رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 29 ديسمبر، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: إعطاء المُؤلفة قُلُوبهم على الإسلام وتَصَبَّر من قوي إيمانه(4)


 

 

عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رضي الله عنه ، يَقُولُ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْيَمَنِ بِذَهَبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ، لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِها، قَال: فقَسَمَها بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ، بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وزَيْدِ الْخَيْلِ، والرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ، وإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ؛ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ؟ قَال: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ؛ فَقَال: «أَلَا تَأْمَنُونِي وأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاء؟ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً»، قَال: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ؛ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ الْإِزَارِ؛ فَقَال: يا رَسُولَ اللَّه، اتَّقِ اللَّه، فَقَال: «وَيْلَكَ؟ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ؟»، قَال ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ؛ فَقَال خَالِدُ بْنُ الوَلِيد: يا رسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَال: «لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي»، قَال خَالِدٌ: وكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ ما لَيْسَ فِي قَلْبِهِ؛ فقَال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، ولَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ»، قَال: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْه وهُوَ مُقَفٍّ؛ فَقَال: «إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُم، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ، كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ»، قال: أَظُنُّهُ قال: «لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُود»، هذا الحديث الثالث في الباب: وقد رواه مسلم في الزكاة في الباب نفسه (2/742).

 

     قال أبو سعيد  رضي الله عنه: بَعَثَ عَلِيٌّ  رضي الله عنه مِن اليَمَن إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بذُهَيبةٍ»، وهي القِطْعة مِن الذَّهَب، في أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ، أي: جلد مدبوغ بالقَرظ، والقرظ نباتٌ يستعمل في الدباغة، لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِها، أي: لم تُخلّص من ترابها، وهو الذهب الخام، قوله: فقَسَمها صلى الله عليه وسلم بين أربعةِ نَفَرٍ: الأَقْرَعِ بنِ حَابِسٍ الحَنْظليِّ، ثمَّ الْمُجاشِعيِّ، وعُيَيْنَةَ بنِ بَدْرٍ الفَزَاريِّ، وزيدٍ الطَّائِيِّ، ثمَّ أحدِ بَني نَبْهَانَ، وعَلْقمةَ بنِ عُلَاثةَ العامريِّ، ثمَّ أحدِ بني كِلاب، وهم جميعا من المؤلفة قلوبهم كما سبق.

كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاء؟

     قوله: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاء، وفي الرواية الأخرىفغَضِبَت قُرَيْشٌ والأَنْصَار، وقالوا: يُعطي صلى الله عليه وسلم صَنادِيدَ أهلِ نَجْدٍ، أيْ: يعطي رُؤساءهم ويَترُكنا؛ فبَيَّن لهم صلى الله عليه وسلم أنه إنَّما يتَألَّفُهم بالإعْطاء؛ لِيَثْبتوا على الإسلامِ رَغْبةً فيما يَصِل إليهِم مِن المالِ.

أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ

     قوله: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: «أَلَا تَأْمَنُونِي وأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ؟ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً»، أي: أيأمنني الله -تعالى- أي: يجعلني أميناً على دينه وشريعته ورسالته، ووحيه الذي يأتيني صَباحاً ومَساءً؛ فأبلغه لكم ولا أكتمُ منه شيئاً، ولا تأمنوني على الدنيا وحُطامها؟!، وقوله: «وأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ»، هو كقول الله -جلَّ وعلا-: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}(الملك : 16-17)، وفيها: ما يجبُ على كلّ مؤمن ومؤمنة اعتقاده والإيمان به: وهو أنّ الله -تعالى- فوقَ سماواته، وفوق خلْقه، مُستوٍ على عَرشه، وهو الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، وسَلف الأمة الصالحون، والأئمة أجمعون .

 

     قال الحافظ ابن عبد البَر -رحمه الله-: وأما قوله -تعالى-: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ}(الملك : 16)؛ فمعناه: مَنْ على السَّماء، يعني على العرش، وقد يكون في، بمعنى على، ألا تَرَى إلى قوله -تعالى-: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}(التوبة: 2)، أي: على الأرض؟ وكذلك قوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}(طه : 71 ). التمهيد (7/130).

كيف نَعْرفُ ربنا؟

     وثبت عن علي بن الحسن بن شقيق - شيخ البخاري - قال: قلتُ لعبد الله بن المبارك: كيف نَعْرفُ ربنا؟ قال: في السّماء السّابعة على عرشه، وفي لفظ: على السّماء السّابعة على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية: إنه ها هنا في الأرض؛ فقيل لأحمد بن حنبل؛ فقال: هكذا هو عندنا، قال الإمام الذهبي معلّقا على هذا الأثر: هذا صحيحٌ ثابتٌ عن ابن المبارك، وأحمد -رضي الله عنهما-، وقوله: «في السماء»، رواية أخرى، توضح لك أنَّ مقصوده بقوله: «في السماء»، أي : على السماء، كالرواية الأخرى الصحيحة التي كتب بها إلى يحيى بن منصور الفقيه. العرش (2/189).

 

إنه فوق العَرْش -سبحانه

     وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: السَّلف والأئمة وسائر علماء السنة، إذا قالوا: «إنه فوق العَرْش، وإنه في السّماء فوقَ كل شيء»، لا يقولون: إنّ هناك شيئاً يَحْويه أو يَحْصُره، أو يكون محلاً له أو ظَرْفا ووِعَاء! -سبحانه وتعالى- عن ذلك ، بل هو فوق كلّ شيء، وهو مُسْتغنٍ عن كلّ شيء، وكلّ شيء مفتقرٌ إليه، وهو عالٍ على كلّ شيء، وهو الحامل للعرْش، ولحَمَلة العرش بقُوتِه وقدرته، وكل مخلوق مفتقرٌ إليه، وهو غنيٌ عن العرش وعن كل مخلوق .

 

     وما في الكتاب والسنة من قوله: {أأمِنْتم مَنْ في السماء} ونحو ذلك، قد يفهم منه بعضُهم أنّ (السماء) هي المخلوق العالي نفسه، العرش فما دونه؛ فيقولون: قوله {في السماء} بمعنى (على السماء)، كما قال: {ولأُصَلّبَنّكم في جُذُوع النَّخل}، أي: على جذوع النخل، وكما قال: {فسِيرُوا في الأرْض}، أي : على الأرض، ولا حاجة إلى هذا، بل (السَّماء) اسمُ جَنْسٍ للعالي، لا يخصّ شيئا؛ فقوله: (في السّماء) أي: في العلو دون السفل، وهو العلي الأعْلى؛ فله أعْلى العُلُو، وهو ما فوقَ العرش، وليس هناك غيره، العلي الأعلى -سبحانه وتعالى-. انتهى. مجموع الفتاوى (16/100-101).

 

ذو الْخُويصِرة

     قوله: فَقَامَ رَجُلٌ - وفي الرواية الأخرى؛ فَأَقْبل رجلٌ مِن بَني تَمِيمٍ يُقال له: ذو الْخُويصِرة، واسمُه حُرْقُوص بن زُهَيْر، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ الْإِزَارِ،  قوله: غائرالعينَين، أي: أن عينيه داخلتان في موضعهما، (مُشْرِف الوَجْنَتين)، أي: عالي الوجنتين غَليظُهما، (نَاتِئُ الْجَبين) مرتفع أو بارز، (كَثُّ اللِّحية)، أي: كثير شَعرِها، (مَحْلُوقُ الرَّأْسِ) قد حلقَ رأسُه، وهو مُخالِفٌ لِمَا كانوا عليه مِن تربيةِ شَعْر الرَّأس وفَرْقِه، إلا في حج أو عمرة .

 

قوله: أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ

     قوله: فَقَال: يا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ! فَقَال: «وَيْلَكَ ! أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ  أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ؟، قد أساء الأدب مع رسول رب العالمين بقوله هذا، وفي رواية قال: «اتَّقِ اللهِ يا محمَّد؟، هكذا دون وصفه بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ مما يدل على نفاقه كما سيأتي؛ فقال له صلى الله عليه وسلم : «من يُطِعِ اللهَ إذا عصيتُ؟؛ فهو صلى الله عليه وسلم أولى الخَلق أجمعين بطاعة ربّ العالمين، كما قَال: «وَيْلَكَ؟ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ؟؛ فكيف يُظن به غير هذا صلى الله عليه وسلم ؟!

 

أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟

     قَال: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ؛ فَقَال خَالِدُ بْنُ الوَلِيد: يا رسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فمنَعه صلى الله عليه وسلم مِن قَتْله، تأليفًا لغيرِه، ودفعاً لدعاية السُّوء عنه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، التي تنفِّر الناس عن الإسْلام، كما في رواية جابر رضي الله عنه ، قال: فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله؛ فأقْتُل هذا المَنافق؛ فقال: «معاذ الله أنْ يتحدّث الناس أنّي أقتلُ أصْحابي، إنَّ هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يُجَاوز حَنَاجرهم». رواه مسلم.

 

حلم النبي صلى الله عليه وسلم

     وقال النووي: «قوله صلى الله عليه وسلم: «دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»، فيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الحلم، وفيه: ترك بعض الأمور المختارة، والصبر على بعض المفاسد، خوفاً مِنْ أنْ تترتب على ذلك مفسدة أعظم منه، وكان صلى الله عليه وسلم يتألف الناس ويصبر على جفاء الأعراب والمنافقين وغيرهم، لتقوى شَوْكةُ المسلمين، وتتم دعوة الإسلام، ويتمكَّن الإيمان من قلوب المؤلفة، ويرغب غيرهم في الإسلام، وكان يعطيهم الأموال الجزيلة لذلك، ولم يقتل المنافقين لهذا المعنىولإظهارهم الإسلام، وقد أمر بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر؛ ولأنهم كانوا معْدُودين في أصحابه صلى الله عليه وسلم ، ويُجاهدون معه إما حميةً، وإما لطلب دنيا، أو عصبية لمن معه من عشائرهم .

 

      قال القاضي: واختلف العلماء: هل بقي حكم الإغْضاء عنهم وترك قتالهم، أو نُسِخَ ذلك عند ظهور الإسلام، ونزول قوله -تعالى-: {جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ}(التوبة: 73)، وأنها ناسخة لما قبلها، وقيل قول ثالث: أنه إنما كان العفو عنهم ما لم يظهروا نفاقهم؛ فإذا أظهروه قُتِلُوا. انتهى .

 

     قوله: «لَا؛ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي»، قال خالِدٌ: وكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ ما لَيْسَ فِي قَلْبِه؛ فقَال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، ولَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ»، أي: ليس لنا إلا ما ظَهَرَ مِنَ الناس، ولم يأمرنا ربنا أنَّ نشق عن قلوب الناس، وليس ذلك في مقدور أحدٍ أصلاً؛ فالأصل أنْ يُحْكم بإسلام كلّ مَنْ تلفّظ بالشهادتين، ما لم يأت بناقضٍ من نواقض الإسلام، وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: قال الخطابي: في الحديث أنَّ مَنْ أظْهر الإسلام، أُجْريت عليه أحكامه الظاهرة، ولو أسرَّ الكفر في نفس الأمر.

 

محل الخلاف

     ومحل الخلاف: إنما هو فيمن اطُّلِعَ على معتقده الفاسد؛ فأظهر الرجوع، هل يقبل منه أو لا؟ وأما مَنْ جُهل أمرُه؛ فلا خلافَ في إجراء الأحكام الظاهرة عليه. فتح الباري (12/279، 280)، وقَوله: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْه وهُوَ مُقَفٍّ؛ فَقَال: «إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا» إنَّ مِن ضِئْضِئ، ضئضئ: أيْ من أصْله، يريد أنه يخرج مِنْ نسله وعقبه.

 

     قوله: «قومٌ يقرَؤون القرآنَ لا يُجاوز حناجرَهم»، جمْع حَنْجَرة؛ وهي مُنتَهى الحُلْقُوم، والحُلْقوم: مَجرى الطَّعام والشَّراب ، أي: لا يُرْفَع عمله في الأعمال الصَّالحة، «يَمْرُقون»، أي: يَخرُجون مِن الدِّين، أي: الطَّاعة، «مُرُوق السَّهم»، أي : خروجَه إذا نفَذَ من الجهة الأخرى، «مِن الرَّمِيَّة»: أي الصِّيد المرِميِّ .

 

نَعْت الخَوَارِج

وهذا نَعْت الخَوَارِج الذين لا يَدينون للأئمَّة بالطاعة، ويَخرُجون عليهم، وفي لفظ البخاري: «يَقْتُلون أهلَ الإِسلام، ويَترُكون أهلَ الأَوْثان»، والوثَنُ: كلُّ ما له جُثَّة، متَّخَذٌ مِن نحو الحجارَة والخشَب، كصورة الآدمِيِّ، يُعبَد من دون الله .

قوله: «لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ»، وفي رواية: «لَئِن أنا أدرَكْتُهم لأقتُلنَّهم قَتْل عَاد»، أي: لأستَأصِلنَّهم؛ بحيث لا أُبقِي منهم أحدًا، كاستِئْصال عَاد وثمود .

 

من فوائد الحديث

قال العلماء: كان هذا الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما قال، كان منافقاً لوجود صفات المنافقين في مقاله، قال شيخ الإسْلام ابن تيمية -رحمه الله-: هذا الرجل قد نصَّ القرآن أنه مِنَ المُنافقين بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}، أي: يعيبك ويطعن عليك، وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم : اعدل واتق الله، بعدما خص بالمال أولئك الأربعة: نسبَ للنبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه جار، ولم يتق الله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ؟! ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء».

 

لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم

     ومثل هذا الكلام لا ريبَ أنه يُوجب القَتْل، لو قاله اليوم أحدٌ، وإنّما لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يُظهر الإسلام، وهو الصلاة التي يقاتل الناس حتى يَفْعلوها، وإنما كان نفاقه بما يخصّ النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى، وكان له أنْ يعفو عنه، وكان يعفو عنهم تأليفاً للقلوب؛ لئلا يتحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه». انتهى من (الصارم المسلول) (ص 228-229).

 

ومَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟

     ويدل على ذلك أيضا: ما رواه مسلم (1063): عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ قال: «أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ، مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضَّةٌ، ورسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبِضُ مِنْها، يُعْطِي النَّاسَ؛ فَقال: يا مُحَمَّدُ: اعْدِلْ! قال: «وَيْلَكَ، ومَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خِبْتَ وخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ»؛ فقال عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : دَعْنِي، يا رسولَ اللهِ؛ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِق؛ فَقَال: «مَعَاذَ اللهِ، أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هذا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُم، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»؛ فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمررضي الله عنه تسميته بالمنافق .

     ويدل عليه أيضا: رواية البخاري لحديث أبي سعيد المتقدم (6933) وفيه: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَشْهَدُ سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيًّا قَتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، جِيءَ بِالرَّجُلِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَهُ النَّبِيُّ[، قَال: فَنَزَلَتْ فِيهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} (التوبة : 58).

 

نزلت في أهل النفاق

     وقوله -تعالى-: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}، إنما نزلت في أهل النفاق، قال ابن كثير -رحمه الله-: يَقُولُ -تَعَالَى-: (وَمِنْهُمْ) أَيْ وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ (مَنْ يَلْمِزُكَ) أَيْ: يَعِيبُ عَلَيْكَ فِي قَسْمَ الصَّدَقاتِ إِذا فَرَّقْتَها، ويَتَّهِمُكَ في ذلِكَ، وهُمُ المُتَّهَمُونَ المَأْبُونُونَ، وهُمْ معَ هذا لَا يُنْكِرُونَ لِلدِّينِ، وإنما ينكرون لحظّ أنفسهم؛ ولهذا فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا، وإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها، إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ، أَيْ: يَغْضَبُونَ لِأَنْفُسِهِمْ .. انتهى .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك