رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 1 يوليو، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – باب: كراهية البناء والتَّجْصيص على القُبُور


عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْه، وأَنْ يُبْنَى علَيْه» الحديث أخرجه مسلم في الجنائز ( 2/255) وبوب عليه عليه النووي كتبويب المنذري.

     قوله: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ»، وفي الرواية الأخرى: «نهى عن تقصيص القبور» والتقصيص - بالقاف وصادين - هو التجصيص، والقصّة بفتح القاف وتشديد الصاد هي الجص، ورواه النسائي وأبو داود والترمذي وصححه، ولفظه: «نهى أنْ تُجّصص القبور، وأن يُكتب عليها، وأنْ يُبنى عليها، وأنْ تُوطأ»، وفي لفظ النسائي: «أنْ يُبني على القبر، أو يزاد عليه، أو يُجصص، أو يكتب عليه».

الحكمة في النهي

     وفي هذه الأحاديث: النَّهي عن تجصيص القبر، والبناء عليه، والأصل في النَّهي التحريم، كما هو معلوم من الأصول، كما بيّنه ابن حزم وغيره، إذا لم تأت قرينة تفيد الكراهة، والحكمة في ذلك: إن القبر للبلى لا للبقاء، وإنّ تجصيصه من زينة الدنيا، ولا حاجة للميت إليها.

وذكر بعضهم: أن الحكمة في النهي عن تجصيص القبور، كون الجصّ أحرق بالنار، ويؤيده ما جاء عن زيد بن أرقم، أنه قال لمن أراد أن يبني قبر ابنه ويجصصه: جفوت ولغوت، لا يقربه شيء مسته النار .

ولا بأس بتطيين القبر

قال الترمذي: وقد رخّص بعض أهل العلم -منهم الحسن البصري- في تطيين القبور . وقال الشافعي: لا بأس به أن يطين القبر.

رفع القبر

- والسُّنة: أنْ يرفع القبر عن الأرض قَدْر شبر، وأنْ يُجعل مسنّما لا مُسَطّحا في قول جمهور العلماء؛ لما روى سُفْيَانَ التَّمَّارِ رضي الله عنه: أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا. رواه البخاري (1390)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أُلْحد، ونُصب عليه اللبن نصباً، ورُفع قبره من الأرض نحواً من شبر. رواه ابن حبان في صحيحه (6635)، والبيهقي في السنن (6527) وحسنه الألباني.

تحريم القعود على القبر

قوله: «وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْه»، فيه تحريم القعود، والمراد بالقعود الجلوس عليه، هذا مذهب الشافعي وجمهور العلما، قال مالك في الموطأ: المراد بالقعود: الجلوس؛ ومما يوضحه الرواية المذكورة بعد هذا: « لا تجلسوا على القبور».

     وفي الرواية الأخرى لمسلم: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لأنْ يَجلس أحدُكم على جَمْرةٍ؛ فتحرقَ ثيابه فتَخلص إلى جِلده، خيرٌ له مِنْ أنْ يجلس على قبر». قال النووي -رحمه الله-: قال أصحابنا: تجصيص القبر مكروه، والقعود عليه حرام، وكذا الاستناد إليه، والاتكاء عليه. قال الشافعي في الأم: ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يُبنى، ويؤيد الهدم الرواية السابقة، وهي قوله: «ولا قبرا مشرفاً إلا سوَّيته».

وقال النووي أيضاً في شرح مسلم: «فِيهِ أَنَّ السُّنَّة أَنَّ الْقَبْر لَا يُرْفَع على الْأَرْض رَفْعًا كَثِيرًا, ولَا يُسَنَّم, بل يُرْفَع نحو شِبْر ويُسَطَّح، وهذا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ, ونَقَلَ القاضي عِيَاض عن أَكثَر الْعُلَمَاء أَنَّ الْأَفْضل عندهم تَسْنِيمها وهو مَذْهَب مَالِك». انتهى .

النهي عن الصلاة إلى القبر

قوله صلى الله عليه وسلم : «لا تَجْلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها»، فيه تصريح بالنهي عن الصلاة إلى قبر، قال الشافعي -رحمه الله-: وأكره أن يعظم مخلوق، حتى يُجعل قبره مسجداً، مخافة الفتنة عليه، وعلى من بعده من الناس. انتهى

فلا يحل القعود على القبر، ولا الاسْتناد إليه، ولا المشي عليه؛ لما روى عمرو بن حزم قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا على قبر؛ فقال: «لا تُؤذ صاحبَ هذا القبر»، أو «لا تُؤْذه». رواه أحمد بإسناد صحيح.

مذهب ابن حزم

والقول بالحرمة مذهب ابن حزم؛ لما ورد فيه من الوعيد، قال: وهو قول جماعة من السلف، منهم أبو هريرة، ومذهب الجمهور: أن ذلك مكروه .

- قال النووي: عبارة الشافعي في الأم، وجمهور الأصحاب في الطرق كلها أنه يكره الجلوس، وأرادوا به كراهة التنزيه، كما هو المشهور في استعمال الفقهاء، وصرح به كثيرٌ منهم، قال: وبه قال جمهور العلماء، منهم النخعي، والليث، وأحمد، وداود، قال: ومثله في الكراهة الاتكاء عليه والاستناد إليه، وذهب ابن عمر من الصحابة، وأبو حنيفة، ومالك إلى جواز القعود على القبر.

قال في الموطأ: إنما نُهي عن القعود على القبور فيما نرى، ونظن للذاهب يقصد لقضاء حاجة الإنسان من البول، أو الغائط، وذكر في ذلك حديثا ضعيفا، وضعف أحمد هذا التأويل، وقال: ليس هذا بشيء .

وقال النووي: هذا تأويل ضعيف أو باطل، وأبطله كذلك ابن حزم من وجوه عدة.

وهذا الخلاف في غير الجلوس لقضاء الحاجة؛ فاما إذا كان الجلوس لها؛ فقد اتفق الفقهاء على حرمته، كما اتفقوا على جواز المشي على القبور إذا كان هناك ضرورة تدعو إليه، كما إذا لم يصل إلى قبر ميته إلا بذلك.

كراهة بنائه بالآجُر

     وكما كره العلماء تجصيص القبر، كرهوا بناءه بالآجُر، أو الخشب، أو دفن الميت في تابوت، إذا لم تكن الأرض رخوة أو ندية؛ فإنْ كانت كذلك، جاز بناء اللحد في القبر بالآجر ونحوه، وجاز دفن الميت في تابوت من غير كراهة؛ فعن مغيرة عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون اللبن، ويكرهون الآجر، ويستحبون القصب، ويكرهون الخشب.

الكتابة على القبور

وفي الحديث أيضا: النهي عن الكتابة على القبور، وظاهره عدم الفرق بين كتابة اسم الميت على القبر، أو غيره .

     قال الحاكم بعد تخريج هذا الحديث: الإسناد صحيح، وليس العمل عليه؛ فإن أئمة المسلمين من الشرق والغرب يكتبون على قبورهم، وهو شيء أخذه الخلف عن السلف، وتعقبه الذهبي بأنه محدث، ولم يبلغهم النهي، ومذهب الحنابلة: أن النهي عن الكتابة الكراهة، سواء أكانت قرآنا، أم كانت اسم الميت.

الوقوع في الشرك الأكبر

     والبناء على القبور من أسباب وقوع الناس في الشرك الأكبر، وقد سبق بيان شيء من ذلك، وهذا مزيد له، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- بعد أنْ ذكر جُملة من الأحاديث التي نهى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم عن بناء المساجد على القبور: «والمقصود أنَّ هؤلاء المُعظّمين للقبور المتخذينها أعياداً، الموقدين عليها السُّرج، الذين يبنون المساجد والقباب، مُناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، محادُّون لما جاء به وأعظم كاتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر، وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه، إلى أن قال: وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين، إلى أن شرعوا للقبور حَجَّا، ولا يخفى أن هذا مُفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام». إغاثة اللهفان (1/196).

وضع القباب

ورفع القبور ووضع القباب والمساجد والمشاهد عليها، قد غضب الله على فاعله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد». رواه مالك (414) وعبدالرزاق ( 1587).

     ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربّه فقال: «اللهم لا تجعلْ قبري وثناً، لعنَ الله قوماً اتخذوا قبورَ أنبيائهم مَساجد». رواه مالك (414)، وأحمد (2/246)، وصححه الألباني، قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-: «الوثن: الصنم، وهو الصورة من ذهب كان أم من فضة، أم غير ذلك من التمثال، وكل ما يعبد من دون الله فهو وثن، صنماً كان أو غير صنم، وكانت العرب تصلي إلى الأصنام وتعبدها؛ فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته أن تصنع كما صنع بعض من مضى من الأمم، كانوا إذا مات لهم نبي، عكفوا حول قبره كما يصنع بالصنم؛ فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تجعل قبري وثنا يصلى إليه، ويسجد نحوه ويعبد؛ فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله، الذين صلوا إلى قبور أنبيائهم، واتخذوها قبلة ومسجدا، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وأنه مما لا يرضاه خشية عليهم من امتثال طرقهم». انتهى. (التمهيد5/45)

- ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يفعل ذلك بقبره؛ فكيف بغيره من القبور؟ فقال: «لا تتخذوا قبري عيداً». رواه أحمد (2/367)، وأبو داود.

- عيداً: أي: موسماً تجتمعون فيه، كما صار يفعله كثير من عباد القبور، يجعلون أوقاتا معلومة يجتمعون فيها عند قبورهم، يعكفون عليها، ويَنسكون لها المناسك، ويَذبحون لها الذبائح، كما يعرف ذلك الناس من أفعالهم وأحوالهم، وقد تركوا عبادة الله الواحد الخالق العظيم الذي خلقهم ورزقهم، ثم يُميتهم ويحييهم، وعبدوا عبداً من عباد الله، صار تحت أطباق الثرى، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً؛ فكيف لغيره؟!

من فعل اليهود والنصارى

     وتارة جعله النبي صلى الله عليه وسلم من فعل اليهود والنصارى، ولعنهم عليه، كما في الحديث: عن عائِشةَ -رضِي اللَّهُ عنها- قالت -: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في مَرَضِه الَّذي لَمْ يَقُمْ منه: «لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، لولاَ ذلكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيرَ أَنَّهُ خَشِيَ - أَوْ خُشِيَ - أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا؛ فقد روى البخاري (1390) ومسلم (529). وغيرها من الأحاديث في الباب.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك