رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 9 أبريل، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – باب: فضْلُ الصّلاة على الجَنازة واتباعها

  عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَال: قَال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْها؛ فَلَهُ قِيرَاطٌ؛ وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ؛ فَلَهُ قِيرَاطَانِ»؛ قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَال: «مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ»، الحديث أخرجه مسلم في الجنائز (2/652) وبوب عليه النووي كتبويب المنذري، ورواه البخاري (1323، 1324).

     قوله: «مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْها؛ فَلَهُ قِيرَاطٌ» المقصود بـ(شُهُود الجنازة) هو حضورها حتى يُصلّى عليها، وقوله: «فَلَهُ قِيرَاطٌ» القيراط اسم لمِقدار مِن الثواب، والقيراط جاء مُفسَّرًا في هذا الحديث، وهو مثل الجبل العظيم؛ ولا يصح تفسيره بِخِلاف مَا فَسَّره به رَاويه، بل بِما فَسَّره به النبي - صلى الله عليه وسلم .

تفسير القيراط

     وتفسير القيراط بِجبَل أُحُد. جاء في بعض الروايات من كلام أبي هريرة - رضي الله عنه -؛ وهذا يُعرَف عند المحدِّثين بـ (الْمُدْرَج)، كما في رواية للبخاري من طريق أبي حازم قال: قلت: يا أبا هريرة وما القيراط؟ قال: مثل أُحُد، إلاَّ أن جَمْع الرِّوايات في الباب يُبيِّن ويُوضِّح؛ أنه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما في حديث الباب، وكما في رواية لمسْلِم: من حديث ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى على جنازة فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان. القيراط مثل أُحُد»، وفي رواية له: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القيراط، فقال: «مِثْل أُحُد».

وكذلك في حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن صَلَّى على جنازة فله قيراط، ومن شهدها حتى تُدْفَن فله قِيراطان، والذي نفس محمد بيده القيراط أعْظم من أُحُدٍ هذا». رواه ابن ماجة.

     والقيراط المذكور في الحديث؛ هو غير ما يذكره أهل اللغة؛ كقول الجوهري: القيراط أصله قرَّاط بالتشديد؛ لأن جمعه قراريط، فأبدل مِن أحَدِ حرفَي تضعيفه ياءً، قال: والقيراط نصف دانق، والدانق: سدس الدرهم، فعلى هذا يكون القيراط، جزءًا مِن اثني عشر جزءًا من الدرهم؛ وهو المذكور فيما جاء عنه عليه الصلاة والسلام: أنه كان يَرْعَى الغنم لأهل مكة؛ على قراريط.

تقريبًا للفهم

     وإنما ذَكَر القيراط هنا تقريبًا للفهم، لمَّا كان الإنسان يعرف القيراط، ويعمل العمل في مقابلته، فوعده من جنس ما يعرف، وضرب له المثل بما يعلم، وفي الحديث: كرمُ الله -تعالى- ورحمته بعباده ولطفه بهم؛ والحثّ على فعل الخيرات؛ فإنّ صلاة الجنازة عَمَلٌ يسير؛ ويترتّب عليه أجرٌ عظيم، قيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَن تَبِع جِنَازة فله قِيراط من الأجر». فقال ابن عمر: أكَثْرَ عَلينا أبو هريرة، فبعث إلى عائشة فسألها فَصَدَّقَتْ أبا هريرة، فقال ابن عمر: لقد فَرَّطْنَا في قَرَارِيط كثيرة. رواه البخاري ومسلم.

وقال سالم بن عبدالله بن عمر: وكان ابن عمر رضي الله عنهما يُصلي عليها ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لقد ضيَّعنا قراريط كثيرة.

فوائد مهمة

في الحديث: رغبة الصحابة في الطاعات، وحرصهم عليها، وتأسفهم على ما يفوتهم منها.

وفيه: تحرِّي الصحابة وتثبُّتهم في نقلهم عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - الحديث.

وفيه: تصديق عائشة رضي الله عنها لأبي هريرة - رضي الله عنه -، مما يؤكِّد صِدقَه، وقوة حفظه.

وفيه: أن هناك من الصحابة من سمع أكثر من الآخرين؛ وأنّ أبا هريرة - رضي الله عنه - هو حافظة الإسلام.

وأن ابن عمر -رضي الله عنهما- لم يكن يواظب على حضور الدفن؛ حتى سمع هذا الحديث.

وفيه: سرعة استجابة الصحابة رضي الله عنهم، وانصياعهم للحق، ووقوفهم عند قول الله -تعالى-، وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم.

الصلاة على جنائز عدة

مسألة: من صلّى على جنائز عِدّة دفعة واحدة؛ هل يحتسِب أجر صلاة الجنازة بِعدد الجنائز؟

والجواب: نعم، ويُرْجَى له ذلك، لِعُمُوم لفظ: «مَن صَلَّى على جنازة؛ فله قيراط»، والمسلم يجب أنْ يَكون همّـه قَبول العَمَل، فهي التي قد أهَّمَتِ السَّلَف.

قوله: «وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ؛ فَلَهُ قِيرَاطَانِ» أي: وَمن تَبِعها حتى تُدْفَن ضُوعِف له الأجر، فإن عَزّى أهل الميت نال زيادة أجر على ذلك. مَن صَلّى على جِنازة فله أجْر عَظيم، قال ابن عبد البر: أجمعوا أن شهود الجنائز خير وفَضل وعَمَل بِرّ.

أدب اتباع الجنازة

     وأدب اتِّبَاع الجنازة: أنّ الرَّاكِب يَكُون خَلْفها، والماشي يكون أمامها وخَلفها وجِوارها، واعلم أن الثواب المذكور في الحديث؛ إنما يَحصُل لمن تبعها إيمانًا واحتسابًا؛ فإنَّ حُضورها من الناس على أقسام: من يحضرها إيماناً واحتسابًا؛ وهو الذي يُجازى عليه الأجر العظيم، ويُحط به عنه الوِزْر.

والثاني: مَن يَحضرها مُكافأةً لأهل الميت؛ أو خوفاً منهم ونحوه؟ ولا يعدُّ ذلك في حقه أجراً.

     وفي الحديث: الحث على الاجتماع للصلاة على الجنائز وحضور الدفن، والتنبيه على عِظَم ثوابهما، وهو مما اختصَّت به هذه الأمَّة المباركة؛ من كثرة الأجور على الأعمال القليلة، قال ابن عبد البر: «شهود الجنائز أجرٌ وتقوى وبِر، والإذْن بها تعاون على البر والتقوى؛ وإدخال الأجر على الشاهد؛ وعلى المتوفى». (التمهيد) (6/258).

باب: من صلّى عليه مائة شُفّعوا فيه

عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «مَا مِنْ مَيِّتٍ تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ يَبْلُغُونَ مِائَةً؛ كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ؛ إِلَّا شُفِّعُوا فِيه».

باب: من صلّى عليه أربعون شُفعوا فيه

      عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ بِقُدَيْدٍ أَوْ بِعُسْفَانَ؛ فَقَالَ يَا كُرَيْبُ انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنْ النَّاسِ قَالَ فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدْ اجْتَمَعُوا لَهُ فَأَخْبَرْتُهُ؛ فَقَال تَقُولُ هُمْ أَرْبَعُونَ؛ قَال: نَعَمْ قَالَ أَخْرِجُوهُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ؛ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا؛ لَا يشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا؛ إِلَّا شَفَّعَهُمْ اللَّهُ فِيهِ».

الشرح

الحديث الأول: أخرجه مسلم في الجنائز (2/655) وبوب عليه النووي كتبويب المنذري، والحديث الثاني: أخرجه مسلم في الجنائز (2/654) وبوب عليه النووي كتبويب المنذري أيضاً.

     قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من ميتٍ يصلي عليه أمة من المسلمين» الأمة هم الجماعة من الناس، وقد اختلف العدد في حديث عائشة عن حدبث ابن عباس -رضي الله عنهم-، فحديث عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «.. يبلغون مائة»، وحديث عبد الله بن عباس: «فيقوم على جنازته أربعون رجلا، لا يشركون بالله شيئا». وفي حديث آخر: «ثلاثة صفوف». رواه أصحاب السنن.

الاختلاف في العدد

     وأما سبب الاختلاف في العدد: فقد قيل: إنّ سبب هذا الاختلاف: اختلاف السؤال، وذلك أنه سئل مرَّة عمَّن صلّى عليه مائةٌ واستشفعوا له، فقال: شفعوا. وسئل مرَّة أخرى: عمَّن صلّى عليه أربعون فأجاب بذلك، ولو سئل عن أقلَّ من ذلك لقال ذلك - والله أعلم - إذ قد يستجاب دعاء الواحد؛ ويقبل استشفاعه»، انظر: (شرح البخاري) لابن بطال (3/302)، و(المفهم) للقرطبي (2/605).

     وقال القاضي: قيل هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا عن ذلك، فأجاب كل واحد منهم عن سؤاله. انتهى، ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بقبول شفاعة مائة؛ فأخبر به، ثم بقبول شفاعة أربعين، ثم ثلاثة صفوف وإن قلّ عددهم، فأخبر به، ويحتمل أيضا أن يقال: هذا مفهوم عدد، ولا يحتج به جماهير الأصوليين؛ فلا يلزم من الإخبار عن قبول شفاعة مائة؛ منع قبول ما دون ذلك، وكذا في الأربعين مع ثلاثة صفوف، وحينئذ كل الأحاديث معمول بها؛ ويحصل الشفاعة بأقل الأمرين؛ من ثلاثة صفوف وأربعين.

قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ»

     قوله: «كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ؛ إِلَّا شُفِّعُوا فِيه» الشفاعة المذكورة هنا: معناها: دعاء المصلين للميت بالرحمة والمغفرة، فهذا معنى شفاعتهم، ومعنى: «إِلَّا شُفِّعُوا فِيه» أي: قَبِل دعائهم له بالرحمة، والمغفرة والعفو؛ وأن الميت يُرحم بصلاة الحي عليه، وأنّ الدعاء للميت من هذا العدد؛ من أسباب مغفرة الله له، قال الحافظ البُلْقيني: «لأنَّ الشفاعة كلما كثُر المشفعون فيها؛ كان أوْكد لها، ولا تخلو جماعة من المسلمين لهم هذا المقدار؛ أنْ يكون فيها فاضلٌ لا ترد شفاعته، أو يكون اجتماع هذا العدد بالضراعة إلى الله مشفعًا عنده». التوضيح شرح الجامع الصحيح (9/610)، وقال المباركفوري -رحمه الله-: «وفي هذه الأحاديث: استحباب تكثير جماعة الجنازة، ويطلب بلوغهم إلى هذا العدد، الذي يكون من موجبات الفوز، وقد قيد ذلك بأمرين:

- الأول أن يكونوا شافعين فيه، أي: مخلصين له الدعاء، سائلين له المغفرة.

- الثاني: أن يكونوا مسلمين، ليس فيهم من يشرك بالله شيئا، كما في حديث بن عباس» انتهى.

     قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «معلوم أنّ المصلين على الجنازة يشفعون إلى الله عزوجل لهذا الميت؛ فهم يسألون من الله له المغفرة والرحمة، والدعاء للميت في الجنازة من أوجب ما يكون في الصلاة، بل هو ركن من أركان الصلاة؛ لا تصح صلاة الجنازة إلا به، إلا المسبوق، وحديث ابن عباس يدل على أنه من قام على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا؛ إلا شفعهم الله فيه، أي: قبل شفاعتهم فيه، وهذه بُشرى للمؤمن؛ إذا كثر المصلون على جنازته؛ فشفعوا له عند الله؛ أن الله -تعالى- يُشفّعهم فيه». شرح رياض الصالحين(4/537).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك