رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 1 سبتمبر، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – باب: في زيارة القبور والاستغفار لهم


عَنْ أَبِي هُريرة رضي الله عنه ، قال: زَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  قَبْرَ أُمِّهِ؛ فَبَكَى وأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ؛ فقال: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي في أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَها؛ فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، واسْتَأْذَنْتُهُ في أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا؛ فَأُذِنَ لِي؛ فَزُورُوا الْقُبُور؛ فَإِنَّها تُذَكِّرُ الْمَوْتَ»، الحديث أخرجه مسلم في كتاب الجنائز (2/671) باب: استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه -عزّ وجل- في زيارة قبر أُمه، وقد رواه الإمام أحمد (23003)  بسياق أطول: عنِ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَنَزَلَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَهُ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ رَاكِبٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ؛ فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَفَدَاهُ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ، يَقول: يَا رَسُولَ الله، مَالَكَ؟ قَالَ: «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي فِي اسْتِغْفَارٍ لِأُمِّي؛ فَلَمْ يَأْذَنْ لِي؛ فَدَمَعَتْ عَيْنَايَ رَحْمَةً لَهَا مِنَ النَّار». صححه محققو المسند، وكذا الألباني في (الإرواء) (3/224).

قال القاضي عياض -رحمه الله-: سبب زيارته صلى الله عليه وسلم قبرها، أنه قصد قوة الموعظة والذكرى بمشاهدة قبرها، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: «فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الموت». شرح مسلم للنووي .

- قوله: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي في أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَها»، يحتمل أنْ يكون هذا الاستئذان قبل نزول قوله -تعالى-: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}(التوبة: 113)، ويحتمل أنْ يكون بعد ذلك، وارتجى خُصوصية أُمه بذلك، والله -تعالى- أعلم، وهذا التأويل الثاني أولى، قاله القرطبي في المفهم (2/633-634).

وفيه: جواز زيارة المشركين في الحياة؛ وقبورهم بعد الوفاة؛ لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة؛ ففي الحياة أولى، وقد قال الله -تعالى-: {وصاحبهما في الدنيا معروفا}، وفيه النهى عن الاستغفار للكفار.

والحديث يدل على أنَّ أمَّ النبي صلى الله عليه وسلم ماتت كافرة، وأنها من أهل النار، وقد أجمع على ذلك العلماء المتقدمون.

النهي عن الاستغفار للكفار

     ووجه الدلالة من الحديث: أنَّ الله -تعالى- نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار للكفار، ولو كانوا من أقربائه؛ فقال -تعالى-: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}(التوبة: 113)؛ فلولا أنَّ أمَّه صلى الله عليه وسلم من هؤلاء؛ لما نهاه الله -تعالى- عن الاستغفار لها، وقد وردت نصوص أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحة في أمَّه، أنها في النار.

     فقد روى الإمام أحمد (16189) عَنْ أَبِي رَزِينٍ رضي الله عنه قَال: قُلْتُ : يا رسولَ اللهِ، أَيْنَ أُمِّي؟ قال: «أُمُّكَ فِي النَّارِ»، قال: قُلْتُ: فأَيْنَ مَنْ مَضَى مِنْ أَهْلِكَ؟، قال: «أَما تَرْضَى أَنْ تَكُونَ أُمُّكَ مَعَ أُمِّي»؟ قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات. (مجمع الزوائد) (1/313)، وصححه الألباني في (ظلال الجنة) (1/344) بشواهده؛ فهذه نصوص صريحة واضحة في أنّ أم النبي صلى الله عليه وسلم في النار.

الخَبَرَ عمَّا كان ويَكونُ

     وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «إنَّ الخَبَرَ عمَّا كان ويَكونُ، لا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ، كقولِهِ في أَبِي لَهَبٍ: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}، وكقولهِ في الوَلِيدِ: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}، وكذلك في: «إنَّ أَبِي وَأَبَاك فِي النَّارِ» و«إنَّ أُمِّي وَأُمَّك فِي النَّارِ»، وهذَا لَيْسَ خَبَرًا عَنْ نَارٍ يَخْرُجُ مِنْهَا صَاحِبُهَا كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّهُ لو كان كذلِك؛ لجَازَ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، ولَو كَانَ قدْ سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ إيمَانُهُما، لم يَنْهَهُ عنْ ذلِكَ؛ فإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالْخَوَاتِيمِ، ومَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ فَلَا يَكُونُ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ مُمْتَنِعًا.  (مجموع الفتاوى). (4/ 326).

أقوال أهل العلم

     ولا يعلم أنَّ أحدا من أهل العلم خالف في أنَّ أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ماتا على الكفر، وأنهما في النار إلا بعض المتأخرين، أما المتقدمون؛ فلا يعرف خلاف بينهم في ذلك، قال القاري -رحمه الله-: «وَأما الْإِجْمَاع؛ فقد اتّفق السّلف وَالْخلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة؛ وسَائِر الْمُجْتَهدين على ذَلِك من غير إِظْهَار خلاف لما هُنَالك، والْخلاف من اللَّاحِق، لَا يقْدَح فِي الْإِجْمَاع السَّابِق». (أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي الرسول -عليه الصلاة والسلام-) (ص 84)، وينبغي ألا تأخذ هذه المسألة أكثر من حقها في البحث ، وكثرة الجدال .

زيارة القبور

     وعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، ونَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوقَ ثَلَاثٍ؛ فأَمْسِكُوا ما بَدَا لَكُم، ونَهَيْتُكُمْ عَنْ النَّبِيذِ إِلَّا في سِقَاءٍ؛ فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا، ولا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا»، الحديث أخرجه مسلم في الجنائز في الباب نفسه، وقوله: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا»، يدل على مشروعية زيارة القبور للاتعاظ، وتذكر الآخرة، ونسخ المنع الذي كان أول الإسلام.

زيارة القبور للرجال والنساء

     قال النووي -رحمه الله-: «اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يستحب للرجال زيارة القبور, وهو قول العلماء كافة، نقل العبدري فيه إجماع المسلمين, ودليله مع الإجماع: الأحاديث الصحيحة المشهورة، وكانت زيارتها منهياً عنها أولاً ثم نسخ..». (شرح المهذب) (5/284).

     وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: في هذا الحديث من الفقه: إباحة الخروج إلى المقابر وزيارة القبور، وهذا أمرٌ مجتمع عليه للرجال، ومختلف فيه للنساء، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها، ولا تقولوا هَجْرًا؛ فإنها تذكر الآخرة». (التمهيد) (20/239).

وذهب بعض أهل العلم إلى جواز زيارة القبور للرجال والنساء؛ فقد ورد في الصحيحين: من حديث أنس رضي الله عنه : أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ؛ فَقَالَ: «اتْقِي الله، واصْبِرِي». رواه البخاري برقم (1283)، ومسلم برقم (926).

زيارة القبور للنساء

     قال الحافظ -رحمه الله-: «وموضع الدلالة منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجة» اهـ. فتح الباري (3/ 148-149)، والصحيح: أنّ قوله صلى الله عليه وسلم : «اتقي الله» إنكارٌ عليها، كما ذكره الإمام ابن القيم وغيره، وهو ما ذهب إليه جمع من أهل العلم، منهم الإمام أحمد إلى المنع، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : «لَعَنَ اللّه زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ».

قال العلماء: إنما تكره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن، وخلو المقابر من الناس في العادة، وحصول الفتنة بهن، وهذا ما تفتي به اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية.

مشروعية زيارة القبور

وأما سبب مشروعية زيارة القبور: فقد شرعت زيارة القبور لأمرين:

- الأول: أن يتذكر الإنسان مآله؛ لأنه سيصير مثلما صار هذا المقبور، ويكون مرجعه إلى القبر؛ فيتوب ويجتهد في العمل، ويتذكر الآخرة، ويتذكر ما أمامه.

- الثاني: أن يحسن إلى الميت بالدعاء له؛ فإنه في أمس الحاجة إلى دعوة تلحقه من أخ له صادق، أما أنْ ينعكس الأمر، ويزور الإنسان القبر ليسأل صاحبه؛ فهذا عكس ما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم والشرع تمامًا. 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك