رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 8 أبريل، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – باب: فيمن قتل نفسه

 

عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَال: «أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ؛ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ». الحديث أخرجه مسلم في الجنائز (2/672) وبوب عليه النووي: باب ترك الصلاة على القاتل نفسه .

     قوله: «أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمَشاقص» المشاقص: جمع مشقص بكسر الميم وفتح القاف، وهو سِهم عِريض، وقوله: «فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ»، وفي رواية النسائي: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أما أنا فلا أصلي عليه»، قال النووي في شرح مسلم: فيه دليل لمن يقول: لا يصلى على قاتل نفسه لعصيانه، وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز والأوزاعي، وقال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء: يصلى عليه، وأجابوا عن هذا الحديث: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه بنفسه، زجراً للناس عن مِثْل فعله، وصلت عليه الصحابة، وهذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في أول الأمر على من عليه دَيْن زجراً لهم عن التساهل في الاسْتدانة، وعن إهمال وفائه، وأمر أصحابه بالصلاة عليه؛ فقال صلى الله عليه وسلم : «صُلوا على صاحبكم».

مذهب العلماء كافة

     وقال القاضي: مذهب العلماء كافة: الصلاة على كل مسلم، ومحدود ومرجوم، وقاتل نفسه، وولد الزنا، وعن مالك وغيره : أن الإمام يجتنب الصلاة على مقتول في حدّ ، وأن أهل الفضل لا يُصلون على الفساق زجرا لهم، وعن الزهري: لا يصلى على مرجوم، ويصلى على المقتول في القصاص، وقال أبو حنيفة: لا يصلى على محارب، ولا على قتيل الفئة الباغية، وقال قتادة : لا يصلى على ولد الزنا.

الصلاة على النفساء والطفل

     وعن الحسن: لا يصلى على النفساء تموت من زنا ولا على ولدها، ومنع بعض السلف الصلاة على الطفل الصغير، واختلفوا في الصلاة على السقط؛ فقال بها فقهاء المحدثين وبعض السلف: إذا مضى عليه أربعة أشهر، ومنعها جمهور الفقهاء حتى يستهل،وتعرف حياته بغير ذلك . وأما الشهيد المقتول في حرب الكفار؛ فقال مالك والشافعي والجمهور: لا يغسل ولا يصلى عليه، وقال أبو حنيفة: يغسل ولا يصلى عليه، وعن الحسن: يغسل ويصلى عليه.انتهى كلام النووي.

وقال أبو عيسى: واختلف أهل العلم في هذا؛ فقال بعضهم: يصلى على كل من صلى إلى القبلة وعلى قاتل النفس، وهو قول الثوري وإسحق، وقال أحمد: لا يصلي الإمام على قاتل النفس، ويصلي عليه غير الإمام .

     وقال الشوكاني في النيل: وذهب مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وجمهور العلماء، إلى أنه يصلى على الفاسق، وأجابوا عن حديث جابر بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يصل عليه بنفسه زجرا للناس، وصلت عليه الصحابة، ويؤيد ذلك ما عند النسائي: أما أنا فلا أصلي عليه. انتهى.

تحريم الانتحار

     وفي الحديث: دليل على تحريم الانتحار، وأنّ قتل النفس كبيرة من الكبائر العظيمة؛ ومما توجب لصاحبها ترك الصلاة عليه من الإمام المشهور بالعلم والصلاح، وقد جاء التغليَظِ في قَتْلِ الْإِنْسانِ نفسَهُ، وتَحْرِيمِ ذلك، وأَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ، عُذِّبَ بِهِ فِي النَّارِ؛ فعن أَبِي هُرَيرة رضي الله عنه قَال: قَال رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ؛ فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ، يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، خَالِدا فِيهَا أَبَدا، ومَنْ شَرِبَ سَمّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ فهو يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ،خَالِدا مُخَلَّدا فِيها أَبَدا، ومَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدا مُخَلَّدا فِيها أَبَدا». أخرجه البخاري في كتاب: (الطب) باب: شرب السم والدواء به وبما يخاف منه والخبيث حديث (5778)، وأخرجه مسلم (109)، يتوجأ أي يطعن .

الجزاء من جنس العمل

     وفي الحديث: دليل على أن الجزاء من جنس العمل؛ لأن من يقتل نفسه بحديدة فسيُعذِّب نفسه بحديدة يوم القيامة ، ومن قتل نفسه بسم تحسّاه فسيعذِّب نفسه بذلك يوم القيامة، وكذلك من قتل نفسه بالتردي من شاهق فكذلك سيكون عذابه يوم القيامة، وكل من قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذِّب به يوم القيامة، وليس الوعيد مخصوصا بما ذُكر في الحديث من أنواع قتل النفس .

خطر الانتحار

     ومما يبين خطر الانتحار، وذهابه بالأعمال الصالحة: ما جاء عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيّ رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا؛ فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم  إِلى عَسْكَرِهِ، ومَالَ الْآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِم، وفي أَصْحَابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُها بِسَيْفِهِ؛ فَقالوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ»؛ فقال رَجُلٌ مِنَ الْقوم: أَنَا صَاحِبُهُ أَبَدًا، قَال: فَخَرَجَ مَعَهُ، كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ معهُ، قَال: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوضعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ على سَيْفِه؛ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ[، فَقَال: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، قَال: «وَمَا ذَاكَ؟» قال: الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا: «أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ»؛ فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ ، فَقُلْتُ : أَنَا لَكُمْ بِهِ؛ فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا؛ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عليه فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِك: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ؛ فِيما يَبْدُو لِلنَّاسِ، وهو مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ».  رواه البخاري (4207) ومسلم (112).

الله -عز وجل- كريم

     ونقول ها هنا : الله -عزّ وجل- أكرم من أنْ يردّ على عبده عمله الصالح، لكن لأن عمله الذي عمله ليس عملاً صالحاً، أو ليس خالصا؛ فإنه يُرد عليه ؛ ولهذا جاء في هذا الحديث: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فيما يبدو للناس وهو من أهل النار»؛ لأنه أشكل على بعض الناس ذلك؛ ولهذا قال: «فيما يبدو للناس»، نقول هذا لئلاّ يُظن بالله -تعالى- ظن السوء؛ فوالله ما من أحد يقبل على الله بصدق وإخلاص، ويعمل بعمل أهل الجنة إلا أثابه الله -تعالى-ولم يخذله الله أبداً؛ فاللهم يامقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك