رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 8 أغسطس، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – باب: في عذاب القبر والتعوِّذ منه

 

عن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ على بَغْلَةٍ لَهُ ونَحْنُ مَعَهُ؛ إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيه، وإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ قال: كذا كان يَقُولُ الْجُرَيْرِيُّ؛ فقال: «مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟»؛ فقال رَجُلٌ: أَنَا قَال: «فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟»، قال: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ؛ فقال: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا؛ فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا؛ لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ»، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ؛ فقال: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّار»، قالوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ؛ فقال: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ»، قالوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، قال: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ  مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، قالوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الفِتَنِ، ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ، قال: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ»،  قالوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ .

     هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها (4/2199) وبوب عليه النووي: باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، صحابي الحديث: زيد بن ثابت، هو ابن الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار بن ثعلبة .

قال الذهبي: الإمام الكبير، شيخ المقرئين، والفرضيين مفتي المدينة أبو سعيد، وأبو خارجة الخزرجي، النجاري الأنصاري، كاتب الوحي رضي الله عنه ، حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صاحبيه، وقرأ عليه القرآن بعضه أو كله، ومناقبه جمة. انتهى

قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط، أي: كان في بستان لبني النجار قبيلة من الأنصار .

قوله: «على بغلة له إذ حادت» بالحاء المهملة على الصحيح، وقيل بالجيم من الجودة بالضم أي: مالت ونفرت، «فكادت تلقيه» من الإلقاء، أي: تسقطه وترميه عن ظهرها.

قوله: «وإذا أقبر» بفتح فسكون فضم، جمع فبر «ستة أو خمسة» إذا بالألف للمفاجأة، والواو للحال، أي: نحن على ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم «وإذا أقبر» أي: ظهرت لنا قبور معدودة فجأة .

صوت المعذَّبين

     قال القرطبي -رحمه الله-: وإنما حادت به البغلة لما سمعت من صوت المعذَّبين، وإنما لم يسمعه من يعْقِل من الجن والإنس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لولا ألا تَدافنوا؛ لدعوتُ الله أن يُسمعَكم من عذاب القبر الذي أسمع منه»، وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مَغَلت - والمَغل: مغص يصيب الدواب إذا أكلت الترابَ مع العلف - إلى قبور اليهود والنصارى والمنافقين، كالإسماعيلية، والنُّصيرية، والقرامطة من بني عُبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام؛ فإنَّ أصحاب الخيل يقصدون قبورهم لذلك، كما يقصدون قبور اليهود والنصارى، قالوا: فإذا سمعت الخيلُ عذاب القبر أحْدثَ لها ذلك فزعًا وحرارة تذهب بالمغل. انتهى . (كتاب الروح: ص 72).

قوله: مَنْ يَعرف أصحاب هذه الأقبر؟

     قوله: «فقال: مَنْ يَعرف أصحاب هذه الأقبر؟ أي: ذواتهم وصفاتهم وتاريخ وفاتهم وأيام حياتهم؟ قال رجل: أنا، أي: أعرفهم، قال صلى الله عليه وسلم : إذا كنت تعرفهم؛ فمتى ماتوا؟، أي: في الجاهلية أم بعدها؟، قال: «مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ»، أو «في الشرك»، أي: في زمنه أو صفته، قال ابن حجر: أي بعد بعثتك بدليل قوله: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها». أي: بالعذاب فيها، قال: وإنما حملته على ذلك ليوافق الأصح أن أهل الفترة لا عقاب عليهم اهـ. كذا قال، وفيه: أن أهل الفترة على ما حققوا نادر الوجود؛ لوجود دعوة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام.

قوله: «فقال: إنّ هذه الأمة». الأمة : كلُّ جماعة يجمعهم أمرٌ واحد، إما دين أو زمان أو مكان. «تبتلى» بصيغة المجهول، أي: تمتحن في قبورها، ثم تنعّم أو تعذب .

قوله: «فلولا أنْ لا تدافنوا»

بحذف إحدى التاءين، أي: لولا مخافة عدم التدافن إذا كشف لكم لدعوت الله، أي: سألته أنْ يسمعكم، أنْ يجعلكم سامعين من عذاب القبر، يحتمل أنْ تكون من للتبعيض، ويحتمل أن تكون زائدة .

     قيل: المانع من الدعاء هو الخوف عليهم من الحيرة والدهشة وانخلاع القلب. وقيل المانع ترك الإعانة في الدفن، وقال التوربشتي: لو سمعوا ذلك لهمَّ كلُّ واحدٍ منهم خويصة نفسه وعمَّهم من ذلك البلاء العظيم حتى أفضى بهم إلى ترك التدافن وخلعَ الخوفُ أفئدتَهم حتى لا يكادوا يقربون جيفة ميت.

قوله: «الذي أسمع منه»

     أي: الذي أسمعه من القبر؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع ما لا نسمع من أصوات حقيقية؛ فقد كان يسمع القرآن من جبريل -عليه السلام- والصحابة جالسون لا يسمعون شيئا، ويرى بعين بصره ما لا نرى، كما يصور له من المعاني في صور المحسوسات، ما لم يصور لنا؛ فقد صورت له الجنة والنار، ورأى صورتهما في عرض الحائط مما لم يقع، ولكنه سيقع، وقال ابن حجر: أي: مثل الذي أسمعه مفعول ثان ليسمع، أي: أنْ يُوصل إلى آذانكم أصوات المعذبين في القبر؛ فإنكم لو سمعتم ذلك تركتم التدافن من خوف قلع صياح الموتى أفئدتكم، أو خوف الفضيحة في القرائب، لئلا يطلع على أحوالهم .

حكمة إلهية

     وقال القرطبي: فكتمه الله -سبحانه وتعالى- عنَّا حتى نتدافن بحكمته الإلهية ولطائفه الربَّانية لغلبة الخوف عند سماعه؛ فلا نقدر على القُرب من القبر للدفن، أو يهلك الحي عند سماعه؛ إذ لا يُطاق سماع شيءٍ من عذاب الله في هذه الدار لضعف هذه القوى، ألا نرى أنه إذا سمع الناسُ صعقة الرّعد القاصف، أو الزلازل الهائلة هلك كثير من الناس؟! وأينَ صعقة الرعد من صيحة الذي تضربه الملائكة بمطارق الحديد التي يسمعها كلُّ من يليه؟!

إذا وُضِعت الجنازة

     وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في (صحيح البخاري) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «إذا وُضِعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم؛ فإنْ كانت صالحة، قالت: قدِّموني قدّموني، وإنْ كانت غير صالحة، قالت: يا ويلها! أين تذهبون بها؟! يَسْمع صوتها كلُّ شيءٍ إلا الإنسان، ولو سَمِعها الإنسانُ لصعق». هذا وهو على رؤوس الرجال، وهي صيحة من غير ضرب ولا هوان؛ فكيف إذا حلَّ به الخزي والنكال، واشتد عليه الضرب والوبال؟!  فنسأل الله معافاته ومغفرته وعفوه ورحمته بِمنِّه. اهـ بتصرف (التذكرة: ص 163).

     وهذا الحديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم : «لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا». متفق عليه  قال ابن حجر: ووجه هذا التلازم أن الكشف عن ذلك العذاب يؤدي جهلة العامة إلى ترك التدافن خوفا عليهم منه، ويؤدي الخاصة إلى اختلاط عقولهم، وانخلاع قلوبهم من تصور ذلك الهول العظيم؛ فلا يَقربون جِيفة ميت، وبهذا التفصيل الذي ذكرته يندفع ما قيل: كيف يليق بمؤمن أنْ يترك الدفن المأمور به حَذَراً من عذاب القبر، بل يلزمه أنْ يعتقد أن الله إذا أرادَ تعذيبَ أحدٍ عذبه، ولو في بطن الحيتان، وحواصل الطيور.

قوله : «ثم أقبلَ علينا بوجهه»

تأكيد كقوله: رأيته بعيني؛ «فقال: تعوّذوا بالله من عذاب النار». أي: اطلبوا منه أنْ يدفع عنكم عذابها.

قوله: «قالوا: نعوذُ بالله من عذاب النار»، أي: نعتصمُ به منها، قال: «تعوَّذوا بالله من عذاب القبر»، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، ولعل تقديم عذاب النار في الذكر مع أنّ عذاب القبر مقدم في الوجود؛ لكونه أشد وأبْقى وأعظمُ وأقوى .

قوله: «تعوذوا بالله من الفتن»

     الفتن جمع فتنة، وهي الامتحان، والابتلاء والبلاء، والشرك والكفر، وهو تعميم بعد تخصيص، «ما ظهر منها وما بطن» بدل من الفتن، وهو عبارة عن شمولها؛ لأنَّ الفتنة لا تخلو منهما، أي: ما جهر وأسر، وقيل: ما يجري على ظاهر الإنسان، وما يكون في القلب من الشرك والرياء والحسد وغير ذلك من مذمومات الخواطر .

قوله: «قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن» أي: المراد كل فتنةٍ تجر إلى عذاب القبر، أو إلى عذاب النار.

قوله: «تَعوَّذُوا بِاللهِ مِن فتنةِ الدَّجَّالِ» خصَّها بالذّكر؛ لأنَّها مِن أكبرِ الفتنِ في الدُّنيا؛ حيثُ تَجرُّ فتنة الدجال إلى الكفْرِ الأكبر الْمُفضِي إلى العذابِ المُخلَّدِ في النار، قالوا: نعوذُ بِاللهِ مِن فتنةِ الدَّجَّالِ .

فوائد الحديث

في الحديثِ: ثبوتُ سماعِ البهائمِ لِأصواتِ المعذَّبِينَ في القبورِ، وفيه: الأمرُ بِالاستعاذةِ مِن عذابِ القبرِ، والفتنِ، والنَّارِ، وفتنةِ الدَّجَّالِ .

وفيه: ثبوتُ عذابِ القبر، وقد سبق الكلام عليه .

وفيه أنّ الإنسان يستعيذ بالله -تعالى- من شرّ ما وقع؛ فيُعان على تحمّله وعلى عدم الفتنة به، ويستعيذ بالله مما سيقع؛ ليُعينه الله عليه عند وقوعه؛ ويكفيه شرّه  .

     وقد صح في الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ؛ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ». رواه مسلم .

أمر الشارع بالاستعاذة

     وأَمرُ الشارع بالاستعاذة من شيءٍ دليلٌ قاطع على وجود هذا الشيء؛ فأمرنا بالاستعاذة من وسوسة الشيطان، وهو أمر واقع في قوله: {من شر الوسواس الخنّاس الذي يُوسوس في صُدور الناس مِن الجنة والناس}(الناس 4- 6)، دليل لا شك في وجوده، وعليه؛ فالأمر بالاستعاذة من عذاب القبر، دليلٌ قاطع على أنّ للقبر عذاباً، ولما كان الميت من الإنسان يُقبر غالبا منذ أنْ قتل ابن آدم أخاه، وجعل القرآن الإقبار منة امتن بها على الإنسان ونعمة، بقوله: {ثم أماته فأقبره}(عبس : 21).

البرزخ

     ولما كان ذلك كذلك صح أن يسند ما يقع بعد الموت إلى القبر، وإن لم يقبر، وما يقع له بين الموت والحساب، وهو البرزخ المذكور في قوله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(المؤمنون: 99 -100).

رؤية الميت لمكانه

     وقد يراه الميت يومًا أو بعض يوم مهما طالت المدّة؛ ومما هو معلوم أن الميت حين تبلغ روحه الحلقوم، يرى إنْ كان مِن المقربين {فروح وريحان وجنة نعيم وأما إنْ كان مِن أصحاب اليمين فسلامٌ لك من أصحاب اليمين وأما إنْ كان من المُكذّبين الضالين فنزل من حميم وتَصلية جحيم} (الواقعة: 89- 93).

أسباب عذاب القبر

     وأسباب العذاب في القبر كثيرة؛ فبعضهم يعذب في قبره على النميمة، وبعضهم على عدم التنزه من البول، وبعضهم على الكذب، وبعضهم على أكل الربا، وبعضهم على الزنا، وغيرها من كبائر الذنوب التي وردت بها النصوص الشرعية، وأعظمها الكفر بالله -عز وجل- ورسله، كما قال الله عن فرعون وقومه: {وحاقَ بآل فرعون أشدّ العذاب النار يُعْرضونَ عليها غُدُواً وعشياً ويومَ تقومُ الساعة أدخلوا آلَ فرعون أشدّ العذاب}(غافر: 45-46).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك