رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 24 أغسطس، 2020 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: اتَّقوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمْرة


عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رضي الله عنه - قال: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّارَ، فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَال: «اتَّقُوا النَّارَ» ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَال: «اتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»، الحديث رواه مسلم في الزكاة (2/703) باب: الحثّ على الصدقة ولو بشقّ تمرة أو كلمة طيّبة، وأنها حجابٌ من النار، ورواه البخاري في الزكاة (1417) مختصرا، وفي الأدب (6023) باب: طيب الكلام بتمامه، وغيرها.

     صحابي الحديث عَدي بن حاتم الطائي، وهو: ابن حاتم الطائي الذي كان يضرب به المثل في الجُود والكرم، فقد كان أبوه من أجود العرب. وتولى عدي رئاسة قومه وهي قبيلة طيء بعد وفاة أبيه في أرض الجبلين: (أجا وسلمى)، وهي: منطقة حائل حالياً، وكان نصرانيا ثم أسلم، ولقي النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم .

الحذر من النار

     قوله: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّارَ فَأَعْرَضَ وأَشَاحَ» المُشِيح: الحَذر والجادُ في الأمر، وقيل: يعني المُقبل إليك، المانع لما وراء ظهره، فيجوز أنْ يكونَ أشاحَ أحدُ هذه المعاني، أي: حَذِرَ النار كأنه ينظرُ إليها. النهاية، والمقصود أنّه صلى الله عليه وسلم جَدّ في الإيصاء باتِّقاء النار، أو أقبلَ إليهم في خِطابه لهم.

قوله: «اتَّقُوا النَّارَ»

      أي اجْعلوا بينكم وبين النار وقاية، وحاجزًا من تقوى لله -عز وجل-، وعملٍ صالح، كصلاة وصيام وصدقة، أو كلمة طيبة، وفي رواية لهما عنه قال: - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربُّه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمنَ منه، فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظرْ أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يَرَى إلا النار تلقاءَ وجهه، فاتقوا النارَ ولو بشقّ تمرة، فمَنْ لم يجدْ فبكلمةٍ طيبة». رواه البخاري كما قال -تعالى-: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 24)، فوقودُ النار: الدَّاخلون إليْها لإضرامها كالحطَب ونحوه، وهمُ النَّاس والحجارة.

دار الذُّلِّ والهوان

     والنَّار دار الذُّلِّ والهوان، دار العذاب والخِذْلان، دار الشَّهيق والزَّفرات، ودار الأَنين والعبرات، يؤتَى بها يوم القيامة لها سبعون ألفَ زمامٍ، مع كلِّ زمامٍ سبعون ألْفَ ملَك يجرُّونها، كما في حديث مسلم، قال -تعالى-: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} (الفجر: 23).

حرُّها شديد، وقعرها بعيد

     والنار حرُّها شديد، وقعرها بعيد، وسلاسلُها وأغلالها حديد، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حرِّها: «نارُكم هذه- يعني التي في الدنيا- جزء من سبعين جزءًا من نار جهنَّم». رواه مسلم، وأمَّا قعرها وعمقها فبعيد بعيد، يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: سمعنا وجبةً - أي: صوتًا شديدًا - فقُلنا: ما هذا؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذا حجر أُلْقِي به من شفير جهنَّم منذ سبعين سنة، الآنَ وصل إلى قعرِها». رواه مسلم.

يراها حقيقةً بعينيه

     قوله: «حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا» أي: يراها حقيقةً بعينيه، بأنْ كشف الله تعالى له حجاب الغيب، وقوله: «وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» أي: بنصف تمرة. ومثاله: في حديث المرأة التي أعطتها عائشة رضي الله عنها ثلاث تمرات ومعها ابنتاها، فأعطتْ كل واحدة تمرة، فلما رفعت التَّمرة إلى فيها، صاحت كل واحدة من هؤلاء البنات تريد أنْ تأخذها، فشقتها شقين، وأعطت كلّ واحدة شقًّا، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها دخلت الجنة بذلك، لمّا أخبرته عائشة -رضي الله تعالى- عنها، فلا يزهد المسلم في الصدقة اليسيرة.

فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ

     قوله: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» فالكلمة الطيبة صدقة من الصدقات التي يؤجر عليها العبد، فالصدقة لا تختصّ بالمال، بل كل ما يقرب إلى الله فهو صدقة بالمعنى العام، لأن فعله يدل على صدق صاحبه في طلب رضوان الله -عز وجل-، بل الكلمة الطيبة شُعبة من شعب الإيمان، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: عن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ...» متفق عليه، وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قال: قَال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ». رواه البخاري ومسلم، وللكلمة أهميتَها في دين الإسلام، فقد ترفع صاحبها أعلى الدرجات، وقد تهوي به في النار دركات، وبها يُرضي الإنسان ربه، أو يُسْخطه، قال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فاطر:10. قال ابن كثير رحمه الله: «وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} يعني: الذكر والتلاوة والدعاء، قاله غير واحد من السلف»، وفي صحيح البخاري: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ».

الكلمة الطيبة قسمان

     قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «الكلمة الطيبة تنقسم إلى قسمين: طيبة بذاتها، وطيبة بغاياتها، أما الطيبة بذاتها كالذكر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الحمد لله، لا حول ولا قوة إلا بالله، وأفضل الذكر قراءة القرآن. وأما الكلمة الطيبة في غايتها، فهي: الكلمة المباحة، كالتحدث مع الناس إذا قصدت بهذا إيناسهم، وإدخال السرور عليهم، فإنَّ هذا الكلام وإنْ لم يكن طيبا بذاته، لكنه طيبٌ في غاياته، في إدخال السرور على إخوانك، وإدخال السرور على إخوانك مما يقربك إلى الله -عز وجل». (شرح رياض الصالحين (1/290).، فبالكلمة الطيبة يكون اجتماع الكلمة، وتآلف القلوب، كما قال -تعالى-: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: 34-35)، وقال -تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159).فالكلمة السيئة منفِّرة للأصحاب والأحباب.

انتصار على الشيطان

     والكلمة الطيبة انتصار على الشيطان، وإبطالٌ لخُططه في إلقاء العداوة والخصام بين المؤمنين، قال -تعالى-: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} (الإسراء: 53). أي: وقل لعبادي المؤمنين، يقولوا في تخاطبهم وتحاورهم، الكلام الحسن الطيب، فإنهم إنْ لم يفعلوا ذلك ألقى الشيطان بينهم العدوات المؤدية للفرقة، وبالكلمة الطيبة تتحقق المغفرة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ: بَذْلُ السَّلامِ، وَحُسْنُ الْكَلامِ». رواه الطبراني في الكبير (17920 ) وغيره، وصححه الألباني في السلسلة (1035).

الإسلام يدعو إلى الكلمة الطيبة

     والإسلام يدعو إلى الكلمة الطيبة، والكلام الحسن، وفي القرآن الكريم الأمر بالقول المعروف، والقول السديد، والقول الميسور، والقول الحسن، والقول الكريم، والقول اللين، كما قال -تعالى-: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (النساء: 8)، وقال: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا} (الإسراء: 28)، وقال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) البقرة: 83. وقال: {وقولوا قولاً سديدا} (الأحزاب: 70)، وللوالدين قال: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (الإسراء:23)، وقال لنبييه موسى وهارون -عليهما السلام-: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 43- 44).

الجزاء من جنس العمل

والجزاء من جنس العمل، فلما كانت الكلمة الطيبة سجيةً للمؤمنين في الدنيا، دخلوا الجنة فلم يسمعوا فيها إلا الطيبَ مِنَ القول، والسلام الخالي من الأذية، قال -تعالى-: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (الواقعة: 25- 26).

الكلمة الخبيثة

     وعكس الكلمة الطيبة، الكلمة الخبيثة، وهي الكلام الذي يُغضب الربّ، ويكفر الإنسان به ويخرج من دين الإسلام، كالاستهزاء بالله وكتابه ورسوله، كما قال -تعالى-: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} (التوبة: 65-66)، وهي من أسباب دخول النار، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه -: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ». رواه الترمذي.

تنافي صفات المؤمن

     وتنافي صفات المؤمن، فعنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ». رواه الترمذي، بل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك حتى مع الأعداء، ففي صحيح مسلم: عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قالَت: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُنَاسٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. قَال: «وَعَلَيْكُمْ»، قَالَتْ عائِشَةُ: قُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَالذَّامُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَائِشَةُ، لَا تَكُونِي فَاحِشَةً». فقالتْ: مَا سَمِعْتَ مَا قَالُوا؟ فقالَ: «أَوَلَيْسَ قَدْ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ الَّذِي قَالُوا؟ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ». وفي رواية أنه قال لها: «يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ». فالفحش هنا: العدوان في الجواب.

  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك