رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 18 مارس، 2024 0 تعليق

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: فَضلُ يوم عَرَفة

  • الدُّعاء لا يلزم أنْ يُسْتجاب كما دعا به الدّاعي بل هو في نفسِه عبادةٌ يثاب عليها المُسلم والمُسلمة
  • الأيَّامُ الفاضِلةُ مَواسِمُ لنَفَحاتِ اللهِ وعَطاياهُ لعِبادِه يَغفِرُ فيها الذُّنوبَ ويَرفَعُ فيها الدَّرَجاتِ
 

عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْداً مِنْ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ». الحديث رواه مسلم في كتاب الحج (2/982-983) باب: في فضل الحجّ والعمرة، ويوم عرفة.

       في هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ ما يكونُ في يَومِ عَرفةَ مِنَ الخَلاصِ عنِ العَذابِ، والعِتقِ منَ النَّارِ، أَكثرَ ممَّا يَكونُ في سائرِ الأيَّامِ، و(عَرَفةُ) موضع على الطَّريقِ بيْنَ مَكَّةَ والطَّائِفِ، تبعُدُ عن مَكَّةَ حَوالَيْ (22 كم)، وعلى بُعدِ (10 كم) مِن مِنًى، و(6 كم) مِن مُزدَلِفةَ، يقِفُ عليها الحجَّاجُ يومَ التَّاسِعِ من ذي الحِجَّةِ يَدْعونَ اللهَ ويَستَغفرونَه.

اقتراب الله من عباده الحجيج

      قوله: «وإنَّه» -سُبحانَه وتعالى- «لَيدْنو» أي: يَقْتربُ مِنْ عباده الحَجيج، ويدنو دُنُوًّا حقيقياً يَليقُ بجَلالِهِ وعَظمَتِه، كما أثْبَتَه -سُبحانَه- لِنَفسِه، دُونَ تَشبيهٍ أوْ تَمثيلٍ، كما هو قول أهل السنّة والجَماعة في سائر الأسْماء والصّفات الإلهية، وروى ابن خزيمة وابن حبان والبزار وأبو يعلى والبيهقي: عن جابر - رضي الله عنه -، مرفوعاً: «ما مِنْ يومٍ أفضل عند اللهِ منْ يومِ عَرفة، ينزلُ الله -تعالى- إلى سَماء الدنيا، فيُباهي بأهْلِ الأرْض أهلَ السّماء،...».

قوله: «ثُمَّ يُباهي بِهم المَلائكةَ»

       قوله: «ثُمَّ يُباهي بِهم المَلائكةَ» بمَن بعَرَفةَ منَ المسلِمينَ الواقِفينَ، فيُظهِرُ فَضْلَهم للملائكة، ويُرِيهِم حُسنَ عَملِهم، ويُثْني عَليهم عِندَهم، والمباهاة أَصلُها من البَهاءِ: وهو الحُسنُ والجَمالُ، فيُفاخِرُ بهم ويُعظِّمُهم بحَضرةِ الملائكةِ. قوله: «فيَقولُ: ما أَرادَ هَؤلاءِ؟» أي: أيُّ شَيءٍ أَرادَ هَؤلاءِ، حيثُ تَركوا أهْلَهم وأَوْطانَهم، وصَرَفوا أَموالَهم، وأَتعَبوا أَبْدانَهم؟ والجوابُ محذوفٌ، تَقديرُه: ما أرادُوا إلَّا المَغفرةَ والرِّضا من ربّهم، وهذا يَدُلُّ عَلى أَنَّهم مَغفورٌ لَهم، لأنَّه لا يُباهى بأهْلِ الخَطايا والذُّنوبِ، إلَّا مِن بَعدِ التَّوبةِ والغُفرانِ. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «إنّ الله يُباهي بأهلِ عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شُعْثاً غُبْراً». رواه أحمد في «مسنده» وابن حبان في «صحيحه»، والحاكم في «مستدركه».

فضل يوم عرفة

      وعن جابر - رضي الله عنه -، مرفوعاً أيضًا: «ما مِنْ يومٍ أفضل عند الله منْ يومِ عرفة، ينزل الله -تعالى- إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثًا غبرًا ضاجِّين، جاؤوا من كلّ فجٍّ عميق، يرجُون رحمتي، ولم يروا عقابي، فلم يُرَ يوماً أكثر عتقاً من النار، مِنْ يومِ عرفة». رواه ابن خزيمة وابن حبان والبزار وأبو يعلى والبيهقي. وفي مصنف عبد الرزاق: من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: في حديث الرجلين اللَّذين جاءَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يسألانه عن أمْر دينهم، وكان منْ جوابه لهما: «وأمّا وقوفك بعَرفة، فإنّ الله -تبارك وتعالى- ينزلُ إلى سَماء الدنيا، فيُباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوا شُعثاً غبراً منْ كلّ فجٍ عَميق، يَرجُون رحمتي، ويَخافُون عَذابي، ولمْ يَروني، فكيفَ لو رَأوني؟ فلو كانَ عليك مثل رَمْل عَالج، أو مثل أيامِ الدُّنيا، أو مثل قَطْر السماء ذُنُوبًا، غَسَلها اللهُ عنك». ونحوه عند ابن عبد البر في (تمهيده) بسندٍ صحيح: عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في مَسجد الخَيف قاعداً، فأتاه رجلٌ مِنَ الأنْصار، ورجلٌ مِنْ ثقيف، فذكر حَديثاً فيه طول، وفيه: «... وأمّا وقُوفك عشية عرفة، فإنّ الله يهبطُ إلى سماء الدنيا، ثمّ يباهي بكم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثاً سُفْعاً، يرجون رحمتي ومغفرتي، فلو كانتْ ذُنُوبكم كعَدَد الرّمل، وكعَدد القَطْر، وكزَبَد البَحر، لغفرتُها، أفيضُوا عبادي مَغْفوراً لكم، ولمَنْ شَفَعتم له».

«يا بِلال، أنْصت لي الناس»

      وروى ابنُ عبد البر أيضاً: بسنده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «وقَفَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعَرَفات، وكادت الشّمس أنْ تؤوب، فقال: «يا بِلال! أنْصت لي الناس»، فقامَ بلال، فقال: أنْصتوا لرسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنَصَت الناس، فقال: «مَعَاشر الناس، أتاني جبريل آنفًا، فاقْرأني منْ ربّي السلام، وقال: إنّ اللهَ غَفَر لأهل عرفاتٍ، وأهلِ المَشْعر، وضَمِنَ عنْهم التَّبِعات». فقام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال: يا رسولَ الله، هذا لنا خاصٌّ، فقال: «هذا لكم، ولمَنْ أتَى بَعْدكم إلى يوم القيامة»، فقال عمر - رضي الله عنه -: كثُر خيرُ اللهِ وطَاب. ورمل عالج: هو ما تَراكَمَ مِنَ الرّمل، ودَخل بعضُه في بعض. وعالِج: موضِعُ معروف بالبادية، بها رَمْل. وشعثًا: منْ تَلَبَّدَ شعره واغْبَرَّ، والشَّعِث: المُغْبَرُّ الرأْس، الجافُّ الذي لم يَدَّهِن. والتَّشَعُّث: التَّفرُّق والتنكُّث. سُفْعاً: السَّفْع السَّواد والشُّحوب، ومنه قيل للأَثافي: سُفْعٌ، وهي التي أُوقد بينها النار، فسَوَّدَت صِفاحَها التي تلي النار. غُبراً: الغُبْرة: اغبِرار اللَّون، يغْبَرُّ للهمِّ ونحوه، والغُبْرة لون الأغبر، وهو شبيه بالغبار. قال الحافظ النّووي: «هذا الحديث ظاهر الدلالة في فَضل يومِ عرفة، وهو كذلك»، وقد وفَّق النووي بين الأحاديث الدالة على فَضْل يوم عَرَفة، والأحاديث الدالّة على فضل يوم الجُمعة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ يومٍ طَلعتْ فيه الشمس، يوم الجُمعة». رواه مسلم، بأنّ الأحاديث الواردة في فضل يوم عرفة، تفيد أنّ يومَ عَرَفة أفضل أيام السَنة، أمّا الأحاديثُ الواردة في أفضليّة يوم الجُمعة، فمحمولة على أنّ يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع. انظر شرحه على «صحيح مسلم».

الإكثار منْ ذكر الله -تعالى

       وقال ابن قدامة في المغني: يستحب الإكثار منْ ذكر الله -تعالى-، والدُّعاء يوم عرفة؛ فإنّه يومٌ تُرْجى فيه الإجابة، ولذلك أحببنا له الفِطْر يومئذ، ليتقَوّى على الدُّعاء، مع أنّ صومه بغيرِ عرفة يعدل سنتين. انتهى، وقد رُوي عن سالم بن عبد الله بن عمر: أنّه رأى سائلاً يسألُ يومَ عرفة، فقال: يا عاجز، في هذا اليوم تَسْأل غير الله؟! وذهب بعضُ أهل العلم: إلى أن هذا الفَضل خاصٌّ بالحَاج. قال الباجي المالكي: ويَحتمل أنْ يُريدَ به الحاج خاصّة، لأنّ معنى دُعاء يوم عَرَفة في حقّه يَصح، وبه يختص، وإنْ وُصِف اليوم في الجُمْلة بيوم عرفة، فإنّه يُوصفُ بِفعل الحاج فيه، والله أعْلم. انتهى. (المنتقى شرح الموطأ). فمن رأى تعلّقَ الفضل في الحديث بالمكان مع الزمان، قَصَرَ ذلك على الحاج في عرفة، ومَنْ رأى تعلق الفضل بالزّمان، جَعله عامًا يشمل الحاج وغيره، وإنْ كان هو للحاج آكدَ، والإجابة في حقّه أقربَ، لاجتماع فضل المَكان مع الزمان. وحديثنا في الباب هنا: أنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما مِنْ يومٍ أكثر مِنْ أنْ يُعْتقَ اللهُ فيه عبداً مِنَ النار، مِنْ يوم عرفة..». قد ذكر فَضل اليوم والزّمان.    

فوائد الحديث

  • أنّ الله فَضَّلَ بعضَ الأيَّامِ عَلى بعضٍ، والأيَّامُ الفاضِلةُ هي مَواسِمُ لنَفَحاتِ اللهِ، وعَطاياهُ لعِبادِه، يَغفِرُ فيها الذُّنوبَ، ويَرفَعُ فيها الدَّرَجاتِ، وَمِن تِلكَ الأيَّامِ الفاضلةِ: يَومُ عَرَفةَ، وهو الرّكن الأعظم في الحج.
  • إِثباتُ صِفةِ الدُّنوِّ للهِ -سُبحانَه وتعالى-، والقُرْب مِنْ عباده، كَما تَليقُ بجَلالِه وعَظمتِه، كما ثبت ذلك في الثُلث الأخير مِنَ الليل.
  • وفيه: إِثْباتُ صِفةِ المُباهاةِ للهِ -سُبحانَه وتعالى-، كَما تَليقُ بِجلالِه وعَظمتِه.
  • أعظمُ الجوائز في يومِ عَرَفة: غُفْرانُ الذّنُوب.
خطبَ عمرُ بن عبد العزيز - رضي الله عنه - بعَرفة، فقال: «إنّكم قد جِئتُم مِنَ القريب والبَعيد، وأنْضَيتُم الظّهر- أي: أتْعبتم رَواحلكم-، وأخْلَقْتُم الثياب - أي: أبليتُم ثيابكم، وليس السّابق اليوم مَنْ سَبقت دابّته وراحلته، وإنّما السّابق اليوم مَنْ غُفر له. وننبّه على أنّ الدُّعاء لا يلزم أنْ يُسْتجاب كما دعا به الدّاعي، بل هو أولاً في نفسِه عبادةٌ يثاب عليها المُسلم والمُسلمة، وقد يُعجِّل الله ثمرة هذه الطاعة للدّاعي فيَحصل مطلوبُه، وقد تكون سببًا لحصول نِعَمٍ أُخَرَ، أو اندفاع مَصائب، وقد يُؤخّر الله ثمرته إلى الآخرة، فيكفّر به السيّئات، ويَرفع به الدّرجات.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك