رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 9 ديسمبر، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: إعطاء المُؤلفة قُلُوبهم على الإسلام وتَصَبَّر من قوي إيمانه(2)


ما زال الحديث مستمرًا في باب: إعْطاء المُؤلفة قُلُوبهم على الإسْلام، وتَصَبَّر من قوي إيمانه وكنا قد توقفنا عند ذكر قصة الأنصار وقول مَنْ قال منهم، فقد اعتذر رؤساؤُهم بأنَّ ذلك كان مِنْ بعض أتباعهم، ولما شرح لهم - صلى الله عليه وسلم - ما خَفِي عليهم مِنَ الحِكمة فيما صَنَع، رجعوا مذعنين، ورأوا أنَّ الغنيمة العظمى ما حصل لهم من عودِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بلادهم، فسَلُوا عن الشَّاة والبعير، والسبايا من الأنثى والصغير، بما حَازُوه من الفوز العظيم، ومجاورة النبي الكريم لهم حيَّا وميتا، وهذا دأب الحكيم، يُعطي كلَّ أحدٍ ما يُناسبه.

     قوله: «فقالَتْ الْأَنْصَارُ: إِذَا كَانَتْ الشِّدَّةُ فَنَحْنُ نُدْعَى، وتُعْطَى الْغَنَائِمُ غَيْرَنَا؟» ووقع في رواية أنس في البخاري: «فقالوا: يغفر الله لرسوله، يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم» وفي رواية آخرى: «إذا كانت شديدة فنحن نُدْعى، ويعطى الغنيمة غيرنا» قال الحافظ: وهذا ظاهر في أن العطاء كان من صلب الغنيمة، بخلاف ما رجحه القرطبي، وفيه: أنّ بعضهم وَجَد في نفسه شيئاً من إعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الطلقاء الغنائم وتركهم، وفي رواية للبخاري: «فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس» والموجدة الغضب، يقال: وَجَد في نفسه إذا غضب، ويقال أيضا: وَجَد إذا حزن.

عطاء النبي - صلى الله عليه وسلم

     ولأحمد: من طريق ثابت عن أنس: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى أبا سفيان وعيينة والأقرع وسهيل بن عمرو، في آخرين يوم حنين، فقالت الأنصار: سيُوفنا تَقْطر من دمائهم، وهم يذهبون بالمغنم؟» فذكر الحديث، وفيه «ثم قال: أقلتُم كذا وكذا؟ قالوا: نعم». وإسناده على شرط مسلم، قاله الحافظ، وكأنَّ الذين قالوا هذا، حَزِنوا وظنوا أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بدأَ يميلُ إلى أهلِه وعَشيرتِه مِن قُرَيشٍ، ويُفضِّلُهم بالعَطاءِ.

قوله: «فَبَلَغَهُ ذَلِك»

     قوله: «فَبَلَغَهُ ذَلِك، فَجَمَعَهُمْ في قُبَّةٍ» أي: فأَرْسلَ إلى الأَنصارِ، فجَمَعَهم في قُبَّةٍ، أي: خَيْمةٍ منْ أَدَمٍ، وهو الجِلدُ، ولم يَدْعُ معهم أحدًا غيرَهُم، أي: اقْتصَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عليهِمْ فقَطْ. فَقال: «يا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟  فَسَكَتُوا»، في رواية البخاري: «فحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، فلم يدع معهم غيرهم، فلما اجتمعوا قام فقال: ما حديثٌ بلغني عنكم؟ فقال فقهاءالأنصار: أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا».

يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ

قوله: «فَقَال: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَما تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا» وفي رواية: «بالشاة والبعير»، وفي رواية: «أن يذهب الناس بالأموال».

تسلية من فاته شيءٌ من الدنيا

     قوله: «وتَذْهَبُونَ بِمُحَمَّدٍ تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟» تَحُوزُونَهُ: من الحيازة. «إلى رِحَالكم» أي: بيوتكم، وزاد في رواية البخاري: «فوالله لما تنقلبون به خيرٌ مما ينقلبون به» وزاد فيه أيضا: «قالوا: يا رسول الله قد رضينا»، وفيه: تسلية من فاته شيءٌ من الدنيا، بما يحصل له من ثواب الآخرة، كما قال -تعالى-: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى} الضحى.

ثواب النصرة

     قوله: «فقال: «لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا، وسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا، لَأَخَذْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ» وفي رواية: «وادي الأنصار» وهو المكان المنخفض، وقيل: الذي فيه ماء، والمراد هنا بلدهم. وقوله: «شعب الأنصار» بكسر الشين المعجمة، وهو اسمٌ لما انفرج بين جبلين. وقيل: الطريق في الجبل. وأراد - صلى الله عليه وسلم - بهذا وبما بعده، التنبيه على جزيل ما حصل لهم من ثواب النصرة، والقناعة بالله ورسوله عن الدنيا، ومن كان هذا وصفه، فحقّه أنْ يُسلك طريقه ويتبع حاله، قال الخطابي: لما كانت العادة أنَّ المرء يكون في نزوله وارتحاله مع قومه، وأرض الحجاز كثيرة الأودية والشعاب، فإذا تفرقت في السفر الطُرق، سلك كل قومٍ منهم وادياً وشعبا، فأراد أنه مع الأنصار، قال: ويحتمل أنْ يُريد بالوادي المذهب، كما يقال: فلان في وادٍ وأنا في واد.

تألف الأنصار واستطابة نفوسهم

     وفي رواية قال - صلى الله عليه وسلم -: «لولا الهجرةُ لكنتُ امرأ مِنَ الأنصار» قال الخطابي: أراد بهذا الكلام تألف الأنصار واستطابة نفوسهم، والثناء عليهم في دينهم، حتى رَضِي أنْ يكون واحدا منهم، لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها، ونسبة الإنسان تقع على وجوه: منها الولادة، والبلادية، والاعتقادية، والصناعية. ولا شك أنه لم يرد الانتقال عن نسب آبائه، لأنه ممتنع قطعا. وأما الاعتقادي فلا معنى للانتقال فيه، فلم يبق إلا القسمان الأخيران، وكانت المدينة دار الأنصار، والهجرة إليها أمراً واجبا، أي: لولا أنْ النسبة الهجرية لا يسعني تركها، لانتسبت إلى داركم. قال: ويحتمل أنه لما كانوا أخواله، لكون أم عبد المطلب منهم، أراد أن ينتسب إليهم بهذه الولادة، لولا مانع الهجرة.

قال الحافظ ابن الجوزي: لم يُرد - صلى الله عليه وسلم - تغير نسبه، ولا محو هجرته، وإنما أراد أنه لولا ما سبق من كونه هاجر، لانْتَسب إلى المدينة، وإلى نُصْرة الدين، فالتقدير: لولا أنَّ النسبة إلى الهجرة نسبةٌ دينية، لا يَسَع تركها، لانتسبتُ إلى داركم.

خصوصية الهجرة وتربيتها

     وقال القرطبي: معناه لتسميت باسمكم، وانتسبت إليكم، كما كانوا ينتسبون بالحلف، لكن خصوصية الهجرة وتربيتها سبقت، فمنعت من ذلك، وهي أعلى وأشرف فلا تتبدّل بغيرها. وقيل: معناه لكنت من الأنصار في الأحْكام والعِدَاد. وقيل: التقدير لولا أنَّ ثواب الهجرة أعظم، لاخترت أنْ يكون ثوابي ثواب الأنصار، ولم يُردْ ظاهرَ النَّسب أصلا، وقيل: لولا التزامي بشروط الهجرة، ومنها: ترك الإقامة بمكة فوق ثلاث، لاخترتُ أنْ يكونَ من الأنصار فيباح لي ذلك.

خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار

     وفي حديث عبدِ اللَّه بنِ زيدِ بنِ عاصِمٍ - صلى الله عليه وسلم - قال: «.. فَخَطَبَهُم، فقال: يا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهُدَاكُمْ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي؟ كُلَّما قال شيْئاً، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. قال: ما يَمْنَعُكُم أَنْ تُجِيبُوا رسولَ اللَّهِ؟ قالُوا: اللَّهُ ورسولُهُ أَمَنُّ. قال: لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ: جِئْتَنَا كذَا وكذَا. أَلا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وتَذْهَبُونَ بِرسولِ اللَّهِ إلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصارِ، ولَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِياً أَوْ شِعْباً، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ، والنَّاسُ دِثَارٌ، إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي على الحَوْضِ». متفق عليه.

قوله: «ألم أجِدْكم ضُلالا؟»

     قوله: «ألم أجِدْكم ضُلالا» بالضم والتشديد جمع ضال، والمراد هنا ضلالة الشرك، وبالهداية الإيمان. وقد رتَّب - صلى الله عليه وسلم - ما منَّ الله عليهم على يده من النِّعم ترتيباً بالغا، فبدأ بنعمة الإيمان التي لا يوازيها شيء من أمر الدنيا، وثنَّى بنعمة الألفة، وهي أعظم من نعمة المال، لأنَّ الأموال تبذل في تحصيلها وقد لا تحصل، وقد كانت الأنصار قبل الهجرة في غاية التنافر والتقاطع، لما وقع بينهم من حرب بعاث وغيرها كما تقدم في أول الهجرة، فزال ذلك كله بالإسلام، كما قال الله -تعالى-: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} الأنفال: 63.

وقوله: «عالة» بالمهملة أي: فقراء لا مال لهم، والعيلة الفقر.

وقوله: «كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمنّ» بفتح الهمزة والميم والتشديد: أفعل تفضيل من المَن، وفي حديث أبي سعيد «فقالوا: ماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل.

     قوله: «قال: لو شئتم قلتم جئتَنا كذا وكذا» وقد فسّر ذلك في حديث أبي سعيد ولفظه «فقال: أما والله، لو شئتُم لقلتم فصدقتم وصدقتم: أتيتنا مُكذّبا فَصَدّقناك، ومَخْذولاً فنَصَرناك، وطَريداً فآويناك، وعَائلاً فواسيناك»، وأخرجه أحمد: عن أنس بلفظ: «أفلا تقولون: جئتنا خائفاً فآمناك، وطريدا فآويناك، ومخذولا فنصرناك. فقالوا: بل المنُّ علينا لله ولرسوله». وإسناده صحيح.

تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنصافه

     وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك تواضعاً منه وإنصافًا، وإلا ففي الحقيقة الحُجة البالغة، والمنة الظاهرة، في جميع ذلك له عليهم، فإنه لولا هجرته إليهم، وسكناه عندهم، لما كان بينهم وبين غيرهم فَرْقٌ، وقد نبّه على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا ترضون إلخ» فنبههم على ما غفلوا عنه من عظيم ما اختُصَّوا به منه، بالنسبة إلى ما حصل عليه غيرهم من عَرَض الدنيا الفانية.

الأنصار شعار والناس دثار

     وقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية: «الأنصار شعار والناس دثار» الشعار: بكسر المعجمة بعدها مهملة خفيفة: الثوب الذي يلي الجلد من الجسد. والدثار: بكسر المهملة ومثلثة خفيفة الذي فوقه. وهي استعارة لطيفة لفرط قربهم منه. وأراد أيضا: أنهم بطانته وخاصته وأنهم ألْصق به وأقرب إليه من غيرهم. زاد في حديث أبي سعيد قال: «اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار». قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك