رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 19 ديسمبر، 2018 0 تعليق

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – باب: نهي النساء عن اتباع الجنازة

 «عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رضي الله عنها- قالت: كُنَّا نُنْهَى عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا»، هذا الحديث رواه مسلم في الجنائز (2/646) وبوب عليه النووي كتبويب المنذري، ورواه البخاري (1278) في كتاب الجنائز أيضاً، باب اتباع النساء الجنائز، وقولها: «نُهيِنا عن اتِّباع الجَنَائز» أي: إلى أنْ نصل بها إلى القُبور. ورواه البخاري في الحيض: عن حفصة عنها بلفظ: «كنَّا نُهينا عن اتباع الجنائز».

قولها: «نُهيِنا» ذهب الشافعي وأحمد وأكثر الأئمة والمُحدثين: أنه يجب إضافة ذلك إلى النبي -عليه الصلاة والسلام.

     قال الآمدي: فإذا قال الصحابي منهم: أُمرنا أو نُهينا كان الظاهر منه أمرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهيه، ولا يُمكن حمله على أمر الكتاب ونهيه؛لأنه لو كان كذلك لكان ظاهراً للكل، فلا يختصُّ بمعرفته الواحد منهم، ولا على أمر الأُمة ونهيها؛لأنَّ قول الصحابي: أمرنا ونهينا، قول الأمة، وهم لا يأمرون وينهون أنفسهم، ولا على أمر الواحد من الصحابة؛ إذْ ليس أمر بعضهم لبعض؛ أولى من العكس. (انظر: كتاب الإحكام في أصول الأحكام).

 نهي النبي - صلى الله عليه وسلم -

     وقد رواه الإسماعيلي بلفظ: «نَهانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -..». وفيه ردٌ على من قال: لا حُجة في هذا الحديث. ويؤيد رواية الإسماعيلي: ما رواه الطبراني من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية عن جدته أم عطية قالت: «لمَّا دَخَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة؛ جمعَ النساء في بيتٍ، ثم بعث إلينا عمر، فقال: إني رسولُ رسول الله إليكنَّ، بعثني إليكنَّ لأبايعكن على أنْ لا تُشركن بالله شيئا». الحديث. وفي آخره: «وأمرنا أنْ نُخرج في العيد العواتقَ، ونهانا أنْ نَخرج في جنازة».

اتِّباع الجنائز

     وقد مضت سُنَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ اتِّباع الجنائز من بيتها حتى يُصلَّى عليها، واتِّباعها حتى تُدفن، وتولِّي حملها ودفنها، من خصائص الرِّجال، وليس للنساء حظٌّ في ذلك، وهو الذي جَرَى عليه عمل السلف الصالح؛ فعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه : أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا وُضعتِ الجنازةُ؛ واحتمَلَهَا الرِّجالُ على أعناقهمْ، فإنْ كانت صالحةً؛ قالت: قَدِّمُوني، وإنْ كانت غيرَ صَالِحَةٍ؛ قالت: يا ويلَهَا أينَ يَذهبُونَ بها؟ يَسمَعُ صَوتهَا كُلُّ شيءٍ إلاَّ الإنسانَ، ولو سَمعَهُ صَعقَ». أخرجه البخاري في صحيحه (1313) وبوَّب عليه: بابُ حمل الرِّجالِ الجنازةَ دُون النساءِ؛ قال النووي في المجموع (5/ 166): «قالَ الشافعيُّ في الأُمِّ والأصحابُ: لا يَحملُ الجنازةَ إلاَّ الرِّجالُ، سواءٌ كانَ الْميِّتُ ذكَراً أو أُنثى، ولا خلافَ في هذا».

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن اتَّبعَ جَنازةَ مُسلمٍ إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يُصلَّى عليها، ويُفرَغَ من دفنها، فإنه يَرجعُ من الأجرِ بقيراطينِ». أخرجه البخاري (47).

قولها: «ولم يُعزم علينا»

قولها: «ولم يُعزم علينا» أي: ولم يؤكد علينا في المنع، كما أكَّد علينا في غيره من المنهيات؛ فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم. قال النووي: وقولها: «ولم يُعزم علينا» معناه: نُهينا نهياً شديداً غير مُحتّم، ومعناه: كراهة تَنَزيه ليس بِحَرام. اهـ

     وقال ابن حجر: قولها: «ولَمْ يَعْزِم عَلَيْنَا»، أَيْ: ولَمْ يُؤَكِّد عَلَيْنَا في المَنْع؛ كما أَكَّدَ عليْنَا فِي غيره مِنْ الْمَنْهِيَّات، فكأَنَّهَا قالت: كَرِهَ لَنَا اِتِّبَاع الْجَنَائِز مِنْ غَيْر تَحْرِيم، قال الإمام ابن تيمية: «قد تكونُ هيَ -رضي الله عنها- ظنَّت أنه ليس بنهي تحريم، والْحُجَّة في قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لا في ظنِّ غيره». مجموع الفتاوى (24/ 355).

     وقال الإمام ابنُ القيم: «وقولها: «ولم يُعزم علينا» إنما نفتْ فيه وصف النَّهي، وهو النهي المؤكَّد بالعزيمة، وليس ذلك شرطاً في اقتضاء التحريم، بل مجرَّد النهي كاف، ولَمَّا نهاهنَّ انتهين لطواعيتهنَّ لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فاستغنين عن العزيمة، وأمّ عطية لم تشهد العزيمة في ذلك النهي، وقد دلَّت أحاديث لعنة الزائرات على العزيمة؛ فهي مُثبتة للعزيمة؛ فيجبُ تقديمها، وبالله التوفيق» تهذيب السنن (3/ 1556).

     وقال النووي: «هذا الذي ذكرناه من كراهة اتباع النساء الجنازة هو مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء، حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود، وابن عمر، وأبي أمامة، وعائشة، ومسروق، والحسن، والنخعي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحق، وبه قال الثوري». المجموع (5/ 171).

 القول بالكراهة عند السلف

ومن المعلوم أنَّ القول بكراهة اتباع النساء للجنائز عند السلف هو بمنزلة المنع والتحريم؛ فإنَّ التفرقة بين نهي التنزيه والتحريم في عُرف الصحابة غير مستقر؛ فلم يُفرِّقوا فيه، بل كانوا يجتنبون المكروه تنزيهاً وتحريماً مطلقاً؛ إلا لضرورة.

أدلة الباب

     ومن الأدلة في الباب: حديث أنس - رضي الله عنه - قال: شَهِدنا بنتَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جالسٌ على القبرِ، فرأيتُ عينيهِ تدمَعانِ، فقال: هل فيكم من أَحَدٍ لم يُقارِف الليلةَ؟ فقال أبو طلحةَ: أنا، قال: فانزِلْ في قبرِها، فنَزلَ في قبرِهَا فقَبَرَها». أخرجه البخاري (1342)، ومعلومٌ أنها كانت لها أخوات كفاطمة وغيرها من محارمها وغيرهنَّ هناك -رضي الله عنهن-؛ فدلَّ على أنه لا مدخلَ للنساء في إدخال القبر والدَّفن.

     وقال ابن قدامة -رحمه الله-: وكيف يُشرَعُ لهُنَّ وقد نهاهُنَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن اتِّباعِ الجنائزِ؟ ولأنَّ ذلكَ لو كانَ مشروعاً لَفُعِلَ في عصرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو خُلَفَائهِ، ولَنُقِلَ عن بعض الأئمَّةِ، ولأنَّ الجنازةَ يَحضُرُها جُمُوعُ الرِّجال، وفي نُزُولِ النِّساءِ في القبرِ بينَ أيديهِم هتكٌ لَهُنَّ، مَعَ عَجزهنَّ عن الدَّفن، وضَعفهنَّ عن حملِ الميِّتةِ وتقليبها. المغني (3/ 433)، وقد وردت أقوال كثيرة عن السلف في تأييد ما سبق، منها:

1- عن الشعبي -رحمه الله- قال: خُروج النساء على الجنائز بدعة. أخرجه عبدالرزاق (6296).

2- وعن إبراهيمَ النخعي قال: كانوا إذا أخرجُوا الجِنازةَ أغلَقُوا البابَ على النساءِ. أخرجه ابن أبي شيبة (11402)، وقال أيضاً: كانوا يقفلون على النساء الأبواب، حتى يُخرِجَ الرِّجالُ الجنائز. أخرجه عبد الرزاق (6293).أي: باب المسجد.

3- وقال علقمة -رحمه الله-: لقنوني: لا إله إلا الله عند موتي، وأسرعوا بي إلى حُفرتي، ولا تنعوني؛ فإني أخافُ أنْ أكون كنعي الجاهلية؛ فإذا خرَجَ الرِّجالُ بجنازتي فأغلقوا الباب؛ فإنه لا أرب لي بالنساء. أخرجه عبدالرزاق (6046).

4- وعن عبد اللهِ بن مُرَّةَ عن مسرُوقٍ -رحمه الله- قال: رأيتُه يَحثُو الترابَ في وُجُوهِ النساءِ في الجنازةِ، يقولُ لهنَّ: ارجعنَ، فإنْ رجعنَ مَضَى مع الجنازةِ، وإلاَّ رَجَعَ وتركَـها. أخرجه ابن أبي شيبة (11409).

5- وكان الأوزاعيُّ -رحمه الله- يرى منْعً النساء الخروج مع الجنائز. الأوسط (5/ 387).

6- وعن ابن جريج قال: قلتُ لعطاء: خروج النساء على الجنائز؟ قال: يَفتنَّ. أخرجه عبد الرزاق (6295).

7- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علَّلَ الإذن للرِّجال: بأنَّ ذلك يُذكِّرُ بالموتِ، ويُرقِّقُ القلبَ، ويُدمعُ العينَ، هكذا في مسند أحمد، ومعلومٌ أنَّ المرأةَ إذا فُتحَ لها هذا البابُ أخرجها إلى الجزع والندبِ والنياحةِ؛ لِما فيها من الضعفِ، وكثرةِ الجزع، وقلَّةِ الصَّبرِ.

وأيضاً: فإنَّ ذلكَ سَببٌ لتأذِّي الْميِّتِ ببُكائها، ولافتتانِ الرِّجالِ بصوتها وصُورَتها، كما جاءَ في حديثٍ آخرَ: «فإنكُنَّ تَفتنَّ الحيَّ، وتُؤذينَ الْميِّتَ» مجموع الفتاوى (24 / 355-356).

8- وقال أيضاً: «الصلاةُ على الجنائزِ أوكدُ من زيارةِ القبورِ، ومَعَ هذا فقد ثبتَ في الصحيح: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهَى النساءَ عن اتِّباع الجنائزِ، وفي ذلك تفويتُ صلاتهنَّ على الْميِّتِ؛ فإذا لم يَستحبَّ لَهُنَّ اتِّباعَهَا لِمَا فيها من الصلاةِ والثوابِ فكيفَ بالزِّيارةِ؟!». المصدر السابق (24/ 345).

9- وقال ابن المنذر: «وقد روينا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لامرأة: «صلاتُك في بيتك؛ خيرٌ من صلاتُكِ في حُجرتكِ، وصلاتكِ في حُجرتكِ خيرٌ من صلاتكِ في داركِ، وصلاتكِ في داركِ؛ خيرٌ من صلاتكِ في مسجدِ قومكِ». فإذا كان هذا سبيلها في الصلاة وقد أُمرن بالسِّترِ، فالقُعود من الجنائز أولى بهنَّ وأسترُ، واللهُ أعلم». الأوسط (5/ 388-389).

10- وقال أبو بكر الطرطوشي: ومن البدع المنكرةِ عندَ جماعةِ العلماء: خروج النساء لاتباع الجنائز. كتاب الحوادث والبدع (ص 336).

قصد الذهاب إلى المساجد

     فعُلمَ مِمَّا تقدَّم: أنه يُكره للمرأة قصد الذهاب إلى المساجد للصلاة على الجنائز إنْ لم يحرم؛ لأنه من اتباع الجنائز المنهي عنه، ولم يُنقل فيما نعلم: أنَّ نساء الصحابة -رضي الله عنهن- كُنَّ يحضرن للمسجد، أو مُصلَّى الجنائز لقصد الصلاة على الأموات، وأمَّا إذا حَضَرتِ المرأةُ إلى المسجد للصلاة فيه، كالمسجد الحرام أو المسجد النبوي وغيرهما، فوَافقت جنازة فلا بأسَ بالصلاة عليها مع الناس.

     وكذا لو كانت الجنازة في بيتها فصلَّت عليها فلا حَرَج في ذلك؛ لِما أخرجه مسلم في صحيحه (ح100-973): عن عبد اللهِ بن الزبير يُحدِّثُ عن عائشةَ -رضي الله عنها-: أنها لَمَّا توُفِّيَ سعدُ بنُ أبي وقاصٍ، أرسلَ أزواجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يَمُرُّوا بجنازتهِ في المسجدِ، فيُصَلِّينَ عليه، ففعلُوا، فَوُقفَ بهِ على حُجَرِهنَّ يُصلِّينَ عليه، أُخرجَ بهِ من بابِ الجنائزِ الذي كان إلى الْمَقاعدِ، فبلَغَهُنَّ أنَّ الناسَ عابُوا ذلك، وقالُوا: ما كانت الجنائزُ يُدخَلُ بها المسجدَ، فبلَغَ ذلك عائشةَ، فقالت: ما أسرَعَ الناسَ إلى أن يَعيبُوا ما لا علمَ لهم بهِ! عابُوا علينا أن يُمَرَّ بجنازةٍ في المسجدِ! وما صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على سُهيل بنِ بيضاءَ إلاَّ في جوفِ المسجدِ. وكذا لو جُهِّزَ الْميِّتُ في بيته، وهي فيه فلا بأس بصلاتها عليه، والله أعلم.

هل النساءُ مثل الرِّجال؟

     فإنّ قيل: ثبتَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَن اتَّبعَ جَنازةَ مُسلمٍ إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يُصلِّي عليها، ويَفرُغَ من دفنها؛ فإنه يَرجعُ من الأجرِ بقيراطينِ، كُلُّ قيراطٍ مثلُ أُحُدٍ، ومَن صلَّى عليها ثمَّ رَجَعَ قبلَ أنْ تُدفنَ؛ فإنه يَرْجعُ بقيراطٍ». أخرجه البخاري (47). والنساءُ مثل الرِّجال!

     فالجوابُ: ما قاله الإمام ابن تيمية: «قد عُلمَ بالأحاديثِ الصَّحيحةِ: أنَّ هذا العُمُومَ لم يَتناول النساءَ، لنهي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَهُنَّ عن اتِّباعِ الجنائزِ، سواءٌ كانَ نهيَ تحريمٍ أو تنزيهٍ» مجموع الفتاوى (24/ 346)، وقال الحافظ ابن حجر: «قال الزين بن المنيِّر: فَصلُ المصنفِ بين هذه الترجمة - أي قول البخاري: باب اتِّباع النساء الجنائز - وبين فضل اتباع الجنائز بتراجم كثيرة تُشعر بالتفرقة بين النساء والرِّجال، وأنَّ الفضل الثابت في ذلك يختصُّ بالرِّجال دون النساء؛ لأنَّ النهي يقتضي التحريم، أو الكراهة، والفضل يدلُّ على الاستحباب، ولا يجتمعان، وأطلق الحكم هنا؛ لِما يتطرَّق إليه من الاحتمال، ومن ثمَّ اختلف العلماءُ في ذلك، ولا يخفى أن محلَّ النزاع إنما هو حيث تُؤمنُ المفسدة». فتح الباري (3/ 145).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك