رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 3 يناير، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – باب : القيام للجنازة

 

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قال: مَرَّتْ جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  وَقُمْنَا مَعَهُ؛ فَقُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ  إِنَّهَا يَهُودِيَّةٌ، فَقَال: «إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ؛ فَإِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا»، هذا الحديث رواه مسلم في الجنائز (2/660)، وبوّب عليه النووي كتبويب المنذري، ورواه البخاري في صحيحه في الجنائز (1311): باب من قام لجنازة يهودي .

     قوله: «إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ» خوفٌ وهول، قال البزار: وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها ويضطرب، ولا يظهر منه عدم المبالاة، وقوله: «فإذا رأيتم الجنازة فقوموا». أي: تعظيماً لهول الموت وفزعه، لا تعظيماً للميت؛ فلا يختص القيام بميت دون ميت.

 تعليل القيام لجنازة اليهودي

     وقد اختلفت الأحاديث في تعليل القيام لجنازة اليهودي أو غيره؛ ففي هذا الحديث التعليل بقوله: «إن الموت فزع»، وفي حديث سهل بن حنيف وقيس الآتي التعليل بكونها (نفساً)؛ فروى مسلم: عن ابن أبي ليلى: أنّ قيس بن سعد  وسهل بن حنيف: كانا بالقادسية؛ فمرّت بهما جنازة فقاما؛ فقيل لهما: إِنَّها مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فقالَا: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ؛ فقيل: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، فقال: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا». ورواه البخاري (1312).

     قوله: «من أهل الأرض، أي من أهل الذمة، وقيل لأهل الذمة: أهل الأرض؛ لأن المسلمين لما فتحوا البلاد، أقروهم على عمل في الأرض، وحمل الخراج، وفي حديث أنس مرفوعا  عند النسائي والطبراني والحاكم: «إنّما قمْنا للملائكة»، ولأحمد (6573): عن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو: أَنَّهُ سَأَلَ رَجُلٌ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ، تَمُرُّ بِنَا جَنَازَةُ الكَافِرِ، أَفَنَقُومُ لها؟ َقَال: «نَعَمْ قُومُوا لها؛ فإِنَّكُم لَسْتُمْ تَقُومُونَ لها، إِنَّمَا تَقُومُونَ إِعْظَامًا لِلَّذِي يَقْبِضُ النُّفُوسَ». وصححه وابن حبان والحاكم، وهو كذلك .

     وهذا أيضا لا ينافي التعليل السابق؛ لأنّ القيام للفزع من الموت، فيه تعظيم لأمر الله، وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك، وهم الملائكة، ولا معارضة بين هذه التعليلات؛ قال الحافظ ابن حجر: لا منافاة فيها؛ لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله، وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك، وهم الملائكة .

حكم قيام مَنْ مرّت به الجنازة

وقد اختلف أهل العلم في حكم قيام مَنْ مرّت به الجنازة وهو جالس، على قولين:

القول بالكراهة

- القول الأول: كراهة القيام للجنازة لمن مرّت به، ولو كان في المقبرة سابقا، وهو المعتمد في مذهب الحنفية والحنابلة، ونقله بعض الشافعية عن جمهور الأصحاب.

     قال ابن الهمام الحنفي -رحمه الله-: «القاعد على الطريق إذا مرت به، أو على القبر إذا جيء به: فلا يقوم لها, وقيل يقوم, واختير الأول؛ لما روي عن علي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس» بهذا اللفظ لأحمد. انتهى. فتح القدير (2/135).

     وقال البهوتي الحنبلي -رحمه الله-: وإنْ جاءت الجنازة وهو جالس، أو مرت به «وهو جالس» كره قيامه لها لحديث ابن سيرين قال: مر بجنازة على الحسن بن علي وابن عباس؛ فقام الحسن ولم يقم ابن عباس؛ فقال الحسن لابن عباس: أما قام لها النبي[؟ قال ابن عباس: قام ثم قعد، رواه النسائي. انتهى. كشاف القناع (2/130).

     وقال الخطيب الشربيني الشافعي -رحمه الله-: يكره القيام للجنازة إذا مرّت به، ولم يرد الذهاب معها كما صرح به في (الروضة)، وجرى عليه ابن المقري، خلافا لما جرى عليه المتولي من الاستحباب. انتهى. مغني المحتاج (2/20)، وعزاه النووي -رحمه الله- في  المجموع(5/241) إلى الإمام الشافعي وجمهور الأصحاب.

القول بالاستحاب

- القول الثاني: يستحب القيام لمَن مَرَّت به الجنازة، وهو القول الآخر عند الشافعية، ومذهب ابن حزم الظاهري، قال الإمام النووي -رحمه الله-: هذا الذي قاله صاحب (التتمة) هو المختار –يعني الاستحباب-؛ فقد صحت الأحاديث بالأمر بالقيام, ولم يثبت في القعود شيء، إلا حديث علي]، وهو ليس صريحا في النسخ, بل ليس فيه نسخ؛ لأنه محتمل القعود لبيان الجواز، والله أعلم. المجموع(5/241)، وقال ابن حزم -رحمه الله-: نستحب القيام للجنازة إذا رآها المرء - وإنْ كانت جنازة كافر - حتى توضع أو تَخْلفه؛ فإنْ لم يقمْ فلا حرج.  المحلى  (3/380).

واستدلوا بما يلي:

1- عن عامِرِ بنِ رَبِيعَةَ قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «إِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ؛ فَقُومُوا لَهَا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ، أَوْ تُوضَعَ». رواه مسلم (958).

2- وعن ابنِ أَبِي ليلى: أَنَّ قَيْسَ بنَ سَعْدٍ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ كانَا بِالْقَادِسِيَّةِ؛ فَمَرَّتْ بِهِما جَنَازَةٌ فَقَامَا، فَقِيل لهما: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فقالَا: إِنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيل: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، فقال: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا». رواه مسلم (960).

وأجابوا عن أدلة القول الأول: بأن قعود النبي صلى الله عليه وسلم ليس صريحا في النسخ ؛ إذْ قد يكون لبيان الجواز، كما سبق نقله في كلام النووي -رحمه الله-، قال ابن حزم -رحمه الله-: «فكان قعوده صلى الله عليه وسلم بعد أمره بالقيام، مبينا أنه أمرُ ندب, وليس يجوز أنْ يكون هذا نسخا; لأنه لا يجوز ترك سُنّة متيقنة إلا بيقينٍ نسخ, والنسخ لا يكون إلا بالنهي, أو بتركٍ معه نهي .

     فإنْ قيل: قد رويتم من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ قال: قمت إلى جنب نافع بن جبير في جنازة, فقال لي: حدثني مسعود بن الحكم، عن علي بن أبي طالب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقيام، ثم أمرنا بالجلوس .

 فهلا قطعتم بالنسخ بهذا الخبر ؟

     قلنا: كنا نفعل ذلك, لولا ما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا يوسف بن سعيد نا حجاج بن محمد هو الأعور عن ابن جريج، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة, وأبي سعيد الخدري قالا جميعا: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد جنازة قط؛ فجلس حتى توضع؛ فهذا عمله -عليه السلام- المداوم , وأبو هريرة وأبو سعيد ما فارقاه -عليه السلام- حتى مات؛ فصحَّ أن أمره بالجلوس إباحة وتخفيف, وأمره بالقيام وقيامه ندب. المحلى (3/380-381).

     وقال البيضاوي: يحتمل قول علي: «ثم قعد». أي : بعد أنْ جاوزته وبعدت عنه، ويحتمل أنْ يريد كان يقوم في وقتٍ، ثم ترك القيام أصلا، وعلى هذا يكون فعله الأخير، قرينة في أن المراد بالأمر الوارد في ذلك الندب، ويحتمل أنْ يكون نسخاً للوجوب المستفاد من ظاهر الأمر، والأول أرجح لأنّ احتمال المجاز - يعني في الأمر - أولى من دعوى النسخ. انتهى.

     والاحتمال الأول يدفعه: ما رواه البيهقي: من حديث علي أنه أشار إلى قوم قاموا: أنْ يجلسوا، ثم حدثهم الحديث، ومن ثم قال بكراهة القيام جماعة، منهم سليم الرازي وغيره من الشافعية، وأما ما أخرجه أحمد: من حديث الحسن بن علي قال: إنما قام رسول الله[ تأذيا بريح اليهودي، زاد الطبراني: من حديث عبد الله بن عياش: «فآذاه ريح بخورها»، وللطبراني والبيهقي من وجه آخر عن الحسن: «كراهية أنْ تعلو رأسه»؛  فهي أحاديث لا تصح سنداً .

 

المسألة الثانية

أما المسألة الثانية في هذا الحديث فهي: حكم بقاء المشيِّعين للجنازة قياما في المقبرة، حتى يوضع الميت في قبره، قد اختلف أهل العلم في هذه المسألة أيضاً على قولين :

القول الأول

استحباب القيام وكراهة الجلوس، وهو المعتمد في مذهب الحنفية والحنابلة، واختاره بعض الشافعية.

واستدلوا بحديث أَبِي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « إِذَا اتَّبَعْتُمْ جنَازَةً؛ فلا تَجْلِسُوا حتَّى تُوضَعَ». رواه مسلم (959).

     قال ابن الهمام الحنفي -رحمه الله-: «وإذا بلغوا إلى قبره يكره أنْ يجلسوا قبل أنْ يوضع عن أعناق الرجال؛ لأنه قد تقع الحاجة إلى التعاون ، والقيام أمكن منه؛ ولأن المعقول من ندب الشرع لحضور دفنه إكرام الميت, وفي جلوسهم قبل وضعه ازدراء به وعدم التفات إليه, هذا في حق الماشي معها». فتح القدير  (2/135).

     وقال البهوتي الحنبلي -رحمه الله-: «ويكره جلوس من تبعها» أي: الجنازة حتى توضع بالأرض للدفن، نص عليه، «إلا لمن بَعُد عنها» أي : عن الجنازة؛ فلا يكره جلوسه قبل وضعها بالأرض؛ لما في انتظاره قائما من المشقة، قال: «وكان الإمام أحمد إذا صلى على جنازة - هو وليها - لم يجلس حتى تدفن نقله المروذي، ونقل حنبل: لا بأس بقيامه على القبر حتى تدفن جبرا وإكراما، ووقف علي على قبر فقيل له: ألا تجلس يا أمير المؤمنين؟ فقال: قليل على أخينا قيامنا على قبره. ذكره أحمد محتجا به . كشاف القناع (2/130).

 القول الثاني

     كراهة القيام، وهو المعتمد في مذهب المالكية ، على خلاف بينهم ، وقول عند الشافعية والحنابلة، قال النووي -رحمه الله-: ثبتت الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالقيام لمن مرَّت به جنازة حتى تخلفه، أو تُوضع، وأمر من تبعها ألا يقعد عند القبر حتى توضع، ثم اختلف العلماء في نسخه؛ فقال الشافعي وجمهور أصحابنا: هذان القيامان منسوخان؛ فلا يُؤمر أحد بالقيام اليوم, سواء مرت به أم تبعها إلى القبر.

ثم قال المصنف وجماعة: هو مخير بين القيام والقعود. المجموع (5/241)، وقال المرداوي -رحمه الله-: قوله: «ولا يجلس من تبعها حتى توضع « يعني : يكره ذلك, وهو المذهب وعليه الأصحاب, وعنه : لا يكره الجلوس لمن كان بعيدا عنها .

 تنبيه

     قوله: «حتى توضع» يعني بالأرض للدفن, وهذا المذهب نقله الجماعة, وعنه حتى توضع للصلاة, وعنه: حتى توضع في اللحد، قوله: «وإنْ جاءت وهو جالس لم يقم لها»، وهو المذهب نص عليه, وعليه أكثر الأصحاب وجزم به في (الوجيز) وغيره، وقدمه في (الفروع), و(المغني), و (الشرح) وغيرهم, وعليه أكثر الأصحاب.

وعنه: يستحب القيام لها, ولو كانت كافرة، نصره ابن أبي موسى واختاره القاضي, وابن عقيل, والشيخ تقي الدين, وصاحب (الفائق) فيه، وعنه: القيام وعدمه سواء، وعنه: يستحب القيام حتى تغيب أو توضع، وقاله ابن موسى . الإنصاف (2/542-543).

     واختار غير واحد من أهل العلم المعاصرين: القول باستحباب القيام للجنازة في المسألتين، في حالة مرورها بالقاعد، وفي حالة وصولها إلى المقبرة للدفن، اعتماداً على الأدلة الصريحة التي جاء فيها القيام للجنازة من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وعدم ثبوت ما يدل على النسخ، وأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم القيام في بعض الأحيان؛ فهو لبيان الجواز .

وقد سئل العلامة ابن باز -رحمه الله-: إذا كان المسلم في المسجد، ورأى الجنازة هل يقوم؟

فأجاب: ظاهر الحديث العموم؛ فهو إذنٌ مستحب, ومَن تركه فلا حرج; لأن القيام لها سُنة وليس بواجب; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قام تارة، وقعد أخرى، فدل ذلك على عدم الوجوب». مجموع فتاوى ابن باز  (13/187-188).

     وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «الراجح أن الإنسان إذا مرّت به الجنازة قام لها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، وفعله أيضاً ، ثم تركه ، والجمع بين فعله وتركه: أنّ تركه ليبين أنّ القيام ليس بواجب». مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (17/112).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك