رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 2 يونيو، 2021 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى ولَا يَسْأَلُ النَّاسَ

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «لَيْسَ المِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ، الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ، فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ، والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ»، قَالُوا: فمَا الْمِسْكِينُ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَال: «الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، ولَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ علَيْه، ولَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا». الحديث رواه مسلم في الزكاة (2/719) باب: المِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى، ولا يُفْطن له فيُتصدّق عليه.

     قوله: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ» قال النّوويُّ: «قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ الْمِسْكِين هَذَا الطَّوَّاف» إِلَى قَوْله - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمِسْكَيْنِ: «الَّذِي لَا يَجِد غِنًى يُغْنِيه» إِلَى آخِره، مَعْنَاهُ: المِسْكِين الْكامِل الْمَسْكَنَة، الَّذِي هُوَ أَحَقّ بِالصَّدَقَةِ، وأَحْوَج إِلَيْها، لَيْسَ هُوَ هَذَا الطَّوَّاف، بَلْ هو الَّذِي لَا يَجِد غِنًى يُغْنِيهِ، ولَا يُفْطَنُ لَهُ، ولَا يَسْأَل النَّاسَ. ولَيْسَ مَعْنَاهُ نَفْيَ أَصْلِ المَسْكَنَة عَنْ الطَّوَاف، بَلْ مَعْنَاهُ نَفْي كَمَال الْمَسْكَنَة، كَقَوْلِهِ -تعالى-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إِلَى آخِر الْآيَة. انتهى.

أَولى الناسِ بوصْف المَسْكنة

     وقال الحافظ العراقي: «معنى الحَدِيثِ: أَنَّ المِسْكِينَ الكامِلَ المَسْكَنَةِ، هُوَ: المُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَطُوفُ على النَّاسِ ولَا يَسْأَلُهُمْ، ولَا يُفْطَنُ لِحَالِهِ، وليْسَ مَعْنَاهُ نَفْيَ أَصْلِ المَسْكَنَةِ عن الطَّوَّافِ، وإِنَّما مَعْنَاهُ نَفْيُ كمَالِها». انتهى. (طرح التثريب)، فيكون إذًا: أَولى الناسِ بوصْف المَسْكنة، وأحقّ الناس بصدقة المُتَصدِّقين، ليس هو الشخصُ الذي يذهبُ إلى الناس ويسألهم أنْ يُعطوه ما يَسُد به جُوعه، وهم يعرفون حاله، ويتفقَّدونه ويتعاهدونه بالصَّدقة، فلا يتركونه يضيع هو وأسْرته، وإنّما المَسْكين هو الشخص الفقير الذي لا يَسْأل الناس شيئًا، لا بلسان المقال، ولا بلسان الحال، بسبب عفَّته، وشدَّة حيائه، وفي الوقت نفسه لا يَفطن الناس لحاله، ولا يعلمون فقره وحاجته، فيبقى في بيته يعاني شدة الجوع والمَسْغبة هو وعياله، والناس يظنون أنه في غِنى وعافية وسعة رزق، فهذا الأخير هو: المسكين، والأول- وهو الذي يسأل الناس ويمد إليهم يده- يصدق عليه أيضًا أنَّه مسكين؛ إذْ لولا احتياجه ما تسوَّل وسأل؛ إلا أنَّ هذا الذي لا يسأل؛ أحقُّ وأجْدر بهذه التسمية.

المسكين الفقير

فأفادَ هذا الحديثُ أنّ المسكينَ فقيرٌ، لقوله: «لا يجدُ غنًى يُغنِيهِ» مع زيادة كونه مُتعفِّفًا، لا يقومُ فيسأل النّاسَ ولا يُفطَنُ له فيُتصدّق عليه. فالمسكينُ فقيرٌ متعفِّفٌ؛ وبهذا القيد يظهر الفرقُ بينهما، ويندفع قولُ مَن قالَ: إنّهما مستويان.

     ومعنى قوله: «تردُّه اللُّقمة واللُّقمتان، والتَّمرة والتمرتان» أنَّ الناس يُعطونه شيئًا ولو قلَّ فيرضى به، ومعنى: ولكنْ المسكين الذي لا يجد غِنى يغنيه، أي: لا يجد مالاً يكفيه، ويستغني به عن سؤال الناس، ومعنى: ولا يُفطن له فيُتصدق عليه، أنهم لا يعلمون بحاله وفقره وحاجته، لأنه لم يسألهم، ولم يطف عليهم، فهذا يكون في غاية المعاناة، حيث إنَّ الناس لا يَطَّلعون على حاله، ولا شك أنَّه هو الأجْدر والأولى بالصَّدقة، والإحْسان والبر، مع أنَّ الأول يُعطَى أيضًا.

قال في (طرح التثريب) -عند عدِّه الفوائد المستنبطة منْ هذا الحديث-: «فِيهِ أَنَّ الصَّدَقَةَ على المُتَعَفِّفِ؛ أَفْضَلُ منْها علَى السَّائِلِ الطَّوَّافِ». انتهى.

الفَرقُ بينَ الفقير والمسكين

وقد تكلم العلماء في الفقير والمسكين، وما بينهما مِنَ الفروق، والكلام عن هذا المسألة يساعد على بيان مُراد اللّه -تعالى-، ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - لكثير من نصوص الوحيين الشّريفين، كتابًا وسنّةً.

- وأول ذلك: ثبوت الفرق بينهما إذا اجْتمعا، واجتماعهما إذا افترقا، قال ابن قتيبة: «وممّا يَضعُه النّاسُ في غير موضعِه: «الفقير والمسكين»، لا يكاد النّاسُ يفرقون بينهما، وقد فَرَقَ اللّهُ -تعالى- بينهما في آية الصّدقات، ولم يَجمعهما باسمٍ واحدٍ، فقال -عزّ اسمُه-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ} (التّوبة: 60)، وجعل لكلّ صنفٍ منْهما سَهْمًا... أدب الكاتب (ص: 29)، وعطف المسكين على الفقير، يدلُّ على المغايرة كما هو معلوم.

- ثانيا: للعلماء في هذه المسألة مذاهب؛ وسببُ اخْتلافهم يعود إلى ما ذكره أبو هلال العَسكريّ -رحمه اللّه- في كتابه (الفروق) قال: «الفرقُ بين الفقيرِ والمسكين: لا خلافَ في اشتراكهما في وصْفٍ عدميٍّ، هو: عدمُ وفاءِ الكسبِ بالكُلِّيَّة، والمالِ لمُؤنته، ومؤونةِ عِياله. وإنّما الخِلافُ في أيِّهما أسْوأُ حالاً، ومنْشَأُ هذا الخِلاف؛ اختلافُ أهلِ اللُّغة في ذلك». (الفُروق اللّغوية) (1/409)، وهذا شيء من كلام أهل العلم في ذلك:

تعريف الفقير

الفَقْرُ، بالفتح ويُضَمُّ لغة، ضِدُّ الغِنَى، وأَصلُ الفَقْرِ: الحاجةُ، والفقيرُ: المحتاجُ. قال ابنُ عرفة: «الفَقِيرُ عند العرب المحتاجُ؛ قال اللهُ -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر: 15). أَي: المحتاجون إِليه».

تعريفُ المسكين

     فالمِسْكينُ، بكسر الميم، وأَصلُه في اللّغة: الخاضعُ الذّليلُ الْمَقْهُورُ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، والمَسْكنَةُ: هي الذُّلُّ والخضوعُ، وتَواضُعُ الحالِ؛ قال اللّهُ -تعالى-: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ} (البقرة: 61). أي الذُّلُّ والهوانُ؛ فالمسكينُ بهذا الاعتبارِ قد يكونُ فقيرًا، وقد يكون غنيًا.

وقيل: سُمِّيَ بذلك لِسُكُونِهِ إلَى النَّاسِ، أو لأنّه مِن قِلَّةِ المالِ؛ سَكَنتْ حركاتُه؛ ولذا قال -تعالى-: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أي: لاصِقٌ بالتّراب، وقد تَقعُ المَسْكَنة على الضَّعف.

     وعليه؛ فإِذا كانَ هذا المسكينُ إِنّما مَسْكَنَتُه من جهة الفَقْرِ؛ حَلَّتْ له الصّدقة، وإِذا كان مسكيناً قد أَذلَّهُ أمرٌ سوى الفَقْرِ؛ فالصّدقةُ لا تَحِلُّ له، إِذْ كان شائعاً في اللّغة أَن يُقالَ: ضُرِبَ فلانٌ المسكينُ، وظُلِمَ المسكينُ، وهو من أَهل الثَّرْوَةِ واليَسار، وإِنّما لَحِقَهُ اسمُ المسكينِ مِن جهةِ الذِّلَّةِ، فمَن لم تَكُنْ مَسكنتُه من جهةِ الفقر، أي: عُدم المال؛ فالصّدقةُ عليه حرامٌ.

- وممّا يدلُّ على افتراقِهما في الجملة: ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: «اللّهمَّ أحْيِني مِسْكينًا، وأمِتْني مَسْكينًا، واحشُرني في زُمْرة المَساكين». رواه التّرمذي ( 2275)، وابن ماجة (4116)، مع ما عُلِمَ مِن تَعَوُّذِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن الفَقْرِ.

أيهما أشدّ حاجة: الفقيرُ أم المسكين؟

- ثالثاً: العلماء اختلفوا في أيهما أشدّ حاجة: الفقيرُ أم المسكين؟ فذهبت طائفةٌ منهم إلى أنْ المَسكين أحْوج من الفقير؟

وهذا مذهب مالك رحمه الله فقال: المسكين مشتقٌ من السُّكون، فمعناه أنَّ يده قد سكنتْ عن التصرف، ليس يملكُ ولا يستطيع أنْ ينتج ويكسب، فهو فقيرٌ وزيادة، فقير لا يستطيع الكسب.

وأمَّا الفقير: فمشتق من فقرات الظَّهر، أي: أنه صالحٌ للعمل، فهو يَعمل على فقراته، لكنَّه لا يَجد ما يغنيه.

وذهب الجمهور: إلى أنَّ الفقير أحْوج مِنَ المسكين، واستدلوا لذلك بأدلة كثيرة، قال الحافظ في الفتح (4/107): «وهذا قول الشّافعيّ، وجُمهور أهلِ الحديث والفقه».

وقد استدلُّوا لمذهبهم بما يلي:

-  قوله -تعالى-: {وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ في البَحْرِ} الكهف: 79. فأَخبر أَنّهم مساكين، وأثبتَ لهم ملكيّة السّفينةً، حين نسبَها إليهم، وهي تُساوي مقداراً من المال. وأنّهم يعملون عليها في البحر؛ وكلام اللّهِ عزَّ وجلَّ أولى ما يُحتجُّ به.

-  وقال -تعالى- فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ: {لِلْفُقَرِاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً...} البقرة: 273. فهذه الحال الّتي أَخبر بها عن الفقراء، هي دون الحال الّتي أَخبر بها عن المساكين.

-  وأيضاً: فقد بُديءَ في آية الصّدقات بِالْفُقَرَاءِ، وهي قولُه عزّ اسمُه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ والمَسَاكِينِ...} التّوبة: 60. وذلك للاهتمام بشأنهم؛ لشدّة حاجتهم وفاقَتِهم؛ فَدَلَّ على أَنَّهُم أَهَمُّ، وإِنَّما يُبْدَأُ بِالأَهَمِّ فالأَهَمِّ، قال عليُّ بن حمزة: «وأَنتَ إذا تأَمّلتَ قولَه -تعالى-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ والمَسَاكِينِ}، وجدتَه -سبحانه- قد رتَّبَهُم، فجعل الثاني أَصلح حالاً مِنَ الأَوّل، والثالث أَصلح حالاً من الثاني، وكذلك الرّابع والخامس والسّادس والسّابع والثامن».

- وقال أيضًا: «وممّا يدُلُّكَ على أَنّ المسكينَ أَصلحُ حالاً من الفقير: أَنّ العربَ قد تسمَّتْ به، ولم تَتَسَمَّ بفقير؛ لِتناهي الفَقر في سُوء الحال، أَلا ترى أَنّهم قالوا: تَمَسْكَن الرّجلُ، فَبَنَوْا منه فِعْلاً على معنى التّشبيه بالمَسكين في زِيِّه، ولم يفعلوا ذلك في الفقير؛ إذ كانت حالُه لا يَتَزَيّا بها أَحدٌ؟!

- وفي حديث الباب: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ، فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، والتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ. قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَال: «الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، ولَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيهِ، ولَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا»، وفي رواية لمسلم: «إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ، اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، فالفقير هو السّائل الطَّوَّافُ؛ لأنّه بمسألته تأتيهِ الكفاية، وتأتيه الزيادة عليها؛ فيزولُ عنه اسْم الفقر. والمسكين لا يسأَلُ، ولا يُشْعَرُ به فيُعْطَى؛ لِلُزومه بيته، أَو لامتناع سؤاله، ونحو ذلك.

- وقد استعاذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الفقر، وسألَ المسكنة، حيث قال: «اللّهمّ إنّي أُعُوذُ بك مِنَ الفقر»، وقال: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ»، ولَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ -تعالى- شِدَّةَ الْحَاجَةِ، ويَسْتَعِيذَ مِنْ حَالَةٍ هي أَصْلَح مِنْها؟!.

هل الفقير أحسنُ حالاً مِن المسكين؟

أما مَنْ قالَ إنّ الفقيرَ أحسنُ حالاً مِن المسكين: وإنّ المسكينَ أسوأُ حالاً مِن الفَقير، وهو ما قاله الْفَرَّاءُ، وَثَعْلَبٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، ورواه ابن الأَنباريّ عن يونس، وهو قول أَبي حنيفة. وقد استدلُّوا لمذهبهم بما يلي:

- قوله -تعالى-: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ}، فإنّه جعلهم مساكينَ بعد ذهاب السّفينة، أو لأنّ سفينَتَهم غير مُعْتَدٍّ بها في جَنبِ ما كان لهم من المسكنة؛ فإنّه روي بأَنَّ السَّفِينَةَ لم تَكُنْ مِلْكاً لهم؛ لأنّهم كانوا يَعْمَلُون فيها بالأُجْرَة. ويَشْهَدُ لذلك قِرَاءَةُ من قَرَأَ بالتَّشْدِيد {لِمَسَّاكِينَ}.

     والجوابُ أن يقال: إنّ الخروج بالنّص إلى ضرب من التّأويل، بحاجة إلى قرينة صارفة لمدلول ظاهر النّص، أو بيّنة من خارجه، والقول بأنّه جعلهم مساكين بعد ذهاب السّفينة لا يستقيم. لأنّ اللّام في قوله {لمساكين} تفيد التّمليك. والقول بأنّ سفينتَهم غير معتدٍّ بها؛ فهذا مجرّد تَخمين لا قيمة له. والقول بأنّهم كانوا أجراء كذلك؛ لأنّ القراءة صرّحت بكونهم أصحاب مهنة {ملاّحين}.

-  وصف اللهُ -تعالى- المسكينَ بالفقرِ؛ لمّا أَرادَ أَن يُعْلِمَ أَنّ خُضوعَه لِفَقرٍ، لا لأَمرٍ غيرِه بقوله عزّ وجلّ: {أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ} البلد: 16؛ والمَتْرَبةُ: الفقر، وهو الّذي لَصِقَ بالتُّراب، لشدَّة حاجته. جوابُه أنْ يقال: إنّ اللّهَ عزَّ وجلَّ أَكدَّ سُوءَ حاله بصفة الفقر؛ ولا يُؤكَّدُ الشّيءُ إلاّ بما هو أَوكدُ منه.

- قالوا: المسكينُ أسوأ حالاً؛ لأنّه يؤكَّدُ به. يقال: فقيرٌ مسكينٌ، ولا يقال العكس. والتأكيد إنّما يكون بالأقوى  جوابُه: إنّ الفقيرَ قد يخلو من مذلّة السّؤال، كما وصفَ الله الفقراء بقوله: {تَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}؛ فهم لا يسألون النّاسَ، فإذا اضطرُّوا لسؤالهم عرّضوا أنفسَهم لمذلّة السّؤال؛ فيُقال لأحدهم حينئذٍ: فقيرٌ مسكينٌ.

- ويدلُّ عليه قوله -تعالى-: {لِلْفُقَرِاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً...} البقرة: 273، فوصفَهم بالفقر، وأخبرَ مع ذلك عنهم بالتَّعَفُّفِ حتّى يحسبهم الجاهلُ بحالهم أغنياءَ مِن التَّعَفُّفِ، ولا يحسبُهم أغنياءَ إلاّ ولهم ظاهرٌ جميلٌ، وعليهم بزَّةٌ حسنةٌ.

جوابُه: قوله {أغنياء}: استحقّوا هذا الوصفَ لاستغنائهم عن النّاس، وليس لجمال مظهرهم، وحسن بزّتهم. ثمّ إنّ الحال الّتي أَخبرَ بها المولى عزّوجلّ عن الفقراء هي دون الحال التي أَخبر بها عن المساكين؛ فتأمّل.

     أمَّا مَن سوّى بينهما: فرواه الجوهريُّ عن ابن الأَعرابيّ. قال في الفتح (4/107): «وقال آخرون: هُما سواء، وهذا قول ابن القاسم، وأصحاب مالك، وليس يخفى ضعف هذا المذهب، والقول به يلزم منه الإقرار بمسألة التّرادف في اللّغة، وهو مذهب محجوج بكثير من الأدلة.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك