رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 11 نوفمبر، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – الْكَانِزِينَ والتغليظ عليهم

 

عن الْأَحْنَفِ بنِ قَيْسٍ قَال: كُنْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ؛ فَمَرَّ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه وَهُوَ يَقُولُ: بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِكَيٍّ فِي ظُهُورِهِمْ، يَخْرُجُ مِنْ جُنُوبِهِمْ، وَبِكَيٍّ مِنْ قِبَلِ أَقْفَائِهِمْ، يَخْرُجُ مِنْ جِبَاهِهِمْ، قَالَ : ثُمَّ تَنَحَّى فَقَعَد، قَال: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هذا أَبُو ذَرّ، قَال: فَقُمْتُ إِلَيْهِ؛ فَقُلْتُ: ما شَيْءٌ سَمِعْتُكَ تَقُولُ قُبَيْلُ؟ قَال: ما قُلْتُ إِلَّا شَيْئًا قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم، قَال: قُلْتُ: ما تَقُولُ في هذَا الْعَطَاءِ؟ قَال: خُذْهُ؛ فَإِنَّ فِيهِ الْيَوْمَ مَعُونَةً؛ فَإِذَا كَانَ ثَمَنًا لِدِينِكَ فَدَعْهُ. الحديث رواه مسلم في الزكاة (2/690) وبوب عليه النووي بمثل تبويب المنذري.

     الأَحْنَفُ بنُ قَيْسٍ العالم النبيل أبو بحر التميمي مخضرم، أحدُ من يُضرب بحلمه وسؤدده المثل، كان سيد تميم، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ووفد على عمر رضي الله عنه  حدّث عن عمر، وعلي، وأبي ذر، والعباس، وابن مسعود، وعثمان بن عفان وعدة، قال ابن سعد: كان ثقةً مأموناً ، قليل الحديث. مات سنة 67هـ. وقيل : 72 هـ .

تَّخويف وتهديد

     يقولُ الأَحْنَفُ بنُ قَيْسٍ: كُنْتُ في نَفَرٍ من قُريشٍ؛ فمَرَّ أبو ذَرٍّ] وهو يقولُ: «بَشِّرِ الكانِزينَ بِكَيٍّ في ظُهورِهِمْ»؛ وذلك على سبيلِ التَّخويف والتهديد لمن منع زكاة ماله، و«الكانزين» هُمُ الَّذين يَكْنِزونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ والأموالَ، ولا يُنفِقونها في سبيلِ اللهِ، ولا يؤدون زكاتها الواجبة؛ فجزاؤُهم أنْ تُكْوَى ظهورُهم بشَيءٍ يَخْرُجُ من جُنوبِهم، أي: يخترق أجسادهم من ظهورهم حتى يخرج من جنوبهم، «وَبِكَيٍّ مِنْ قِبَلِ أَقْفائِهِمْ»، أي: من جهة مُؤخَّرةِ رُؤوسِهم، يَخرجُ هذا الكَيُّ من جِباهِهِمْ .

رواية مسلم

     وفي الرواية الأخرى لمسلم: عن الأحْنف بن قيس قال: قدمتُ المدينة؛ فبينا أنا في حلقةٍ فيها ملأ من قريش؛ إذْ جاء رجلٌ أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه؛ فقام عليهم فقال: بشّر الكانزين برُضَف يُحمى عليه في نار جهنم؛ فيوضع على حلمة ثدي أحدهم، حتى يخرج من نغض كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه، يتزلزل، قال: فوضع القومُ رؤوسهم؛ فما رأيتُ أحداً منهم رجع إليه شيئا، قال: فأدبر واتبعته حتى جلس إلى سارية؛ فقلت: ما رأيتُ هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم! قال: إنّ هؤلاء لا يعقلون شيئا، إنّ خليلي أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- دعاني؛ فأجبته؛ فقال: أتَرى أحداً؛ فنظرت ما علي من الشمس، وأنا أظن أنه يَبْعثني في حاجةٍ له؛ فقلت: أراه؛ فقال : ما يسرّني أن لي مثله ذهباً أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير، ثم هؤلاء يجمعون الدنيا لا يعقلون شيئا، قال قلت : مالك ولإخوتك من قريش، لا تعتريهم، وتصيب منهم؟ قال: لا وربّك، لا أسْألهم عن دنيا، ولا أسْتفتيهم عن دينٍ حتى ألْحق بالله ورسوله .

مَنْ هذا الَّذي تكلَّم آنِفًا ؟

     قال الأَحْنَفُ: ثمَّ تَنحَّى، أي: بَعُدَ عن المكان أبو ذَرٍّ بعدَما تكلَّم؛ فَقَعَدَ، قال الأحنفُ: فقُلْتُ: مَنْ هذا؟ أي: مَنْ هذا الَّذي تكلَّم آنِفًا؟ فقالوا لي: هذا أبو ذَرٍّ صاحبُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : فَقُمْتُ إليه، أي: ذهبْتُ إليه؛ فقُلْتُ له: «ما شيءٌ سمِعتُكَ تقول قُبَيْلُ؟»، أي: ما معنى ما قُلْتَهُ قَبْلَ قليلٍ، أهو عن رأيِكَ، أو شيءٌ سمِعْتَهُ مِنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبو ذَرٍّ : «ما قُلْتُ إلَّا شيئًا قدْ سمعتُه من نبيِّهم صلى الله عليه وسلم »، أي : إنَّ الَّذي قُلتُهُ قد سمِعْتُهُ مِنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .

ما تقولُ في هذا العَطاءِ ؟

     قال الأحنفُ: فقُلْتُ له: «ما تقولُ في هذا العَطاءِ؟»، أي: ما رأيُكَ فيما نأخُذُهُ من عَطاءِ الخُلَفاءِ والأُمَراءِ؟ وكأنَّ الأحنفَ خاف مِنَ الوعيدِ الَّذي قاله أبو ذَرّ رضي الله عنه : فيمَنْ يَكْنِزونَ الأموالَ ولا يُنفِقونها في سبيلِ اللهِ؛ فقال له أبو ذَرٍّ: «خُذْهُ»، أي: هذا العَطاءَ؛ «فإنَّ فيه اليومَ مَعونَةً»، أي: خُذْهُ ففيه عَوْنٌ لك على أمور دينك ودنياك، وقضاء حوائجك، «فإذا كان» أي: أمّا إذا كان هذا العَطاءُ  «ثَمَنًا لِدينِكَ»، أي : إنْ كان هذا العَطاءُ رِشْوَةً؛ لِتَسكُتَ عن إنكارِ المُنكَرِ، «فَدَعْهُ»، أي : فاتْرُكْ هذا العَطاءَ .

وفي الحديثِ: بيانُ الوعيدِ الشَّديدِ لِمَنْ لم يُخْرِجْ زكاةَ مالِهِ، وعقوبةِ كَنْزِ الأموالِ وجَمْعِها، والعذاب الأليم الذي ينتظره، وفيه : التَّحذيرُ من عَطاءِ ولاةِ الأمر، إذا كان سَببًا للسُّكوتِ عن الحقِّ، أو شِراءِ الدِّين والذِّممِ، أو الرضا بالباطل، أو قولِ الباطلِ .

باب : الأمْر بإرْضاء المُصَدِّقين

     عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قال: جَاءَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فقالُوا: إِنَّ نَاسًا مِنْ الْمُصَدِّقِينَ يَأْتُونَنَا؛ فَيَظْلِمُونَنَا! قَال: فقَال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ»، قال جَرِيرٌ ما صَدَرَ عَنِّي مُصَدِّقٌ ، مُنْذُ سَمِعْتُ هذا مِنْ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا وهُوَ عَنِّي رَاضٍ. الحديث رواه مسلم في الزكاة (2/685) وبوب عليه النووي: باب إرضاء السعاة، ورواه (2/757) في باب: إرضاء الساعي ما لم يطلب حراما، ولفظه: «إذا أتَاكم المُصَدِّق؛ فليَصْدُر عنكم وهو عنكم راضٍ».

قوله: «إنَّ ناساً من المصدّقين»

     قوله: «إنَّ ناساً من المصدّقين» بتَخْفِيف الصَّاد وتشديد الدال، وهم السُّعاة الْعَامِلُونَ على جمع الصَّدقَات والزكوات، وقوله : «يأتوننا فيظلموننا» فيَظلِمونا، أي: يَأخُذونَ أكثرَ ممَّا هوَ مَطلوبٌ منَّا، فَقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَرْضُوا مُصِّدِّقيكُم»، ومَعناه : أَرْضُوهم ببَذلِ الْواجبِ، وعدم المشاحة في بذله، ومُلاطفَتِهم، وتَركِ مَشاقِّهم ومخالفتهم؛ وهذا محمولٌ على الظلم اليسير، الذي لا يفسق به الساعي؛ إذْ لو فسق لانعزل، ولم يجب الدفع إليه، والظلم قد يكون بغير معصية؛ فإنه مجاوزة الحدّ، ويدخل في ذلك المكروهات، ومع ذلك؛ فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم، قد أوصى المصَّدِّقين بالعدل، وأمرهم أنْ يأخُذوا الوسط من المال، وأنْ يتوقّوا كرائمَ أموالهم؛ فكانت موازنة حكيمة في التشريع الرباني بأمر كلٍّ منهما بما يجب عليه .

ما صَدرَ عنِّي مُصِّدِّقٌ

قال جَريرٌ رضي الله عنه : ما صَدرَ عنِّي مُصِّدِّقٌ، منذُ سَمِعتُ هذا مِن رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا وهوَ عنِّي راضٍ. أي: ما ذَهبَ عنِّي مُصِّدِّقٌ، وما رَجعَ عنِّي عاملُ زكاةٍ، إلَّا وهوَ عنِّي راضٍ.

العدالة المطلقة

     وفي الحَديثِ: أنه لا يُشترط في المصَّدِّقين العدالة المطلقة؛ فالكمال لله وحده، والنقص كامنٌ في بني البشر، فلو تظلمت القبائل واشتكت من بعض المصَّدِّقين، كان على الإمام أنْ يقدّر نوع المظالم، وهل هي مُسقطة لعدالته، وموجبة لعزله، أم لا؟ وأنَّ محاسبة العمال على ما جمعوه من القبائل، فيه تصحيحٌ لأعمالهم، وتقوية لأمانتهم، وقد ورد في الحديث محاسبة ابن اللتبية وما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم معه؛ لما وجد معه من جنس مال الصدقة، وادَّعى أنه أُهدي إليه.

وفيه: وجوبُ إِخراجِ الزَّكاةِ في كُلِّ الأَحوالِ.

وفيه: إِرضاءُ عُمَّالِ الزَّكاةِ بإعطاءِ الزَّكاةِ بطِيبِ نَفْسٍ، وعَدمِ مُماطلَةٍ في قَدرِها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك