رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 24 يوليو، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – سؤال الملكين للعبد إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ (2)

 

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: قال نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ؛ وتَوَلَّى عنه أَصْحَابُهُ؛ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ: قال: يَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ؛ فيَقُولَانِ لهُ: ما كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ قَال: فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ؛ قَال: فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ؛ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ. قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا». قال قَتَادَةُ: وذُكِرَ لنا أَنَّهُ: «يُفْسَحُ لَهُ في قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا؛ ويُمْلَأُ عَليهِ خَضِرًا إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ». الحديث أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها، (4/2200) وبوب عليه النووي التبويب السابق.

     قوله: «وأَمَّا المُنافقُ والْكافِرُ؛ فيُقالُ له: ما كنتَ تَقُولُ في هَذَا الرَّجُلِ؟ فيَقُولُ: لا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ ما يَقُولُ النَّاسُ» وفي رواية للصحيحين: «وأما المنافق أو المرتاب». وفي حديث أبي هريرة عند ابن ماجة: «وأما الرجل السوء». وللطبراني من حديث أبي هريرة: «وإنْ كان من أهل الشك». قال الحافظ: «فاختلفت هذه الروايات لفظا، وهي مجتمعة على أن كلا من الكافر والمنافق يُسأل، ففيه تعقب على من زعم أن السؤال إنما يقع على من يدعي الإيمان إنْ كان محقا أو مبطلا». وسيأتي الكلام عليه.

فيجلس مرعوباً

     وعند ابن حبان والطبراني: «وإنّ الكافر إذا أتي من قِبل رأسه لم يوجد شيءٌ ثم أتي عن يمينه فلا يوجد شيءٌ، ثم أتي عن شماله فلا يوجد شيءٌ، ثم أتي من قبل رجليه فلا يوجد شيءٌ؛ فيقال له: اجْلس؛ فيجلس مرعوباً خائفا؛ فيقال: أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم؟ ماذا تقول فيه؟ وماذا تشهد عليه؟ فيقول: أي رجل؟! ولا يهتدي لاسْمه؛ فيقال له: محمدٌ؛ فيقول: لا أدري، سمعت الناس قالوا قولاً؛ فقلتُ كما قال الناس؛ فيقال له: على ذلك حييت، وعليه متَّ، وعليه تبعثُ -إنْ شاء الله».

الطفل غير المميز

واختلف العلماء في الطفل غير المميز: قال الحافظ ابن حجر: فجزم القرطبي في التذكرة بأنه يُسأل، وهو منقول عن الحنفية، وجزم غير واحدٍ من الشافعية بأنه لا يسأل، ومن ثَمَّ، قالوا: لا يستحب أنْ يلقن.

هل يسأل النبي؟

واختلف أيضا في النبي: هل يسأل؟ (الفتح: 3/239)، وقال ابن عبد البر: الآثار تدل على أنّ الفتنة لمن كان منسوبا إلى أهل القِبلة، وأما الكافر الجاحد فلا يسأل عن دينه.

     وتعقبه ابن القيم في (كتاب الروح) فقال: في الكتاب والسنة دليلٌ على أنَّ السؤال للكافر والمسلم، قال الله -تعالى-: {يُثبّت الله الذين آمنوا بالقولِ الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويُضل اللهُ الظالمين} إبراهيم: 27. وفي حديث أنس في البخاري: «وأما المنافقُ والكافر» بواو العطف، وفي حديث أبي سعيد: «فإنْ كان مؤمنا - فذكره وفيه - وإنْ كان كافرا».

وفي حديث البراء: «وإنَّ الكافر إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا» فذكره، وفيه: «فيأتيه منكرٌ ونكير» الحديث. أخرجه أحمد هكذا.

الكافر الجاحد

     قال: وأما قول أبي عمر: فأما الكافر الجاحد، فليس ممن يُسأل عن دينه، فجوابه أنه نفيٌ بلا دليل! بل في الكتاب العزيز الدلالة على أنّ الكافر يُسْأل عن دينه، قال الله -تعالى-: {فلنسألنَّ الذين أُرسل إليهم ولنسألنّ المُرسلين} الأعراف: 6. وقال -تعالى-: {فوربِّك لنسألنَّهم أجمعين} الحجر: 92. لكن للنافي أنْ يقول: إن هذا السؤال يكون يوم القيامة. انتهى

الكافر إذا وضع في قبره

قوله: «فيقولُ: لا أدري» في رواية أبي داود المذكورة: «وإنْ الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره فيقول له: ما كنت تعبد؟. وفي أكثر الأحاديث: فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل؟

وفي حديث البراء عند أحمد: «فيقولان له مَنْ ربّك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فيُقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري». وهو أتم الأحاديث سياقا.

لا دريتَ ولا تليت

     قوله: «لا دريتَ ولا تليت» قال ثعلب: قوله: «تليت» أصله تلوت، أي: لا فهمت ولا قرأت القرآن، والمعنى: لا دريت، ولا اتبعت من يدري، وإنما قاله بالياء لمؤاخاة دريت. وقيل: صوابه ولا ائتليت بزيادة همزتين قبل المثناة؛ بوزن افتعلت من قولهم: ما ألوت؛ أي: ما استطعت، حكي ذلك عن الأصمعي، وبه جزم الخطابي. وقال الفراء: أي قصرت، كأنه قيل له: لا دريت ولا قصرت في طلب الدراية، ثم أنت لا تدري. وقال الأزهري: الألو يكون بمعنى الجهد وبمعنى التقصير وبمعنى الاستطاعة.

     وحكى ابن قتيبة، عن يونس بن حبيب، أن صواب الرواية: لا دريت ولا أتليت. بزيادة ألف وتسكين المثناة، كأنه يدعو عليه بألا يكون له من يتبعه، وهو من الإتلاء، يقال: ما أتلت إبله أي لم تلد أولادا يتبعونها. وقال: قول الأصمعي أشبه بالمعنى، أي لا دريت ولا استطعت أن تدري. ووقع عند أحمد من حديث أبي سعيد: «لا دريت ولا اهتديت».

ويُضْرب بمَطَارق مِنْ حديد

قوله: «ويُضْرب بمَطَارق مِنْ حديد ضربة» وفي لفظ «بمطرقة» على الإفراد، وكذا هو في معظم الأحاديث. قال الكرماني: الجمع مُؤْذن بأن كل جزء من أجزاء تلك المطرقة مطرقة برأسها؛ مبالغة اهـ. وفي حديث البراء: «لو ضُرِبَ بها جبل لصار تراباً».

     وزاد في حديث أبي هريرة: «ثم يُفتح له بابٌ من أبواب النار؛ فيُقال له هذا مقعدك من النار، وما أعدَّ الله لك فيها؛ فيزداد حسرةً وثبوراً، ثم يُفتح له باب من أبواب الجنة، ويقال له: هذا مقعدك منها وما أعدّ الله لك فيها لو أطعته؛ فيزداد حسرةً وثبوراً؛ ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه؛ فتلك المعيشة الضنكة التي قال الله عنها: {فإن له مَعيشةً ضَنْكاً ونحْشره يومَ القيامةِ أعْمى} طه: 124».

من يليه؟

     قوله: «من يليه» قال المهلب: المراد الملائكة الذين يلون فتنته، قال الحافظ: كذا قال، ولا وجه لتخصيصه بالملائكة، فقد ثبت أن البهائم تسمعه. وفي حديث البراء: يسمعه من بين المشرق والمغرب. وفي حديث أبي سعيد عند أحمد: يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين. وهذا يدخل فيه الحيوان والجماد، لكن يمكن أن يخص منه الجماد.

ويؤيده: أن في حديث أبي هريرة عند البزار: «يسمعه كل دابة إلا الثقلين». والمراد بالثقلين: الإنس والجن، قيل لهم ذلك؛ لأنّهم كالثقل على وجه الأرض.

فوائد الحديث

وفي حديث الباب عدد من الفوائد:

إثبات عذاب القبر

     إثبات عذاب القبر، وأنه واقع على الكفار ومن شاء الله من الموحدين، وهل تختص بهذه الأمة أم وقعت على الأمم قبلها؟ ظاهر الأحاديث الأول، وبه جزم الحكيم الترمذي، وقال: كانت الأمم قبل هذه الأمة تأتيهم الرسل، فإنْ أطاعوا فذاك، وإنّ أبوا اعتزلوهم وعوجلوا بالعذاب، فلما أرسل الله محمدا رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب، وقُبِل الإسلام ممن أظهره، سواء أسر الكفر أم لا، فلما ماتوا قيض الله لهم فتَّاني القبر ليستخرج سرهم بالسؤال، وليميز الله الخبيث من الطيب، ويثبت الله الذين آمنوا ويضل الله الظالمين. انتهى، قال الحافظ: ويؤيده حديث زيد بن ثابت مرفوعا: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها. الحديث، أخرجه مسلم، ومثله عند أحمد، عن أبي سعيد في أثناء حديث، ويؤيده أيضا قول الملكين: ما تقول في هذا الرجل محمد.

فتنة القبر

وحديث عائشة عند أحمد أيضا بلفظ: «وأما فتنة القبر فبي تفتنون، وعني تسألون. وجنح ابن القيم إلى الثاني، وقال: ليس في الأحاديث ما ينفي المسألة عمن تقدم من الأمم، وإنما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بكيفية امتحانهم في القبور لا أنه نفى ذلك عن غيرهم، قال: والذي يَظهر أنّ كل نبي مع أمته كذلك، فيُعذب كفارهم في قبورهم بعد سؤالهم، وإقامة الحجة عليهم، كما يعذبون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحجة. وحكى في مسألة الأطفال احتمالا، والظاهر أن ذلك لا يمتنع في حق المميز دون غيره.

ذم التقليد في الاعتقادات

وفيه ذم التقليد في الاعتقادات؛ لمعاقبة مَنْ قال: «كنت أسمعُ الناس يقولون شيئا فقلته».

الميت يحيا في قبره

وفيه أن الميت يحيا في قبره للمسألة؛ خلافاً لمن ردّه، واحتج بقوله -تعالى-: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} الآية؛ غافر: 11، قال: فلو كان يحيا في قبره؛ للزم أنْ يحيا ثلاث مرات، ويموت ثلاثا، وهو خلاف النص!

- والجواب: بأنَّ المراد بالحياة في القبر للمسألة، ليست الحياة المستقرة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن، وتدبيره وتصرفه، وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء، بل هي مجرد إعادة لفائدة الامتحان الذي وردت به الأحاديث الصحيحة؛ فهي إعادةٌ عارضة، كما حيي خَلْق لكثير من الأنبياء لمسألتهم لهم عن أشياء ثم عادوا موتى.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك