رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 29 يوليو، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – تثبيت الله للعبد في قبره

 

باب: في قوله -تعالى-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ في الحياة الدنيا وفي الآخرة} إبراهيم:27. وأنه في القبر، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ  - رضي الله عنه -: عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} قَال: نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ؛ فَيُقَالُ له: مَنْ رَبُّكَ؟ فيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ؛ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وسَلَّمَ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَل-َّ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} إبراهيم:27.

     الحديث أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها ( 4/2201) وبوب عليه النووي التبويب في الباب السابق، ولفظه عند البخاري: عن البراء بن عازب  - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلم إذا سُئل في القبر، شهد أنْ لا إله إلا الله؛ وأنَّ محمداً رسول الله، فذلك قوله: يُثبت اللهُ الذينَ آمنوا بالقَوْل الثابت في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة ». ورواه مسلم أيضا

وروى عبد الرزاق: عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة » قال: لا إله إلا الله، (وفي الآخرة) المسألة في القبر.

وقال قتادة: أما الحياة الدنيا؛ فيثبتهم بالخير؛ والعمل الصالح (وفي الآخرة) في القبر. وكذا روي عن غير واحد من السلف.

كَلِمةِ التَّوحِيدِ

     وفي تفسير البغوي (معالم التنزيل) قال: قوله -تعالى-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}، كَلِمةِ التَّوحِيدِ؛ وهي قَولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} يعني قبلَ المَوتِ، {وفِي الْآخِرَةِ} يَعني: فِي القَبْرِ. هذا قَوْلُ أَكْثَرِ المفسرين. وقِيل: فِي الحياةِ الدُّنْيَا عندَ السُّؤَالِ في القَبْرِ، وفي الْآخِرَةِ عندَ الْبَعْثِ. والأَوَّلُ أَصَحُّ. انتهى

قول: لا إله إلا الله

     وقال الواحدي: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} وهو قول: لا إله إلا الله {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} على الحقَّ {وَفِي الآخِرَةِ} يعني: في القبر يُلقِّنهم كلمة الحقِّ عند سؤال الملكين {ويضل الله الظالمين} لا يُلقِّن المشركين ذلك حتى إذا سُئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري {ويفعل الله ما يشاء} من تلقين المؤمنين الصَّواب وإضلال الكافرين. انتهى من: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز.

لا يهدي الله الْمُشْرِكِينَ

وقَوْلُهُ -تَعَالَى-: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} أي: لا يهدي الله الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ في الْقَبْرِ {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ}، مِنَ التَّوْفِيقِ والخُذْلَانِ؛ وَالتَّثْبِيتِ وتَرْكِ التثبيت.

حديث عظيم

     وقد روى الإمام أحمد حديثا عظيماً مطولاً في هذا الباب؛ عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمَّا يُلحد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عودٌ يَنْكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: «اسْتعيذوا بالله من عذاب القبر »، مرتين أو ثلاثا، ثم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة؛ وحَنُوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدَّ البصر. ثم يجيء مَلَك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النَّفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضْوان». قال: «فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طَرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن؛ وفي ذلك الحَنُوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسكٍ وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها، فلا يمرُّون -يعني بها- على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروحُ الطيب؟ فيقولون: فلانٌ ابن فلان، بأحْسن أسْمائه التي كانوا يُسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيَستفتحون له، فيُفتح له، فيشيعه من كلِّ سماءٍ مقرَّبوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى بها إلى السَّماء السابعة، فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في علييّن، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خَلقتهم؛ وفيها أُعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى». قال: «فتُعاد رُوحه في جسده؛ فيأتيه مَلَكان فيُجلسانه فيقولان له: مَنْ ربّك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأتُ كتاب الله، فآمنتُ به وصدقت. فينادي مناد من السماء: أنْ صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة - قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويُفْسح له في قبره مدّ بصره.

     ويأتيه رجلٌ حَسنُ الوجه، حَسن الثياب، طيِّب الريح، فيقول: أبشرْ بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له: مَنْ أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: ربِّ أقم الساعة؛ ربِّ أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي». قال: «وإنَّ العبد الكافر؛ إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا؛ وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سُود الوُجوه، معهم المُسُوح، فجلسوا منه مدّ البصر. ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النَّفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب». قال: «فتَفرَّق في جَسده، فينتزعها كما ينتزع السُّفُّود من الصُوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يَدَعوها في يده طَرْفة عين، حتى يجعلوها في تلك المُسوح؛ ويخرج منها كأنتنِ ريحِ جيفةٍ وُجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة؛ إلا قالوا: ما هذا الرُّوح الخبيث؟ فيقولون: فلانٌ ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمونه بها في الدنيا؛ حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا؛ فيستفتح له فلا يفتح له». ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لا تُفْتحُ لهم أبوابُ السَّماء ولا يَدْخلون الجنة حتى يَلجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياط} الأعراف: 40، فيقول الله: «اكتبوا كتابه في سجّين، في الأرض السُّفلى، فتُطرحُ رُوحه طَرْحا». ثم قرأ: {ومَنْ يُشرك بالله فكأنما خَرَّ من السماء فتَخطفه الطيرُ أو تَهْوي به الريحُ في مكانٍ سَحيق} الحج: 31. «فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيُجلسانه؛ ويقولان له: مَنْ ربُّك؟ فيقول: هَاه هاه، لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعثَ فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فينادي مناد من السماء: أنْ كَذَبَ عبدي فأفرشوه مِنَ النار، وافتحوا له باباً إلى النار. فيأتيه من حرِّها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلفَ فيه أضلاعه، ويأتيه رجلٌ قبيح الوجه، قبيح الثياب، مُنتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: ومن أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب، لا تقم الساعة». ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة.

الدُّعاء للميت بالثبات

     وقد صح الدُّعاء للميت بالثبات عند السؤال، وذلك بعد دفنه؛ فهو من عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله؛ فعن عُثْمَانَ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الرَّجُلِ وَقَفَ عَلَيْهِ وقال: «استغفروا لأخيكم؛ وسَلوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ». رواه الحاكم.

المكث عند القبر

     وقد ورد مقدار ذلك المكث عند القبر؛ فقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رضي الله عنه - فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ وَهُوَ يَبْكِي: فَإِذَا أَنَا مِتُّ؛ فَلَا تَصْحَبُنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ؛ فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَسُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ سَنًّا؛ ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا يُنْحَرُ جزور، ويُقْسم لحمه، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكم، وَأَنْظُرَ مَاذَا أراجع به رسل ربي. رواه مسلم.

الاستئناس والثبات

     وفي هذا الأثر عن الصحابي الجليل عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: المُكثُ عند القَبرِ بعد الدَّفنِ نحوَ ما ذكَر؛ لِما ذكَر من الاستئناس والثبات، يعني أن الملكين يسألانه في قبره بعد دفنه بهذا المقدار تقريباً، ويستغرق من الجزار نحر الجزور مع سلخها وتقطيع لحمها مقدار عشرين دقيقة إلى نصف ساعة تقريباً.

من السنة

     إذاً من السنة أن يوقف على قبر الميت بعدما يدفن بهذا المقدار، فيُدعى له بالثبات، -ومع الأسف- الواقع خلاف ذلك عند كثيرٍ من المسلمين إلا من رحم الله، وفيه: صبُّ التُّرابِ في القبرِ برفق؛ فقوله «سنوا علي التراب»؛ أي صبوه قليلاً قليلاً. وقيل: بالمهملة الصب في سهولته، وبالمعجمة التفريق.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك