رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 21 يناير، 2020 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: إباحة ما أهدي من الصدقة لآل النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم


عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَال: أَهْدَتْ بَرِيرَةُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَحْمًا، تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهَا، فَقَال: «هُوَ لَها صَدَقَةٌ، ولَنَا هَدِيَّةٌ».
 
الشرح: وفي الباب حديثان:
 
- الحديث الأول: أخرجه مسلم في الزكاة ( 2/755) باب: إباحة الهَدِية للنبي -  ولبني هاشم وبني المُطّلب، وإنْ كان المُهدي مَلكها بطريق الصدقة، وبيان أنّ الصدقة إذا قبضها المتصدّق عليه، زالَ عنها وَصفُ الصّدقة، وحلَّت لكلّ أحدٍ ممن كانت الصدقة مُحرّمة عليه.
 
 قوله: «أَهْدَتْ بَرِيرَةُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم  - لَحْمًا» بَرِيرَةَ هي بنتِ صفوانَ، مولاة عائشة بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، كانت مولاة لبعض بني هلال فكاتبوها، ثم باعوها من عائشة -رضي الله عنها.
 
- والحديث أخرجه البخاري ومسلم أيضا بسياق أطول: عن عائِشَةَ -رضِي اللَّهُ عنها-: أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ، وَأَرَادَ مَوَالِيهَا أَنْ يَشْتَرِطُوا وَلاَءَهَا، فذَكرَتْ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَال لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم  -: «اشْتَرِيهَا فَإِنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ». قالت: وأُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِلَحْمٍ، فَقُلْتُ: هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: هُوَ لَها صَدَقَةٌ، ولَنَا هَدِيَّةٌ».
 
وهذا الحديث قد رواه البخاري في باب: ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، وفي كتاب الكفارت، وفي الطلاق والفرائض، ورواه النسائي في الزكاة والطلاق.
 
- قالت: عائشة -رضي الله عنها-: «أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - (بضم الهمزة مبنيًا للمفعول) النبي (رفع نائباً عن الفاعل) بلحم، فقلتُ: «هذا ما» ولأبي الوقت: «مما».
- قولها: «تُصدق به» بضم أوله وثانيه «على بريرة»، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «هو» أي: اللحم المتصدّق به على بربرة «لها صدقة ولنا هدية». قال ابن مالك: يجوز في «صدقة» الرفع على أنه خبر هو ولها صفة، قُدّمت فصارت حالا، ويجوز النصب فيها على الحال والخبر لها. انتهى.
 
والصَّدقة: هي منحة طلباً لثواب الآخرة، والهدية تمليك الآخر شيئًا تقربًا إليه، وإكرامًا له، ففي الصدقة نوع ذلٍّ للآخذ، فلذلك حُرّمت الصدقة عليه - صلى الله عليه وسلم - دون الهدية.
وقيل: لأنَّ الهدية يُثاب عليها في الدنيا، فتزول المنة، والصدقة يُراد بها ثواب الآخرة، فتبقى المنّة ولا ينبغي لنبي أنْ يمنّ عليه غيرُ الله -تعالى.
وقال البيضاوي: إذا تصدق على المحتاج بشيء ملكه، وصار له كسائر ما يملكه، فله أنْ يهدي به غيره، كما له أن يهدي سائر أمواله بلا فرق.
وهذا موضع الترجمة؛ لأن بريرة من جملة موليات عائشة وتصدق عليها.
- وقد ورد في الحديث: عن أبي سعيدٍ الخدري قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تحلّ الصدقةُ لغنيٍّ إلا لخمسة: لعاملٍ عليها، أو رجلٍ اشتراها بماله، أو غارمٍ، أو غازٍ في سبيل الله، أو مِسْكينٍ تُصُدِّق عليه منها، فأهدى منها لغنيٍّ». رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وصحَّحه الحاكم والألباني.
ففي هذا الحديث: «إنَّ الصَّدقة - يعني: الزّكاة - لا تحلّ لغنيٍّ إلا لخمسة»:
- الأول: «أو لعاملٍ عليها» فالعُمَّال على جمع الزكاة ونقلها، يُعطون من الزكاة على تعبهم ووظيفتهم هذه، كما قال -جلَّ وعلا-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} التوبة:60.
- الثاني: «رجلٌ اشتراها بماله» ولو أنه غنيٌّ، إذا اشْتراها من الفقير، فهي حلالٌ له، مثل: إنسان غني عنده بضاعة ودُكان، وفقير جاءته زكاةٌ من تمرٍ أو غيره وباعها له، فلا بأس أنْ يشتريها الغني بماله من الفقير.
- الثالث: «أو غازٍ في سبيل الله» كما في قوله -تعالى-: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} فالغُزاة يُعطون من الزكاة، ليستعينوا بذلك على الجهاد.
- الرابع: «أو غارم مدين» لقوله -تعالى-: ( وَالْغَارِمِينَ )، فالمَدِين العاجز يُعطى من الزكاة، سواء كانت غرامته لإصلاح ذاتِ البيْن، أو لحاجات نفسه وحاجات عياله، إذا كان لا يجد ما يُسدّد به دَينه.
- الخامس: «مسكينٌ تُصُدِّق عليه منها» أي: فقير أُعطي من الزكاة، فأهدى منها لغنيٍّ، فمثلًا: زيد فقير وأعطي زكاةً، وأعطى أقاربه منها، وهم أغنياء، أو دعاهم على طعام ليأكلوا عنده، فلا بأس؛ لأنها بلغت محلها، فإذا جاءه ضيوفٌ وأكلوا منها فلا بأس، ولو كانوا أغنياء، حتى لو أنَّ صاحب الزكاة جاءه وزاره وقدَّم له جزءًا من تمره، فلا بأس، لأنها بلغت محلها وصارت من ماله.
- وفي رواية: «أنَّه كان في بَرِيرَةَ ثلاثُ سُنَنٍ» أي: شُرِعَ بسَببِها ثلاثةُ أحكامٍ شرعيَّة، انتفَعَ بها النَّاسُ، وكانتْ أُولى هذه السُّنَنِ حينما «أرادتْ عائشةُ أن تشتريَها فتُعتِقَها، فقال أهلُها: ولنا الولاءُ» والولاء هو: تناصُرٌ يُوجِبُ الإرثَ بين العبد وسيِّدِه إذا أعتَقَه، «فذكَرتْ ذلك لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لو شئتِ شَرَطْتِيهِ لهم، فإنَّما الولاءُ لمَن أعتَقَ»، أي: مَن أعتَقَ عبدًا أو أَمَةً، فإنَّ ولاءَه - أي: إرثَه - له.
- قال - أي: السُّنَّةِ الثَّانيةِ: «وأُعْتِقَتْ فخُيِّرَتْ في أنْ تَقِرَّ تحت زوجِها أو تُفارِقَهُ» أي: خيَّرَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في البقاءِ عندَ زوْجها، واسمُه: مُغِيثٌ، وكان عبدًا أَسْوَدَ، أو فِراقِه وفسخِ نكاحِه، لأنَّها صارتْ حُرَّةً، فاختارت الفراق.
- وقال في السُّنَّةِ الثَّالثةِ: «ودخَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا بيتَ عائشةَ وعلى النَّارِ بُرْمَةٌ تَفُورُ» أي: قِدرٌ أو إناء مُتَّخَذٌ من حَجَرٍ، وقيل غير ذلك، «فدعا بالغَداءِ، فأُتِيَ بخُبزٍ وأُدْمٍ من أُدْمِ البيت، أي: إدام، وهو ما يُؤتَدَمُ به ممَّا يُوجَدُ في البيت عادةً، فقال: ألم أرَ لحمًا؟» يُريدُ - صلى الله عليه وسلم -: أين الطَّعامُ الذي كان يُطبَخُ في البُرمةِ؟. «قالوا: بلى يا رسول الله، ولكنَّه لحمٌ تُصُدِّقَ به على بَرِيرَةَ فأهدَتْه لنا» يُريدونَ أنَّك لا تأكُلُ الصَّدقةَ، وهو مما تُصدق به على بريرة.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: «هو صدقةٌ عليها، وهديَّةٌ لنا» أي: هي قد ملَكَتْهُ بسببِ التَّصدُّقِ به عليها، ونحن نَمْلِكُهُ بسبب إهدائها لنا منه، وعليه، فقدِ اختلَفَ سببُ المِلكِ، فاختلَفَ الحُكمُ، وجازَ لنا أكلُه.
فالمسكين إذا أخذ الزكاة صارت من ماله، فلو زاره صاحبُ الزكاة وأكل من تمره أو من غيره من الزكاة لا بأس، أو أهدى منها لأقاربه الأغنياء أو جيرانه فلا بأس، لأنها بلغت محلها.
 
- الحديث الثاني:
518.عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رضي الله عنها- قالت: بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم  - بِشَاةٍ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثْتُ إِلَى عَائِشَةَ مِنْها بِشَيْءٍ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم  -َ إِلَى عَائِشَةَ، قَال: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ قَالَتْ: لَا، إِلَّا أَنَّ نُسَيْبَةَ بَعَثَتْ إِلَيْنَا مِنْ الشَّاةِ، الَّتِي بَعَثْتُمْ بِهَا إِلَيْهَا، قَال: «إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا».
 
الشرح:
الحديث أخرجه مسلم في الموضع السابق (2/756). ونسيبة بنت كعب الأنصارية هي أم عمارة، صحابية من الخزرج، شاركت في عدد من غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعض معارك حروب الردة. توفيت سنة 13 هـ.
وفي الحديث أيضاً: بيانٌ لنا أنَّه لَمَّا كانت الصَّدقةُ يجوز فيها التصرُّفُ للفقيرِ بالبيع والهبة، لصحَّةِ مِلكِه لها، جاز للغني الأكل منها، وذلك أنّ نُسَيبةُ -رضي الله عنها- أهدَتْ إلى عائشةَ -رضي الله عنها- من الشَّاةَ التي تصدّق بها عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحُكِم لها بحُكمِ الهِبة، وتحوَّلَت عن معنى الصَّدقةِ بمِلْكِ المتصدَّقِ عليه بها، وانتقلَتْ إلى معنى الهديَّةِ الحلالِ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّما كان - صلى الله عليه وسلم - يأكلُ الهديَّة، ولا يأكلُ الصَّدقةَ، لِمَا في الهديَّةِ مِن تآلُف القلوبِ، والدُّعاء إلى المحبَّةِ، وجائزٌ أن يُثيبَ عليها بمثلِها وأفضلَ منها، فترتفعَ المنَّةُ والذِّلَّةُ، ولا يجوز ذلك في الصَّدقةِ، فافترق حُكمُهما، لافتراقِ المعنى فيهما.
وفي الحديثِ: بيانُ أنَّ الأشياءَ المحرَّمة لعللٍ معلومةٍ، إذا ارتفعَتْ عنها تلك العِلَلُ، حلَّتْ.
 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك