رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 31 أغسطس، 2020 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم باب: التَّرْغيب في الصَّدَقة المَنِيحة

 

536. عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يَبْلُغُ بِهِ: «أَلَا رَجُلٌ يَمْنَحُ أَهْلَ بَيْتٍ نَاقَةً، تَغْدُو بِعُسٍّ، وَتَرُوحُ بِعُسٍّ؟، إِنَّ أَجْرَهَا لَعَظِيمٌ».

الشرح:

الحديث رواه مسلم في الزكاة (2/707) باب: فضل المنيحة. ورواه البخاري في كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها (2486) باب: فضل المنيحة.

- قوله: «يَبْلُغُ بِهِ» أي: يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: يرفعه إليه. ولم يكتف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمؤاخاة لترسيخ المواساة بين المؤمنين، بل كان يتحين الفرصة تلو الأخرى ليذكرهم بالمواساة، ويحثهم عليها، ويدعوهم إليها، ففي شأن المنائح التي تحلب، يدعو - صلى الله عليه وسلم - إلى المواساة فيها، لأن غذاء الناس عليها، فيقول - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا رَجُلٌ يَمْنَحُ أَهْلَ بَيْتٍ نَاقَةً، تَغْدُو بِعُسٍّ، وَتَرُوحُ بِعُسٍّ؟ إِنَّ أَجْرَهَا لَعَظِيمٌ» رواه مسلم.

- قوله: «تَغْدُو بِعُسٍّ» العس هو القدح الكبير يحلب فيه اللبن، والغدو: هو أول النهار.وفي رواية البخاري: «تغْدو بإناء، وتَروح بإناء» أي: مِنَ اللبن، أي: تحلب إناءً بالغداة، وإناء بالعشي، أي: في الصباح وفي المساء. وفي رواية البخاري: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «نِعْمَ المَنيحة اللقْحة، الصَّفي مِنْحة، والشّاة الصَّفي، تَغْدو بإناءٍ، وتَرُوح بإناء». وفي رواية: «نِعْم الصدقة».

نعم المنيحة اللقحة

     فقوله: «نعم المنيحة اللقحة، الصفي منحة» اللقحة الناقة ذات اللبن، القريبة العهد بالولادة، وهي مكسورة اللام ويجوز فتحها، والمعروف أن اللقحة بفتح اللام، المرة الواحدة منَ الحَلْب، والصَّفي بفتح الصاد وكسر الفاء، أي: الكريمة الغزيرة اللبن، ويقال لها: الصَّفية أيضا. وذكر البخاري بعده الحديث أيضاً بلفظ: «نعم الصَّدقة اللقحة، الصَّفي منحة». وهذا هـو المشهور عن مالك.

     قال ابن التين: منْ روى «نعم الصدقة» روى أحدهما بالمعنى، لأنّ المِنْحة العطية، والصَّدقة أيضا عَطية. قلت: لا تلازم بينهما، فكل صدقةٍ عطية، وليس كلُّ عطيةٍ صدقة. وإطلاق الصدقة على المنحة مجاز، ولو كانت المنحة صدقة، لما حَلَّت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هي منْ جنس الهبة والهدية. انتهى.

- وقد روى الإمام البخاري في كتاب (الهبة ) من صحيحه (2631)، باب فضل المنيحة: عن عبداللَّهِ بن عَمْرٍو -رضيَ اللَّهُ عَنْهُما- يقولُ: قَال رسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم : «أَرْبَعُونَ خَصْلَةً- أَعْلَاهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ- مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْها، رَجَاءَ ثَوَابِهَا، وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ».

قَالَ حَسَّانُ -أحد الرواة-: فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ: مِنْ رَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ، فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً.

وقوله: «منيحة العنز» أي: عطية لبن الشاة.

- قال الحافظ النووي رحمه الله: «تُسْتحب المَنِيحة، وهي أنْ تكونَ له ناقة أو بقرة أو شاة ذات لبن، فيدفعها إلى مَنْ يَشْرب لبنها مدة، ثم يردها إليه، لحديث ابن عمرو بن العاص، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «نعم المنيحة اللقحة، الصّفي منحة، أو الشَّاة الصّفي تغدو بإناء، وتروح بإناء» رواه البخاري. وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ مَنَحَ مَنيحة، غدتْ بصدقة صبوحها وغبوقها» رواه مسلم، وفى المسألة أحاديث أخر صحيحة». «المجموع» (6/243).

كثرة طرق الخير

- وقد بين العلماء شرّاح الحديث أنَّ مقصود هذا الحديث بيان كثرة طرق الخير، وأنَّ الأعمال الصَّالحة كثيرة جدا، منْ عمل بها رجاء ثوابها مُخْلِصاً بها قلبه، دخل الجنة.

- قال ابن بطال -رحمه الله-: «وأما قوله عَلَيْهِ السَّلام: «أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلَاهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ» ولم يذكر الأربعين خَصلة في الحديث- ومعلوم أنه كان عالمًا بها كلَّها لا محالة- إلا لمعنى هو أنفع لنا مِنْ ذكرها، وذلك والله أعلم خشية أنْ يكون التعيين لها، والترغيب فيها، زُهدًا في غيرها من أبواب المعروف وسبل الخير، وقد جاء عنه -عَلَيْهِ السَّلام- من الحَضّ على أبواب من أبواب الخير والبر، ما لا يُحْصى كثرة.

     وليس قول حسان بن عطية: «فعَدَدنا ما دُون منيحة العنز، مِنْ ردّ السلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق، فما اسْتطعنا أنْ نَبْلغَ خمسَ عشرة خَصْلة» بمانعٍ أنْ يَجْدها غيره، وقد بلغني عنْ بعض أهل عصرنا أنه طلبها في الأحاديث، فوجد حَسَابها يبلغ أزيد من أربعين خصلة: فمنها: منحة الركوب، إطعام الجائع، وسقاية الظمآن، ومنها: السَّلام على مَنْ لقيت، وتَشْميت العاطس، وإعانة الصَّانع، والصنعة للأخْرق، وإعْطاء صلة الحبل، وإعطاء شِسْع النَّعل، وأنْ يؤنس الوحشان، وكَشَف الكربة عنْ مسلم، وكون المرء في حاجة أخيه، وستر المسلم، والتَّفسح لأخيك في المجلس، وإدْخال السُّرور على المسلم، ونَصر المَظلوم، والأخذ على يدي الظالم، والدلالة على الخير، والأمر بالمعروف، والإصْلاح بين الناس، وقول طيب ترد به المسكين، وأنْ تُفْرغ من دلوك في إناء المستقي، وغرس المسلم وزرعه، والهدية إلى الجار، والشفاعة للمسلم، ورحمة عزيز ذلَّ، وغني افتقر، وعالم بين جهال، وعيادة المرضى، والردَّ على مَنْ يغتاب أخاك المسلم، ومصافحة المسلم، والتحاب في الله، والتجالس في الله، والتزاور في الله، والتبادل في الله، وعون الرجل الرجلَ في دابته يحمله عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، والنصح لكل مسلم». باختصار من «شرح ابن بطال» (7/151-154).

تعدد الخصال في الحديث

     وما نقله ابنَ بطال هو محاولة لتعداد بعض الخصال المقصودة في الحديث، وقد نازعه بعض أهل العلم في ذلك، ولكن لا تضر هذه المنازعة، فهذه الخصال هي من خصال الخير، ومن الأعمال الصالحة، والأخلاق الحسنة، وتعيينها كاملة لا يمكن الجزم به. ويجمعها قول الله -تعالى-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8). وقوله: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ} (القارعة: 6-11.

على المسلم أن يعد العدة

     وعلى المسلم أن يُعدَّ العدَّة لهذا اليوم العظيم، وأنْ يُسَارِع لاكتساب فضائل الأعمال الصَّالحة، ويسعى السعي الحثيث، لنَيل فضائل الأفعال والأقوال الطيِّبة، والخيرات والحسنات الجارية، كي يجد المسلم نَبْعاً متدفقا للأجور في حياته وبعد مماته، وفي السُّنة النبوية إرشاد لهذه المنابع من الحَسنات الجارية، كي نرتوي منْ نبعها العذب. وأفضل الصَّدقات: الصدقات الجارية: والصدقة الجارية: أي غير المنقطعة، وهي التي يستمر ثوابها في حياة المُسلم وبعد موته، فإذا أعطيتَ الفقير طعاما فأكله، أو مالا فانتفع به، فهذه الصدقة ليست صدقة جارية، إنما يكتب أجرها حينها فقط، وأما الصدقة الجارية، فلبقاء نفعها، يدوم أجرها عند الله -تعالى.

- ومن أمثلة الصدقة الجارية، ما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - وهي صورٌ أخرى للصَّدقات الجارية، فعن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «سبعٌ يَجري للعبد أجرُهنَّ وهو في قبره بعد موته: مَن علَّم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلاً، أو بَنَى مسجدًا، أو ورَّث مُصْحفًا، أو ترك ولدًا يَسْتغفر له بعد موته». رواه ابن ماجة، وحسَّنه الألباني في صحيح الترغيب.

الناس قسمان بعد الموت

- والناس بعد الممات ينقسمون قسمين، باعتبار جريان الحسنات والسيِّئات عليهم:

القسم الأول: مَنْ يَموت وتنقطع حسناته وسيئاته على السَّواء، فليس له إلا ما قدَّم في حياته الدُّنيا.

القسم الثاني: من يَموت وتبقى آثارُ أعماله من حسناتٍ وسيئاتٍ تجري عليه، وهذا القسم على ثلاثة أصناف:

الأول: من يَموت وتجري عليه حسناتُه وسيئاته، فمثل هذا يتوقَّف مصيره على رجحان أيٍّ من كفَّتَي الحسنات أو السيئات.

الثاني: من يَموت وتنقطع سيئاته، وتبقى حسناته تَجري عليه وهو في قبره، فينال منها بقدر إخلاصه لله -تعالى، واجتهاده في الأعمال الصَّالحة في حياته الدُّنيا، فيا طيب عيشه، ويا سعادته!

الثالث: مَنْ يموتُ وتنقطع حسناته، وتبقى سيئاته تجري عليه دهرًا من الزَّمان، إنْ لم يكنْ الدَّهر كله! فهو في قبره، ورصيده من السيئات يزدادُ يومًا بعد يوم، حتَّى يأتي يوم القيامة بجبال من السيئات لم تكنْ في حُسبانه، فيا ندامته ويا خَسَارته!

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك