رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 13 مايو، 2024 0 تعليق

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الحجُّ عمَّنْ لا يَسْتَطيعُ الرُّكوب

  • من فوائد الحديث منْعُ النَّظَرِ إلى الأجنبيَّاتِ وغَضُّ البَصَرِ وأنه يخشى على الصالحين ما يخشى على غيرهم من الفتنة بالنساء
  • العالِم يُغيِّرُ مِن المُنكَرِ ما يُمكِنُه إذا رَآه وإزالةُ المُنكَرِ باليَدِ لمَن أمكَنَه مِن غَيرِ مَفسَدةٍ زائدةٍ عنِ المُنكَرِ الحاصِلِ ولو مع الأقارب
 

عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، قَالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ؛ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخاً كَبِيراً، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَال: «نَعَمْ». وذَلِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/973) باب: الحَجّ عن العَاجز لزَمانةٍ وهَرَم ونحوهما، أو للمَوت، وقد ذكره البخاري في باب الحج عمّن لا يستطيع الثبوت على الراحلة.

        في هذا الحَديثِ يَحكي عبداللهِ بنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ الفَضلَ بنَ العبَّاسِ -رَضيَ اللهُ عنهما- كانَ راكبًا خَلْفَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على الدَّابَّةِ؛ والفضل: هو ابن العباس بن عبدالمطلب، وهو أكبر أبناء العباس وبه كان يُكنى، وكان جميلًا، وقد مات بالشام في طاعون عمواس، وليس له عقب.

معنى رديفه

       ومعنى رديفه: أي رَكب خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على عَجز راحلته -صلى الله عليه وسلم -، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قد أردف أسامة بن زيد، منْ عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، وذلك في حجّة الوداع، قبيل رمي جمرة العقبة أو بعدها يوم النحر.

قوله: «فجاءتِ امرأةٌ مِن خَثْعَمٍ»

       قوله: «فجاءتِ امرأةٌ مِن خَثْعَمٍ» وهي قَبيلةٌ يَمنيَّةٌ معروفة، مساكنها تقع جنوبي مساكن غامد وزهران. «تستفتيه» أي: تَسأَلُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الحَجِّ، فكان الفَضلُ - رضي الله عنه - يَنظُرُ إليها، وكانَتْ هي أيضًا تَنظُرُ إليه، وقوله: «فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ» أي: أخذَ يصرف وجْه الفضل، أي: يلويه حتى لا يتمكّن من النظر إليها. الشق الآخر: أي إلى الجانب الآخر الذي لا تقع عينه فيه على الخثعمية، فلمَّا رآهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَنظُر إليها صَرَفَ وَجْهَ الفَضْلِ - رضي الله عنه - إلى الشِّقِّ الآخَرِ؛ ليَكُفَّ بَصَرَه عن النَّظرِ إليها، ولِتُقلِعَ هي أيضاً عن النَّظَرِ إليه، ولم يَأمُرْها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بصَرْفِ وَجْهِها إلى الشِّقِّ الآخَرِ، وإنْ كانتِ المرأةُ مَمنوعةً مِن النَّظَرِ إلى الرجُلِ أيضاً، مِثلَما يُمنَعُ الرجُلُ لقولِه -تعالَى-: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (النور: 30).

وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ

        وقولِه: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) النور: 31، وقيل: يحْتَملِ أنْ يكونَ نظَرُها للفضْلِ كان عن غَيرِ قصْدٍ؛ لأنَّها إنَّما كانتْ تَنظُرُ جِهةَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَسألتِها. ويَحتمِلُ أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اكْتَفَى بصَرْفِ وَجْهِ الفضْلِ؛ لأنَّ ذلك يَمنَعُ نَظَرَ المرأةِ إلى شَيءٍ مِن وَجْهِ الفضْلِ، فكان في ذلك مَنْعٌ للفضْلِ مِن النَّظَرِ إليها ومَنْعٌ لها مِن النَّظَرِ إليه، ولعلَّها لمَّا صَرَفَ وَجْهَ الفضْلِ فَهِمَت ذلك، فصَرَفَت وَجْهَها أو بَصَرَها عن النَّظَرِ إليه.

أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟

        قوله: «قَالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ؛ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخاً كَبِيراً، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟» فسَأَلتِ المرأةُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن مَشروعيَّةِ الحَجِّ نِيابةً عن أبِيها، وأبوها قِيل: هو حُصينُ بنُ عَوفٍ الخَثْعميُّ، الذي أدركته فَريضةُ الحجّ وهو شَيخٌ كَبيرٌ، لا يَستقِرُّ جِسمُه على الرَّاحِلةِ، أو لم تَتَوافَرْ فيه شُروطُ الحَجِّ؛ إلَّا في هَذه السِّنِّ المتأخِّرةِ، حتَّى أصبَحَ عاجِزاً، ضَعيفَ الجِسمِ، مُنهَكَ القُوى، فأجابَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأنْ تَحُجَّ عنه.

ما يشترط للنائب في الحج

       ويُشتَرَط في النَّائِبِ في الحجّ والعمرة: أنْ يكونَ قد حَجَّ حَجَّةَ الإسْلامِ عن نفْسِه أوَّلًا واعتمر، وإلَّا كانتِ الحجَّةُ أو العُمرة عن نفْسِه، ولم تُجْزِئْ عن المَنوبِ عنه؛ لحَديثِ أبي داودَ: عن ابنِ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما-: «أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رجُلًا يقولُ: لَبَّيكَ عن شُبْرُمةَ، قال: مَن شُبرمةَ؟ قال: أخٌ لي -أو قريبٌ لي- قال: «حَجَجتَ عن نفْسَك؟» قال: لا، قال: «حُجَّ عن نفْسِك، ثمَّ حُجَّ عن شُبرمةَ».

فوائد الحديث

1- الحَجُّ هو الرُّكنُ الخامِسُ مِنْ أرْكانِ الإسْلامِ، وهو الفَريضةُ التي تَستوجِبُ مُفارَقةَ الأهل والوطن كالجهاد في سبيل الله، استِجابةً لرَبِّ العالَمينَ، وليس لمَن أدَّاهُ على وَجْهِه وبحَقِّه مِنْ ثَوابٍ إلَّا الجنَّةُ. 2- وفيه: جواز الاستِنابة في حَجِّ الفَريضةِ؛ عن عَاجِزٍ عجزاً مَيؤوسٍاً مِن زَوالِه. 3- وفيه: بِرُّ الوالدَينِ، والاعتِناءُ بأمرِهِما، والقِيامُ بمِصالِحِهما؛ مِن قَضاءِ دَينٍ ديني كزكاة أو حجٍّ أو نذرٍ أو كفارة، وكذا خِدمةٍ، ونَفَقةٍ، وغيرِ ذلكَ مِن أُمورِ الدِّينِ والدُّنيا، وأن الحجّ عن الوالد من برّه. 4- وفيه: أنَّ الاستِطاعةَ تكونُ بالآخرين كما تكونُ بالنَّفْسِ. 5- وفيه: تَواضُعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم . 6- وفيه: مَنزِلةُ الفَضْلِ بنِ العبَّاسِ -رَضيَ اللهُ عنهما- مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، حيثُ أرْدفه خلفه على الراحلة. 7- وفيه: منْعُ النَّظَرِ إلى الأجنبيَّاتِ، وغَضُّ البَصَرِ، وأنه يخشى على الصالحين ما يخشى على غيرهم من الفتنة بالنساء، والعمل على عدمِ اختلاط النساء بالرجال. 8- أنّه يجوزُ للمرأة الاستفتاء في العلم والترافع في الحُكم، والمعاملة وإظْهار صوتها في ذلك، إذا لمْ تحدث فتنة من ذلك. 9- وفيه: أنَّ العالِمَ يُغيِّرُ مِن المُنكَرِ ما يُمكِنُه إذا رَآه، وإزالةُ المُنكَرِ باليَدِ لمَن أمكَنَه مِن غَيرِ مَفسَدةٍ زائدةٍ عنِ المُنكَرِ الحاصِلِ ولو مع الأقارب.

مسألة مهمة

مسألة: لا يصحّ الاستدلال بحديث الفضل بن العباس - رضي الله عنه -؛ على جواز كشف الوجْه للنساء، وقد أجاب العلماء على ذلك بأجوبة، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: «وأجيب عن ذلك أيضاً من وجهين:
  • الوجه الأول: أنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها، وأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رآها كاشفة عنه، وأقرّها على ذلك، بل غاية ما في الحديث أنها كانت «وضيئة»، وفي بعض روايات الحديث: «أنّها حسناء»، ومعرفة كونها وضيئة، أو حسناء لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أقرّها على ذلك، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها...». «أضواء البيان» (6 / 254 - 256).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: «وأما حديث الخثعمية التي سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع عند مرجعه من مزدلفة إلى منى في حجة الوداع قالت: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير، أدركته فريضة الله، ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال: نعم حجّي عن أبيك، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فصرف وجه الفضل عنها، صرفه إلى الجهة الأخرى، قالوا هذا يدل على أنها كانت متكشفة، وهذا غلط، فإنه ليس بدليلٍ على أنّها متكشفة، قد ينظر إليها وتنظر إليه وليستْ متكشفة، قد تميل الوجه إليه وهي متخمرة، وينظر إليها إلى حُسن كلامها إلى صوتها إلى خدها القائم مع السّتر، ليس بضروري أن تكون متكشفة، ...». «التعليقات على ندوات الجامع الكبير». وقال الشيخ العثيمين -رحمه الله-: «وقد استَدلّ بهذا - أي: حديث الخثعمية-: مَن يرى أن المرأة يجوز لها كشف الوجه، وهذا الحديث- بلا شك- من الأحاديث المتشابهة، التي فيها احتمال الجواز، وفيها احتمال عدم الجواز، أما احتمال الجواز: فظاهر، وأما احتمال عدم الدلالة على الجواز فإننا نقول: هذه المرأة محرمة، والمشروع في حق المحرِمة أن يكون وجهها مكشوفاً، ولا نعلم أن أحداً من الناس ينظر إليها سوى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفضل بن العباس، فأما الفضل بن العباس: فلم يقرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل صَرف وجهه، وأمّا النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: فإن الحافظ ابن حجر رحمه الله- ذكَر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز له من النظر إلى المرأة، أو الخلوة بها، ما لا يجوز لغيره، كما جاز له أنْ يتزوج المرأة دون مهر، ودون ولي، وأن يتزوج أكثر من أربع، والله -عز وجل- قد فسح له بعض الشيء في هذه الأمور؛ لأنه أكمل الناس عفةً، ولا يمكن أن يرِد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يرِد على غيره من الناس، من احتمال ما لا ينبغي أن يكون في حق ذوي المروءة.

القاعدة عند أهل العلم

        وعلى هذا: فإنّ القاعدة عند أهل العلم: أنه إذا وُجد الاحتمال، بَطَل الاستدلال، فيكون هذا الحديث من المتشابه، والواجب علينا في النصوص المتشابهة: أنْ نردّها إلى النصوص المحكمة، الدالة دلالة واضحة على أنه لا يجوز للمرأة أنْ تكشف وجهها، وأنْ كشف المرأة وجهها من أسباب الفتنة، والشر» انتهى. «دروس وفتاوى الحرم المكي» (1408 هـ، شريط رقم 16).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك