رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 30 سبتمبر، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – باب: في الرَّجُل الصَّالح يُثْنى عليه


عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثٍ، يَقُول: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ، إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ»، الحديث رواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (4/2205-2206)، وبوب عليه النووي : باب : الأمر بحُسن الظن بالله -تعالى- عند الموت .

     عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ، يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ ويَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْه؟ قال: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ». هذا الحديث هو الأخير في كتاب الجنائز من مختصر مسلم، ويليه كتاب الزكاة، نسأل الله -تعالى- الإعانة والتوفيق لإكماله، وقد أخرجه مسلم في البر والصّلة والآداب ( 4/2034) باب: إذا أُثْنِيَ على الصَّالح فهي بُشرى ولا تضُرّه.

تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ

     قوله: «أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ؛ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ؛ ويَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْه؟» سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المسلم إذا عمل عملاً صالحاً مِن صلاةٍ أو زكاةٍ أو صدقةٍ أو برٍّ أو صلة رحم ونحوها، مخلصاً لا يرجو به غير وجه الله، فيطّلع الناس عليه، فيُثنون عليه به، ويمدحه الناس عليه؛ فيسّره ذلك ويستبشر به خيراً، هل يضرّه ذلك، أو ينقص أجره؟ وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» قال النووي -رحمه الله-: «قَال الْعُلَمَاء: معناهُ هَذِهِ الْبُشْرَى الْمُعَجَّلَة له بِالخَيْرِ، وهِي دَلِيلٌ علَى رِضَاء اللَّه -تعالى- عنه، ومَحَبَّته له، فَيُحَبِّبهُ إِلى الخَلْق؛ كما سَبَقَ فِي الحدِيث «ثُمَّ يُوضَع لَهُ الْقَبُول فِي الْأَرْض»، هَذَا كُلّه إِذَا حَمِدَهُ النَّاس؛ مِنْ غير تَعَرُّض مِنهُ لِحَمْدِهِمْ، وإِلَّا فَالتَّعَرُّض مَذْمُوم» انتهى.

قَبول العامل ومدحه

     وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: «والمعنى: أنّ الله -تعالى- إذا تقبّل العمل؛ أوقع في القلوب قَبَول العامل ومدحه، فيكون ما أوقع في القُلوب مبشّراً بالقبول، كما أنه إذا أحبَّ عبداً حبّبه إلى خَلقه، وهم شُهداء الله في الأرض». «كشف المشكل» (ص 245)، وقال السيوطي -رحمه الله-: «أي: هذه البشرى المعجلة؛ دليل للبشرى المؤخرة إلى الآخرة».(شرح السيوطي على مسلم) (5/ 556).

معني الحديث

وقد سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: ما معني الحديث الذي يقول «تلك عاجلُ بُشْرى المؤمن»؟ فأجاب -رحمه الله تعالى-: «المؤمن يُبَشّر في الدنيا بعمله الصالح؛ من عدّة وجوه:

- أولا: إذا شرح الله صدره إلى العمل الصالح وصار يطمئن إليه، ويفرح به كان هذا دليلاً على أنَّ الله -تعالى- كتبه من السُّعداء؛ لقول الله -تبارك وتعالى-: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} الليل: 5 -7. فمِن بُشرى المؤمن أنْ يجد من نفسه راحة في الأعمال الصالحة ورضا بها؛ وطمأنينة إليها؛ ولهذا كانت الصلاة قُرة عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

ثناء الناسِ عليه بالخير

ومن البشرى للمؤمن: أنْ يثني الناسُ عليه خيراً فإنَّ ثناء الناسِ عليه بالخير؛ شهادة منهم له على أنه من أهل الخير.

ومنها: أنْ تُرى له المَرائي الحسنة في المنام». (فتاوى نور على الدرب) (11/ 45-46)باختصار.

ليس من الرياء

     وقال -رحمه الله-: «ليس من الرياء أن يفرح الإنسان بعلم الناس بعبادته؛ لأن هذا إنما طرأ بعد الفراغ من العبادة، وليس من الرياء أن يسر الإنسان بفعل الطاعة؛ لأن ذلك دليل إيمانه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سرّته حَسَنتُه؛ وساءَته سيئته؛ فذلك المؤمن» انتهى. (مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين) (2 / 207)؛ ويكون ذلك وأمثاله من دلائل محبة الله له وقبول عمله، فيعجل الله له البشرى في الدنيا بهذا الثناء والرضا والقبول من الناس، ويدخر له في الآخرة جزيل الثواب؛ فقد روى البخاري (3209) ومسلم (2637): عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ. فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ؛ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ»، ورواه الترمذي (3161) وزاد: «فذلكَ قَوْلُ اللَّهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا} مريم: 96.

يُوضَع لَهُ الْقَبُول فِي الْأَرْض

     قال النووي -رحمه الله-: ومعْنَى: «يُوضَع لَهُ الْقَبُول فِي الْأَرْض» أَيْ: الْحُبّ فِي قُلُوب النَّاس، وَرِضَاهُمْ عَنْهُ، فَتَمِيل إِليه الْقُلُوب، وتَرْضَى عنهُ. وقدْ جاءَ في روايَة «فَتُوضَع لَهُ الْمَحَبَّة». انتهى. وقال ابن كثير -رحمه الله-: «يخبر -تعالى- أنه يَغرس لعباده المُؤْمنين؛ الذين يَعملون الصالحات في قلوب عباده الصالحين مَودّةً، وهذا أمرٌ لابدَّ منه، ولا محيدَ عنه، وقد وردت به الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه». (تفسير ابن كثير) (3 /117).

الرؤيا الصالحة

     ومن ذلك الرؤيا الصالحة يراها في نومه، أو تُرى له؛ فقد روى البخاري (6990): عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَمْ يَبْقَ مِنْ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ»؛ قَالُوا وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ، قَال: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ». وروى الترمذي (2273) وحسنه عن أبي الدَّرْدَاءِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: {لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فَقَالَ: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ». وصححه الألباني.

     وقال السعدي -رحمه الله- في قوله -تعالى-:  {لهم البُشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} يونس: 64؛ قال: «أما البَشارة في الدُّنيا، فهي: الثّناء الحَسن، والمَودة في قلوب المؤمنين، والرُّؤيا الصالحة، وما يراه العبدُ مِنْ لُطف الله به وتَيسيره لأحْسنِ الأعْمال والأخْلاق، وصَرْفه عن مَساوئ الأخْلاق» انتهى. (تفسير السعدي).

تعجّل شيئاً من أجره

     أما ما يُعطاه الإنسان في الدنيا مقابل خير يعمله أو يعلّمه، كغنيمة في غزو أو أجرة على علمٍ يعلمه، أو هدية لقضاء حاجة، فقد تعجّل شيئاً من أجره، ولا يقال أنه من عاجل بشرى المؤمن؛ فإنه يغاير المعنى المتقدم لبُشرى المؤمن، ثم إنّ منه المحمود، كمن قضى لمسلم حاجة فقضى الله حاجته، وكمن كوفئ على خير علّمه، دون أن ينتظر من أحد شيئا، ومنه المذموم، كهدايا العمال؛ فإنها غلول، وكالأعطيات التي تُعطى بغير حقّ. فقد روى مسلم (1906): عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ غَازِيَةٍ أَوْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو؛ فَتَغْنَمُ وَتَسْلَمُ؛ إِلَّا كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أُجُورِهِمْ؛ ومَا مِنْ غَازِيَةٍ أَوْ سَرِيَّةٍ تُخْفِقُ وَتُصَابُ إِلَّا تَمَّ أُجُورُهُمْ».

     قال النووي -رحمه الله-: «الْغَنِيمَة فِي مُقَابَلَة جُزْء مِنْ أَجْر غَزْوهمْ، فإِذا حَصَلَتْ لهم فقدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرهمْ الْمُتَرَتَّب عَلَى الْغَزْو، وَتَكُون هَذِهِ الْغَنِيمَة مِنْ جُمْلَة الْأَجْر، وهَذَا مُوَافِق لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة عَنْ الصَّحَابَة كَقَوْلِهِ: «مِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأْكُل مِنْ أَجْره شَيْئًا وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَته فَهُوَ يَهْدُبُهَا «أَيْ: يَجْتَنِيهَا» انتهى.

أَقَلُّ أجْرًا في الآخرةِ

     ففي هذا الحديثِ يُخبِرُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ المُجاهدَ الَّذي يَغنَمُ مِن الجِهادِ أَقَلُّ أجْرًا في الآخرةِ مِنَ المجاهدِ الَّذي لا يَغنَمُ، وإنْ كان كِلاهما مأجورًا مُثابًا، وتوضيحُ ذلك: أنَّ الغُزاةَ إذا سَلِموا أو غَنِموا يكونُ أجرُهم أقلَّ مِن أجرِ مَن لم يَسْلَم؛ أو سَلِم ولم يَغْنَمْ، وأنَّ الغنيمةَ في مقابلةِ جُزءٍ مِن أجْرِ غَزوِهم؛ فإذا حصَلَتْ لهم فقَدْ تَعجَّلوا ثُلُثَيْ أجْرهم المترتِّب على الغزو، وتكونُ هذه الغنيمةُ مِن جُملة الأجْرِ بما فُتِحَ عليه مِن الدُّنيا وتَمتَّع بِه، وذهَب عنه فقره، بخِلافِ مَن لم يُصِبْ منها شيئًا، وبَقِي على شَظفِ عيشِه، وصَّبرِ على حالتِه؛ فهذا يُوفَّى أجْرَه كُلَّه.

     وأما من لم ينتظر شيئاً؛ فلا يضره هذا العطاء، ولا ينقص من أجر معروفه الذي عمله لله؛ حيث أخلص في عمله، ولم ينتظر من أحد نوالاً ولا ثناء؛ فقد روى أحمد (17477): عن خالد بن عَدِيٍّ الْجُهَنِيِّ - رضي الله عنه - قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- يقولُ: «مَنْ بَلَغَهُ مَعْرُوفٌ عَنْ أَخِيهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إِشْرَافِ نَفْسٍ؛ فَلْيَقْبَلْهُ وَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَيْهِ». صححه الألباني في (الصحيحة) (1005) وأصله في الصحيحين من حديث عمر - رضي الله عنه -. ففي قوله «مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إِشْرَافِ نَفْسٍ» بيان أنه لم يرد بعمله شيئاً من الدنيا.

إخلاص العَملَ للهِ -تَعالى

     وفي حديثِ الباب: أنَّ مَن أَخلصَ العَملَ للهِ -تَعالى- أَطلَقَ اللهُ الأَلسنَةَ بالثَّناءِ عليهِ، وأنَّه مِن جُملةِ أَولياءِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن المَحمَدة، أو المَحبَّة في قلوب الناس، عاجلُ بُشرى المُؤمنِ، أي: مُعجَّلُ بِشارتِه، وأمَّا مُؤجَّلُها فباقٍ إلى يومِ آخرَتِه، وهوَ في عَملِه ذلكَ ليس مُرائيًا؛ فيُعطيَه اللهُ -تعالى- ثَوابينِ: في الدُّنيا، وهوَ حَمدُ النَّاسِ لَه، وفي الآخرَةِ ما أَعدَّ لَه من الجنة والنعيم المقيم. تم كتاب الجنائز. والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك