رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 24 مارس، 2024 0 تعليق

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ما يقولُ إذا رَكِبَ إلى سَفَرِ الحَجِّ وغيرِه

  • الحديث فيه فوائد عظيمة تتعلق بالسفر والدُّعاء الوارد فيه يشتمل على طلب مصالح الدين التي هي أهمّ الأمُور وعلى مَصَالح الدنيا وعلى حُصول المَحاب ودفع المكاره والمَضار
  • السَّفَرُ فيه المَشقَّةُ والعَناءُ ومِن رَحمةِ اللهِ سُبحانَه أنْ خلَقَ لعِبادِه ما وفَّقَهم لصُنعِه ممّا يَركَبونَه فتَحمِلُهم على ظُهورِها للوُصولِ إلى غاياتِهم بلا عَناءٍ ومَشَقَّةٍ
 

عن عَلِيِّ الْأَزْدِيِّ: «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَلَّمَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ والتَّقْوَى، ومِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، واطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، والْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ والْأَهْلِ». وإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ، وزَادَ فِيهِنَّ: «آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ». الحديث رواه في الحج (2/978) وبوب عليه بمثل تبويب المنذري.

         في هَذا الحَديثِ يُعلِّمُ الصحابي عبداللهِ بنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- بعضَ أَصْحابِه دُعاءَ السَّفرِ، فأخبَرَهم أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رَكِبَ واستَقرَّ عَلى ظَهرِ بَعيرِه، ويدخُلُ فيه كلُّ أنْواعِ الدوابِّ الَّتي تُركَبُ، وكذا الوَسائلُ الحَديثةُ، «خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ» خارجًا مِنَ المَدينةِ إِلى سَفرٍ من الأسفار.

كان -صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: «اللهُ أَكبرُ» ثَلاثَ مرَّاتٍ

        كان يَقولُ: «اللهُ أَكبرُ» ثَلاثَ مرَّاتٍ، أي: يذكُرُ اللهَ -تعالى- بالتكبير، وتَكبيرُه - صلى الله عليه وسلم - عندَ الاسْتِواءِ والارْتفاعِ فوقَ الدابَّةِ، هو استِشْعارٌ لكِبرياءِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، وأنَّه أكبَرُ منْ كلِّ شيءٍ، فيُكبِّرُه ليَحمد له ذلك، فيَزيدَه من فَضلِه، وهو افتتاحٌ لسفره بتكبيرِ الله -عزَّ وجلَّ-، والثناء عليه، كما كان يختمه بذلك. ثُمَّ يَقولُ: «سُبحانَ الَّذي سخَّر لَنا هَذا» فَجَعلَه مُنقادًا لَنا، والإشارةُ إلى المَركوبِ، «وَما كنَّا له مُقْرِنينَ» فأي: ما كنَّا نُطيقُ قَهرَه واستِعمالَه للرّكوب، لوْلا تَسخيرُ اللهِ -سُبحانَه وتعالى- إيَّاه لَنا، ففيه الثّناء على الله بتَسخِيره للمَرْكوبُات التي تَحْمل الأثقال والنُّفوس إلى البلاد النائية، والأقطار الشّاسعة، واعْترافٌ بنعمة الله بالمَركوبات، وهذا يدخل فيه المَركوبات منَ الإبل والخَيل، وكذا المراكب البحريّة والبريّة والجوّية الحديثة، فكلّها تدخل في هذا، وبهذا ذكّر نوحٌ - صلى الله عليه وسلم - الرّاكبين معه في السّفينة فقال: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (هود:41)، وقال -تعالى-: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} (إبراهيم: 32). فهذه المراكب كلّها، وأسبابها، وما به تتمّ وتكتمل، كلّها منْ نِعم الله وتسخيره، يجبُ على العباد الاعتراف لله -تعالى- بنعمته فيها، وخُصُوصاً وقت مباشرته -يعني الرُّكوب- ففيه تذكّر النّعمة التي لولا الباري لما حَصَلت، ولكنّ أكثر الخلق في غفلة عن شُكره، بل في عُتوٍّ واسْتكبار عن الله، وتَجبّر بهذه النّعم على العباد.

قوله: {وَإنَّا إِلى ربِّنا لَمُنقلِبونَ}

        قوله: {وَإنَّا إِلى ربِّنا لَمُنقلِبونَ} أي: وإنَّا إلى رَبِّنا من بعدِ مماتِنا لصائرونَ إلى الله -تعالى-، وراجِعونَ إليه؛ فإنَّ الإنْسانَ لَمَّا رَكِبَ مُسافراً عَلى ما ذَلَّل اللهُ له، كأنَّه يَتذكَّرُ السَّفرَ الأَخيرَ مِن هَذه الدُّنيا، وهوَ سَفرُ الإنْسانِ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ- إذا ماتَ، وحَمَله النَّاسُ على أَعْناقِهم، فكما أنّ الإنسان يُسَافر في الدنيا، فهناك سفرٌ آخر إلى الآخرة، فكما بدأ الخَلْق فهو يعيدهم، قال -سبحانه-: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق: 8). أي: إلى الله المصير والمرجع، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم:31). ثُمَّ بَعدَ ذَلك أَثنَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلى اللهِ ودَعاهُ، فقالَ: «اللَّهمَّ إِنَّا نَسْألُكَ في سَفرِنا هَذا البِرَّ والتَّقْوى، ومِنَ العمل ما تَرْضى» والبِرُّ: هو الْتِزامُ الطَّاعةِ، والتَّقْوى: البُعدُ عنِ المَعصيةِ، أي: يَمْتثِلُ الأَوامرَ والواجبات، ويَجتنِبُ النَّواهيَ والمُحرّمات، ثمّ سَألَ ربَّه أنْ يَرزُقَه مِنَ العَملِ ما يَرضَى بِه عنْهُ. فسأل اللهَ -تعالى- أنْ يكون السّفر مَوصُوفًا بهذه الوَصْف الجليل، محتويًا على أعمال البر كلّها، سواءً المُتعلّقة بحقّ الله، والمتعلّقة بحُقُوق الخَلْق، وعلى التقوى التي هي اتّقاء سَخط الله، بتركِ جميع ما يكرهه الله مِنَ الأعمال والأقوال، الظّاهرة والباطنة، كما سَأله العمل بما يَرْضاه الله، وهذا يَشْمل جميعَ الطّاعات والقُرُبات، ومتى كان السفر على هذا الوصف، فهو السّفر الرابح، وهو السّفر المبارك.

قوله: «اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا»

      قوله: «اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، واطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ» سأَلَه تَهوينَ السَّفرِ وهوَ تَيسيرُه، وأنْ يُقرِّبَ لَه مَسافةَ ذَلك السَّفرِ، فكم مِنْ سَفرٍ امتدّ أياماً كثيرة، لكنّ الله هوّنه ويسّره على أهله! وكم مِنْ سَفرٍ قصير، صار أصعب مِنْ كل صعب! فلا سهل إلا ما جعله الله سهلاً، بلطفه ومعونته. ثُمَّ أتْبَعَ دُعاءَه بقولِه: «اللَّهُمَّ أَنتَ الصَّاحبُ في السَّفرِ» يَعني: تَصحَبُني في سَفَري، فتُيسِّرُه وتُسهِّلُه عليَّ، «والخَليفةُ في الأَهلِ» أي: مِن بَعْدي، فتَحوطُهم بِرعايتِكَ وعِنايتِكَ، فهوَ -جلَّ وعَلا- معَ الإِنسانِ في سَفرِه، وخَليفتُه في أَهلِه؛ لأنَّه -جلَّ وعَلا- بكُلِّ شَيءٍ مُحيطٌ، وعلمه وقُدْرته في كلّ مكان.

الاستعاذة من وعثاء السفر

        ثُمَّ استَعاذَ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بعضِ ما يُصيبُ الإِنسانَ في السَّفرِ، ومِنها «وَعْثاءُ السَّفرِ» وهيَ شِدَّتُه ومَشقَّتُه وتَعَبُه، «وكآبةُ المَنظَرِ» وهيَ تَغيُّرُ الوجهِ كأنَّه مَرضٌ، والنَّفسِ بالانْكسارِ ممَّا يَعرِضُ لها فيما يُحِبُّه ممَّا يُورِثُ الهَمَّ والحُزنَ، وقيلَ: المُرادُ مِنه الاستِعاذةُ مِنْ كلِّ مَنظرٍ يَعقُبُ الكآبةَ عندَ النَّظرِ إِليهِ، «وسُوءُ المُنقلَبِ» وَذلكَ أنْ يَرجِعَ فَيَرى في أَهلِه وَمالِه ما يَسوؤُه. قوله: «وكان إذا رجَعَ قالَهنّ» أي: تلكَ الجُمَلَ المَذكورةَ، وقالَ بعدَهنَّ: «آيِبونَ» أي: نحنُ راجِعونَ مِنَ السَّفرِ بالسَّلامةِ، «تائِبونَ» مِنَ المَعصيةِ إلى الطَّاعةِ، «عابِدونَ، لربِّنا حامِدونَ» أي: مُثْنونَ عليه -تعالى- بصِفاتِ كَمالِه وجَلالِه، وشاكِرونَ له على نِعَمِه وأفْضالِه. والمَعْنى: أنَّنا في طَريقِ عَودَتِنا إلى بَلَدِنا ومَوْطِنِنا وأهْلِنا، قدْ عَقَدْنا العَزْمَ على العَوْدةِ إلى اللهِ -تعالى-، والتَّوْبةِ الصَّادِقةِ له، المُقْتَرِنةِ بالأعْمالِ الصَّالحةِ، مِنَ الشُّكرِ للهِ، والمواظَبةِ على عِبادتِه، والتَّقرُّبِ إليه بالصَّلاةِ، وغيرها من الأعمال الصالحة. كان - صلى الله عليه وسلم - في كُلِّ حالِه يَتذكَّرُ العِبادةَ فهوَ - صلى الله عليه وسلم - في كُلِّ حالِه يَتذكَّرُ العِبادةَ، وأنَّه عبْدٌ للهِ -سُبحانَه وتعالى-، فيسأل الله -تعالى- في رجُوعه وعَوده مِنْ سفره، فيقول: «آيبون تائبون عابدون، لربّنا حامدون»، أي: نسألك اللهمّ أنْ تجعلنا في إيابنا ورجُوعنا، مُلازمين للتوبة لك، وعبادتك وحمدك، وأنْ تَخْتم سفرنا هذا بطاعتك، كما ابتدأته بالتوفيق لها، وهذا يُشبه قوله -تعالى-: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (الإسراء:80). ومدخل الصِّدْق ومَخْرجه: أنْ تكونَ أسْفار العبد، ومداخله ومخارجه، كلّها تحوي الصّدْق والحَقّ، والاشتغال بما يُحبه الله ويرضاه، مقْرونة بالتّوكل على الله، ومصحوبة بمَعونَته، وقد كانت أسفاره - صلى الله عليه وسلم - كلها محتوية لهذه المعاني الجليلة، وكلّها في طاعة الله -تعالى- وطلب مرضاته.

قوله: «لربّنا حامدُون»

       قوله: «لربّنا حامدُون» فيه: الاعتراف بنعمتِه آخِراً، كما اعْترفَ بها أولاً في تسخير الدّابة، فكما أنّ على العَبد أنْ يَحْمد الله على التوفيق لفعل العبادة، والشُّروع في الحاجة، فعليه أنْ يَحمدَ الله على تكميلها وتَمَامها، والفَراغ منها، فإنّ الفَضَل فضله، والخير خيره، والأسْباب أسبابه، والله ذو الفَضل العظيم. وفي حَديثِ عبداللهِ بنِ سَرجِسَ - رضي الله عنه  -في صَحيحِ مُسلمٍ (2/979) ومُسنَدِ أحمَدَ- أنَّه كان يَبدأُ بالأهْلِ إذا رجَعَ، وفيه يقولُ: «كان رسولُ الله إذا سافر، يَتعوّذ مِنْ وعثاء السفر، وكآبة المُنقلب، والحور بعد الكون، ودَعوة المظلُوم، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ». وفيه أيضا: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - استَعاذَ مِنَ الحَوْرِ بعدَ الكَوْرِ، يَعني: مِنَ النُّقصانِ بعدَ الزِّيادةِ، وتَغيُّرِ الحالِ مِنَ الطَّاعةِ إلى المَعصيةِ، وتَعوَّذَ أيضًا مِن دَعوةِ المَظلومِ، أي: أَعوذُ بكَ مِنَ الظُّلمِ، فإنَّه يَترتَّبُ عَليه دُعاءُ المَظلومِ، فإنَّه ليس بينَه وبينَ اللهِ حِجابٌ، كما في الصَّحيحَينِ. ولهذا قال في تحقيق تهوين السفر اللهم: إني أعوذ بك من وعثاء السفر أي: مشقته وصعوبته وكآبة المنظر أي: الحزن الملازم، والهم الدائم وسوء المنقلب في المال والأهل والولد أي: يا رب نسألك أن تحفظ علينا كل ما خلفناه وراءنا، وفارقناه بسفرنا، من أهل وولد ومال، وأن ننقلب إليهم مسرورين بالسلامة، والنعم المتوافرة علينا وعليهم، فبذلك تتم النعمة، ويكمل السرور.  

فوائد الحديث

  • الحديث فيه فوائد عظيمة تتعلق بالسفر، والدُّعاء الوارد فيه، يشتمل على طلب مصالح الدين، التي هي أهمّ الأمُور، ومَصَالح الدنيا، وعلى حُصول المَحاب، ودفع المكاره والمَضار، وعلى شُكر نعم الله، والتذكّر لآلائه وكرمه، واشْتمال السّفر على طاعة الله، وما يقرب إليه.
  • التَّرغيبُ في ذِكرِ اللهِ -تعالى- عندَ السَّفرِ والرُّجوعِ منه.
  • تَذكَّر نِعمةَ اللهِ -تعالى- عليهم بتَيسيرِه وتَذليلِه لهم تلك المراكِبَ.
  • السَّفَرُ فيه المَشقَّةُ والعَناءُ، ومِن رَحمةِ اللهِ -سُبحانَه- أنْ خلَقَ لعِبادِه ما وفَّقَهم لصُنعِه ممّا يَركَبونَه في البَحرِ مِنَ السُّفُنِ، وفي البَرِّ مِنَ الإبلِ والخيلِ والسَّيَّاراتِ، وفي الجَوِّ مِنَ الطَّائراتِ، فتَحمِلُهم على ظُهورِها للوُصولِ إلى غاياتِهم بلا عَناءٍ ومَشَقَّةٍ.
 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك