رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 18 ديسمبر، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: إعطاء المُؤلفة قُلُوبهم على الإسلام وتَصَبَّر من قوي إيمانه(3)

 

 

ما زال الحديث مستمرًا في باب: إعْطاء المُؤلفة قُلُوبهم على الإسْلام، وتَصَبَّر من قوي إيمانه وكنا قد توقفنا عند ذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأنصار شعار والناس دثار» وقلنا: إن الشعار: بكسر المعجمة بعدها مهملة خفيفة: الثوب الذي يلي الجلد من الجسد، والدثار: بكسر المهملة ومثلثة خفيفة الذي فوقه، وهي استعارة لطيفة لفرط قربهم منه، وأراد أيضا: أنهم بطانته وخاصته وأنهم ألْصق به وأقرب إليه من غيرهم. زاد في حديث أبي سعيد قال: «اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار». قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا.

     وقوله فيها: «إنكم ستلقون بعدي أثرة» بضم الهمزة وسكون المثلثة وبفتحتين، ويجوز كسر أوله مع الإسكان، أي: الانفراد بالشيء المشترك دون من يشركه فيه. وفي رواية «أثرة شديدة» والمعنى: أنه يستأثر عليهم بما لهم فيه اشتراك في الاستحقاق. وقال أبو عبيد: معناه يفضل نفسه عليكم في الفيء.

قوله: «فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» أي يوم القيامة. وفي رواية الزهري «حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض» أي اصبروا حتى تموتوا، فإنكم ستجدونني عند الحوض، فيحصل لكم الانتصاف ممن ظلمكم والثواب الجزيل على الصبر.

فوائد الحديث

- وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم:

- إقامة الحجة على الخصم، وإفحامه بالحق عند الحاجة إليه.

- وفيه: وحُسن أدب الأنصار في تركهم المماراة، واتصافهم بالحياء، وبيان أنّ الذي نقل عنهم إنما كان عن شبانهم لا عن شيوخهم وكهولهم.

- فيه: مناقب عظيمة لهم لما اشتمل من ثناء الرسول البالغ عليهم، واختصاصُ النبيِّ بِهم واختصاصُهم بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.

- وفيه: ما للأنصارِ من جهد كبيرٌ في نُصرةِ الإسلامِ، ونُصْرةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولذلكَ عظُمَ فضلُهم.

- وأنّ العالم يُنبه الغافل والجاهل على ما يغفل عنه، ويُوضح له وجه الشُّبهة ليرجع إلى الحق.

- وفيه: المعاتبة واسْتعطاف المعاتب، وإعتابه عن عتبه بإقامة حجة من عتب عليه، والاعتذار والاعتراف.

وفيه-: عَلَم من أعلام النبوة، لقوله: «ستلقون بعدي أثرة» فكان كما قال، وقد قال أنس في آخر الحديث: «فلم يصبروا».

- وفيه: الأمرُ بالصَّبر على استبدادِ الأمراءِ، وتَفضيلِهم لغيرِ ذوي الاستحقاقِ.

- وفيه أن للإمام تفضيل بعض الناس على بعض في مصارف الفيء، وما في حُكمِها من أموالِ الدَّولةِ، وأنّ له أنْ يعطي الغني منه للمصلحة. وأن من طلب حقه من الدنيا لا عتب عليه في ذلك.

- ومشروعية الخُطبة عند الأمر الذي يحدث في الأمة، سواء كان خاصا أم عاما.

- وفيه جواز تخصيص بعض المخاطبين في الخطبة.

- وأن المنة لله ورسوله على الإطلاق، وتقديم جانب الآخرة على الدنيا، والصبر عما فات منها ليدخر ذلك لصاحبه في الآخرة، والآخرة خير وأبقى.

الحديث الثاني

516.عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رضي الله عنه - قَال: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، والْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِك،  فقال عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ

                                 بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ

فَمَا كَانَ بَـدْرٌ وَلَا حَابِـسٌ

                                 يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ

وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا

                                 وَمَنْ تَخْفِضْ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ

قَال: فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِائَةً.

- الحديث الثاني في الباب: رواه مسلم في الزكاة ( 2/737-738) في الباب نفسه، وهذا الحديثُ أيضاً يُظهِرُ جانبًا مِن تأليفِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للنَّاسَ على الإسلامِ، بإعطائِهِمُ المالَ، كلٌّ على حَسَبِ قُوَّةِ الإيمانِ في قلبِه أو رِقَّتِه، وكيف كان يُراعِي أحوالَ كلِّ واحدٍ منهم.

- والحديثُ سببُ وُرُودِه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَسَّم الغنائِمَ بعدَ غزوةِ حُنَيْنٍ بينَ المسلمين، فميَّز بعضَهم على بعضٍ، فمِنهم مَن أعطاه مِئَةً مِنَ الإبِلِ، ومِنهم مَن أعطاه أقلَّ مِن ذلك، «فأَعْطَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أبا سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ، وصَفْوَانَ بنَ أُمَيَّةَ، وعُيَيْنَةَ بنَ حِصْنٍ، والأَقْرَعَ بنَ حَابِسٍ، كلَّ إنسانٍ منهم: مِائَةً مِنَ الإبِلِ، وأَعْطَى عَبَّاسَ بنَ مِرْدَاسَ دونَ ذلك»، فغَضِب عَبَّاسُ بنُ مِرْدَاسَ فأَنْشَدَ شعراً في ذلك فقال:

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ

                                 بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ

فَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلَا حَابِسٌ

                                 يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ

وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا

                                 وَمَنْ تَخْفِضِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ

قوله: «أَتجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ العُبَيْدِ» النَّهْبُ: الغَنِيمَةُ، والعُبَيْدُ: اسمُ فَرَسِ عَبَّاسِ بنِ مِرْدَاسَ، والمعنى: أَتجعَلُ ما شاركْتُ في اغتِنامِه من حُنَيْنٍ بِسلاحِي وفَرَسِي، لِأبي سفيان، وعُيَيْنَةَ بنِ حِصْنٍ، والأَقْرَعِ بنِ حَابِسٍ، وغيرهم؟! وذلك بإعطائِهم أكثرَ منِّي.

وقولُه: «فما كان بدرٌ ولا حَابِسٌ» يعني: أَبَوَيْ عُيَيْنَةَ والأَقْرَعِ، فعُيَيْنَةُ هو ابنُ حِصْنٍ بن حذيفة بن بدر الفزاري، والأَقْرَعُ هو ابنُ حَابِسٍ التميمي.

وقولُه: «يَفُوقانِ»: يَفُوقُ بمعنى: يَرتَفِع، والمعنى: ما كان أبِي دونَ أَبَوَيْهِما، ولا أنا دُونَهما، وكأنَّه شعر أو خاف مِن نَقْصِ مَرتَبتِه، ولهذا قال: «ومَن تَخْفِضِ اليومَ لا يُرفَع».

قال: «فَأَتَمَّ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِائَةً» أي: أعطاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِائَةً مِنَ الإبِلِ، مِثْلَ غيرِه مِمَّنْ أخَذوا المائةَ، تأليفًا لقلبِه، ودفْعًا لِمَظِنَّةِ الدُّونِيَّةِ عن نفسه، أو أنَّه أقلُّ مرتَبَةً مِن غيرِه.

     وفي رّواياتِ الحديث اختلافٌ في أسماءِ المؤلَّفَةِ قُلوبُهم، وزيادة ونقص، وهذا لكثرتهم، وقد تقدّم سرد أبو الفضل بن طاهر في (المبهمات) لهم، وكذا ما قاله عَبَّاسُ بنُ مِرْدَاسَ في هذا المَوقِفِ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَسَم غنائِمَ حُنَيْنٍ، فأَعْطَى أبا سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ مِئَةً مِنَ الإبِلِ... وساق الأسماء.

وفي الحديثِ: تأليفُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِقُلوبِ بعضِ الناسِ بالمالِ، لِلمَصْلَحَةٍ الظاهِرَةٍ، كما سبق في الحديث الماضي.

وفيه: تقديرُ العَطاءِ لكلِّ واحدٍ على قَدْرِه ومنزلته.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك