، أي: أنهم يسألون غير إلحاف، وهذا هو السابق للفهم، أي: يسألون غير ملحفين. وفي هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافا... ثم ذكر حديث الباب.

     وفي (الموطأ): عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد أنه قال: نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد، فقال لي أهلي: اذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاسأله لنا شيئاً نأكله، وجعلوا يذكرون من حاجتهم، فذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدت عنده رجلاً يسأله، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا أجد ما أعطيك» فتولّى الرجل عنه وهو مغضب، وهو يقول: لعمري إنك لتعطي من شئت؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه يغضب علي ألا أجد ما أُعطيه، مَنْ سأل منكم وله أوقيةٌ أو عَدْلها؛ فقد سأل إلحافا «. قال الأسدي: فقلت: للقحة لنا خير من أوقية - قال مالك: والأوقية أربعون درهما - قال: فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بشعير وزبيب، فقسم لنا منه حتى أغنانا الله».

السؤال مكروه لمن له أوقيةٌ من فضة

     قال ابن عبد البر: وهذا الحديث يدل على أن السؤال مكروه لمن له أوقيةٌ من فضة، فمن سأل وله هذا الحد والعدد والقدر من الفضة، أو ما يقوم مقامها، ويكون عدلا منها فهو ملحف، وما علمت أحدا من أهل العلم إلا وهو يكره السؤال لمن له هذا المقدار من الفضة أو عدلها من الذهب على ظاهر هذا الحديث، وما جاءه من غير مسألة فجائز له أن يأكله إن كان من غير الزكاة، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا، فإن كان من الزكاة، ففيه خلاف يأتي بيانه في آية الصدقات إن شاء الله تعالى.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك