رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 15 أبريل، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – باب: فيمن يُثْنى عليه بخيرٍ أو شرٍ من الموتى

 

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيها خَيْرًا؛ فَقَال نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»؛ ومُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا؛ فَقال نَبِيُّ اللَّهِ -[-: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»؛ قَال عُمَرُ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي؛ مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عليها خَيْرٌ؛ فَقُلْتَ: وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ؛ ومُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ؛ فَقُلْتَ: وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ؛ فَقَال رسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا؛ وجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ؛ ومَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا؛ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ؛ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ؛ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ؛ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ»، الحديث أخرجه مسلم في الجنائز ( 2/255) وبوب عليه النووي كتبويب المنذري.

فأثني عليها خيراً

     قوله: «مرّ بجنازة فأثني عليها خيراً» الثناء في أصل اللغة: مأخوذ من الفعل «أثْنى»، وأثنى عليه؛ أي: أشاد به ومدح؛ وأظهر الخصال الطيبة والحميدة فيه، وقوله «فأثني عليها خيراً... فأثني عليها شرا» قال النووي: هكذا هو في بعض الأصول «خيراً وشراً» بالنصب؛ وهو منصوب بإسقاط الجار؛ أي: فأثني بخيرٍ وبشر، وفي بعضها مرفوع.

وجبت، وجبت، وجبت

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وجبت، وجبت، وجبت»؛ هكذا وقع هذا الحديث في الأصول: «وجبت، وجبت، وجبت» ثلاث مرات في المواضع الأربعة؛ وهو تأكيد للأمر، وفيه: استحباب توكيد الكلام المهم بتكراره؛ ليُحفظ، وليكون أبلغ عند السامع.

فأثني عليها شراً

     قوله: «ومرّ بجنازة فأثني عليها شراً» قال أهل اللغة «الثناء» يستعمل في الخير غالباً؛ ولا يستعمل في الشر، هذا هو المشهور، وفيه لغة أنه يستعمل في الشر أيضا، وأما النثا بتقديم النون وبالقصر؛ فيستعمل في الشر خاصة، وإنما استعمل الثناء الممدود هنا في الشر مجازاً؛ لتجانس الكلام كقوله -تعالى-: {وجَزاءُ سيئةٍ سيئةٌ} وقوله:
{ومكروا ومكر الله}. قوله: «فقال عمر - رضي الله عنه -: فدىً لك أبي وأمي»؛ قوله «فدىً لك» مقصور بفتح الفاء وكسرها؛ من الفداء؛ أي: أفديك بأبي وأمي.

قوله: «مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا؛ وجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» أي: ثَبَتَتْ له الجنَّةُ بشهادتكم. قوله: «ثُمَّ مرَّتْ جنازةٌ أُخرى، فَأَثْنَوا عليها شرًّا» يعني: وَصَفوها بما فيه من ذمٍّ وانِتقاصٍ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «وَجَبَتْ» يعني: وَجَبَ له العذابُ بما شَهِدْتم عليه.

أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ

     قوله: «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» أي: يُقبلُ قولُكم في حقِّ مَن تَشهدونَ له؛ أو عليه، وأما معناه ففيه قولان للعلماء: أحدهما: أن هذا الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل؛ فكان ثناؤهم مطابقا لأفعاله؛ فيكون من أهل الجنة، فإن لم يكن كذلك؛ فليس هو مراداً بالحديث.

     والثاني: وهو الصحيح المختار؛ أنه على عمومه وإطلاقه؛ وأنّ كل مسلم مات؛ فألهم الله -تعالى- الناس أو معظمهم الثناء عليه؛ كان ذلك دليلا على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا، وإنْ لم تكن أفعاله تقتضيه فلا تحتم عليه العقوبة، بل هو  في خطر المشيئة، فإذا ألْهم الله عزّ وجل الناس الثناء عليه استدللنا بذلك على أنه -سبحانه وتعالى- قد شاء المغفرة له، وبهذا تظهر فائدة الثناء.

      وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وأنتم شهداء الله» ولو كان لا ينفعه ذلك إلا أنْ تكون أعماله تقتضيه؛ لم يكن للثناء فائدة، وقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّ له فائدة. فإنْ قيل: كيف مُكّنوا بالثناء بالشر؛ مع الحديث الصحيح في البخاري وغيره؛ في النهي عن سب الأموات؟

     فالجواب: أنّ النهي عن سبّ الأموات؛ هو في غير المنافق وسائر الكفار، وفي غير المتظاهر بفسق أو بدعة، فأما هؤلاء فلا يَحرم ذكرهم بشر للتحذير من طريقتهم، ومن الاقتداء بآثارهم والتخلق بأخلاقهم، وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شرا كان مشهورا بنفاق أو نحوه مما ذكرناه؛ هذا هو الصواب في الجواب عنه، وفي الجمع بينه وبين النهي عن السب، وقد بسطت معناه بدلائله في كتاب الأذكار. (النووي).

اصطفاء الله للأمة

     وفي الحديث: أن اللهُ -تعالى- اصطَفى هذه الأمَّةَ بِأنْ أرسلَ إليها خاتَمَ الْمُرسَلِين، وسيِّدَ النَّبيِّينَ - صلى الله عليه وسلم-، وجعلَهم شُهداءَ له في الأرضِ؛ ويومَ القيامةِ يَشهدونَ لِأنبياءِ اللهِ؛ إذا ادَّعتْ أُممُهم إنَّهم لم يقوموا بِتبليغِ رِسالاتِ ربِّهم؛ كما في قوله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً} البقرة: 143.

     وفي هذا الحديثِ: أنَّه لَمَّا مرَّتْ جِنازةٌ فَأُثْنى عليها الصحابةُ -رضوانُ الله عليهم- خيرًا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَجَبَتْ» فقال عُمرُ بنُ الخطَّابِ - رضي الله عنه -: ما وَجبَتْ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «هذا أثْنَيْتم عليه خيرًا، فَوجَبتْ له الجنَّةُ، وهذا أَثنَيْتم عليه شرًّا، فَوجَبَتْ له النَّارُ».

من علامات حُسن الخاتمة

     فثناء الناس على العبد بِخَير من علامات حُسن الخاتمة؛ والمبشِّرات العاجلة، وفي مُحكم التنْزيل سأل نبي الله إبراهيمُ الخليل عليه الصلاة والسلام ربّه أن يَبقى ذِكْرُه متردِّدًا بالخير عبْر كلِّ جيل؛ فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} الشعراء: 84، فأجاب الله سؤْله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} الصافات: 108، قال جمهور المفسرين: وتركنا ثناء حسنًا عليه في كل جيل؛ بل عمَّ فضل الله على خليله، فكان له الذِّكر الطيِّب، والثناء حسنً؛ له ولذرِّيته معه؛ إسحق ويعقوب، قال -سبحانه-: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} مريم: 50.

وحُسْن الثناء على الإنسان؛ هو من جملة الآثار الحسَنة؛ التي تبْقى للمرء بعد مماته؛ كما قيل:

فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا

                                                فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِ

فالمسلمون شهداء الله في أرضه، وقد جعل الله لكلِّ شيء سببًا، فمن اتبع مرضاةَ ربِّه؛ وعمل عملاً صالِحًا في حياته، فهنيئًا له الذِّكر الجميل بعد موته؛ فسيشهد عباد الله بالخير؛ لِمن كان في دنياه من أهل الخير.

فمن كان في دنياه من أهل الصلاح؛ ومن عُمَّار المساجد، أو نشأ في طاعة الله، وتربَّى في بيوت الله، مع كتاب الله؛ حفظًاً وتلاوة وتدبُّرًا؛ فالشَّهادة بالخير ستُزَفُّ له.

     ومَن خالَق الناس بخُلق حسن، وكان عفيفَ اللِّسان، سمْحَ النفس، حسن المعاملة، باذلاً للخير، سبَّاقًا إلى المعروف؛ فالشَّهادة بالخير ستُزَفُّ له، ومن كان يصل الأرحام، ويطيب الكلام، ويطعم الطَّعام، وصلَّى بالليل والناس نيام؛ فالشَّهادة بالخير ستُزَفُّ له. ومَن عمل في دنياه بأوامر الله، على نورٍ من الله، يرجو ثواب الله، ومن اتَّقى محارم الله، على نورٍ من الله، يخشون عقاب الله، فإن كنت يا عبد الله من هذه الأصناف، فاستمسك بما أنت عليه، وأبشرْ بثناءٍ عليك، والناس شهداء الله في أرضه.

من علامات الشقاء والنكد

     ومن علامات الشَّقاء والنكد والبلاء، أنْ تُلاحق العبدَ شهادات شهداءِ الله في أرضه في حياته؛ وبعد مَماته، فصفات الشرُّ والشؤم كانا لا يفترقان عن اسمه ورسمه؛ يوم أنْ كان حياً، فمن يُثنَى عليهم الناس شرًّا - نعوذ بالله منهم - هم الذين غلبَتْ عليهم شقوتُهم، وأحاطت بهم خطيئتهم، وهم أصنافٌ شتَّى، تفرَّقت أفعالهم وأقوالهم القبيحة، ولكن جمعَتهم خصال الشر؛ ومخالفة الله ورسله؛ من الكفر والشرك والآثام؛ وهي سبب كل بلاء ومصيبة في الدنيا والآخرة.

     فالشهادة بالسُّوء، ستكون لكلِّ صاحب سوء وفسق، يأمر بالمنكر؛ ويَنهى عن المعروف، ويدعو للفساد في الأرض؛ بنشر الشهوات المحرّمة، والأفكار الهدامة؛ والتعدِّيَ على أحكام الشريعة؛ والنَّيلَ من ثوابت الأمَّة؛ وعلى مَحارم الله؛ يريد أن يميل بالمؤمنين والمؤمنات ميلاً عظيمًا.

والثناء بالشر ينتظر كلَّ طاغية ومستكبر هالك، ظلَم العباد، وأفسد البلاد، وأهلك الحرث والنسل؛ قتلاً للآمِنين، وترويعًا للمؤمنين؛ وانتهاكا لحدود الله.

ويُؤخذ من هذا الحديث: جواز غيبة الفاسق المعلن بفسقه؛ فمَن أظهر الشرَّ فلا غيبة له؛ فيما أظهر فقط.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك