رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 21 مارس، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – باب: الصلاة على القبر

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، أَوْ شَابًّا؛ فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَسَأَلَ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ؛ فَقَالُوا: مَاتَ، قَال: «أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟ »، قَال: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، أَوْ أَمْرَهُ؛ فَقَال: «دُلُّونِي على قَبْرِهِ»؛ فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْها، ثُمَّ قَال: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً على أَهْلِهَا، وإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ»، الحديث أخرجه مسلم في الجنائز (2/659) وبوب عليه النووي كتبويب المنذري، ورواه البخاري في الصلاة (458) باب: كنْس المسجد والتقاط الخِرق والقَذَى والعيدان.

     قوله: «أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، أَوْ شَابًّا»، وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه : «أن  رجلاً أسود أو امرأة سوداء»، قال الحافظ ابن حجر: قوله: إن رجلا أسود أو امرأة سوداء»، الشك فيه من ثابت؛ لأنه رواه عنه جماعة هكذا، أو من أبي رافع، وسيأتي بعد باب من وجه آخر عن حماد بهذا الإسناد قال: ولا أُراه إلا امرأة. ورواه ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فقال: «امرأة سَوداء» ولم يشك، ورواه البيهقي بإسناد حسن: من حديث ابن بريدة عن أبيه: فسمّاها: أم محجن». انتهى. الفتح (1/553).

     وأم مِحْجَن -رضي الله عنها-، امرأة سوداء، لم يَرد لها في السيرة النبوية تسمية سوى (أم محجن، أو محجنة)، كانت من ضعفة أهل المدينة ومساكينهم الذين ليس لهم أهلٌ ولا نسبٌ يعتزون به، ولا يُفْتَقدون إذا غابوا، وكانت تقوم بتنظيف المسجد النبوي من الأذى، قال ابن الأثير: «مِحْجَنَةُ امرأة سوداء، كانت تَقُمُّ المسجد فتوفِّيَت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الحافظ ابن حجر في كتابه (الإصابة في تمييز الصحابة): مِحْجَنَةُ: وقيل: أم مِحْجَن، امرأة سوداء كانت تقمّ المسجد، وقع ذكرها في الصّحيح بغير تسمية».

     وقد أخرج  النسائي: عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه ، قال: «اشتَكَتِ امرأةٌ بالعَوالي -مِسكينةٌ-؛ فَكانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يسألُهُم عَنها، وقال: «إن ماتَت فلا تدفِنوها حتَّى أصلِّيَ عليها» فتوُفِّيَت؛ فَجاؤوا بِها إلى المدينةِ بعدَ العتَمةِ؛ فوجدوا رسولَ اللَّهِ قد نامَ، فَكَرِهوا أنْ يوقِظوهُ، فصلَّوا علَيها، ودفَنوها ببقيعِ الغَرقد؛ فلمَّا أصبحَ رسولُ اللَّهِ جاؤوا فسألَهُم عَنها؛ فقالوا: قد دُفِنَت يا رسولَ اللَّهِ، وقد جِئناكَ فوجدناكَ نائمًا، فَكَرِهْنا أنْ نوقظَكَ، قال: «فانطلِقوا»؛ فانطلقَ يَمشي ومَشوا معَهُ، حتَّى أروهُ قبرَها؛ فقامَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وصفُّوا وراءَهُ، فصلَّى عليها، وكَبَّرَ أربعًا». وصححه الألباني في صحيح النسائي (1968)، ومعنى يقمُّ: أي ينظف من جمع القمامة

قوله: قَال: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، أَوْ أَمْرَهُ، أي: لم يروا أمرها ذا شأنٍ؛ فلم يهتموا لموتها، وقال القاضي عياض: «وفي حديث السوداء هذا: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من تفقد أحوال ضعفاء المسلمين، وما جُبِلَ عليه من التواضع، والرأفة والرحمة بأمته».

فضل تنظيف المسجد

وقال ابن حجر: «وفي الحديث فضل تنظيف المسجد، والسؤال عن الخادم والصديق إذا غاب، ‏وفيه المكافأة بالدعاء، والترغيب في شهود جنائز أهل الخير، وندب الصلاة على الميت الحاضر عند قبره؛ لمن لم يُصلِّ عليه، والإعلام بالموت».

     أما فضل تنظيف المسجد: فالاعْتناء بالمساجد وتنظيفها، وتطهيرها وما فيها من فرش ونحوه أمر محمود مرغب فيه، وفاعله مثاب عند الله على هذا العمل الصالح؛ فقد أمر الله -تعالى- بتعظيم المساجد ورفعها في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}(النور: 36-37).

قوله: أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ

     فقوله: «أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ» أي: أن تبنى وتُعظّم وتنزه عن اللغو والقاذورات، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي: بتطهيرها من الدَّنَس واللغو، والأفعال والأقوال التي لا تليق فيها، وفي حديث عائشة قالت: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدُّور وأن تنظف وتطيب». رواه أبو داود (455)، والترمذي ( 594)، وابن ماجة (759)، وصححه الألباني، ومعنى الدُّور: أي الأحياء والقبائل. وقيل: البيوت .

البصاق في المسجد

     وقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم البصاق في المسجد خطيئة، وأخبر أنّ كفارتها دفنها؛ ففي الصحيحين: من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «البُزَاق في المسجد خَطيئة، وكفارتها دَفنها». (رواه البخاري 415)، (ومسلم 552)، وروى (النسائي 728)، (وابن ماجة 762): عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى نُخامة في قِبْلة المسجد؛ فغضبَ حتى احمّر وجهه؛ فجاءته امرأة من الأنصار فحكتها وجعلت مكانها خَلُوقاً؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحْسنَ هذا». والحديث صححه الألباني. الخلوق هو الطيب .

     وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أزال ذلك بنفسه كما في الصحيحين من حديث عائشة قالت: «رأى في جدار القبلة مُخاطاً، أو بُصاقاً، أو نخامة؛ فحكها». رواه البخاري (407)، ومسلم (549)، وعن أبي ذر رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم : «عُرِضَتْ عليّ أعمالُ أمَّتي حَسَنُها وسَيِّئُها؛ فوجدتُ في مَحاسِنِ أعمالها: الأذى يُماطُ عن الطريق، ووجدتُ في مساوِئِ أعمالها النُّخَامَةَ تكون في المسجد لا تُدْفَنُ». أخرجه مسلم رقم (553).

قوله: دُلُّونِي على قَبْرِاِ

     قوله: «دُلُّونِي على قَبْرِها؛ فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْها». فيه: مشروعية الصلاة على القبر؛ لمن لم يصلِّ عليه قبل الدفن؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلى على القبر؛ إذ لم يصلّ عليها قبل الدفن، وقد روى ابن أبي شيبة في (المصنف 3/239) وغيره،  مجموعة من الآثار عن الصحابة والتابعين ممن صلوا على القبور بعد الدفن: منهم عائشة -رضي الله عنها- حين صلّت على قبر أخيها عبد الرحمن، وابن عمر حين صلى على قبر أخيه عاصم، وسليمان بن ربيعة وابن سيرين وغيرهم، وكذلك ذكر ابن حزم آثاراً في (المحلى 3/366) عن أنس وعلي وابن مسعود -رضي الله عنهم جميعا .

     ومنع بعض الفقهاء: من الصلاة على القبر مطلقا! وهذا خلاف الدليل الصحيح، قال الإمام أحمد: ومَن يشك في الصلاة على القبر؟ يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه، كلها حسان، وبعضهم قيده بثلاثة أيام، أو بشهر، ولكن الصحيح: ليس هناك دليل على هذا التقييد.

     قال ابن حزم -رحمه الله- (المحلى 3/366): «أما أمر تحديد الصلاة بشهر أو ثلاثة أيام ؛ فخطأ لا يشكل؛ لأنه تحديد بلا دليل». انتهى، وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «والصحيح أنه نصلي على القبر ولو بعد شهر، إلا أنَّ بعض العلماء قيده بقيدٍ حسن، قال: بشرط أنْ يكون هذا المدفون مات في زمن يكون فيه هذا المصلي أهلا للصلاة.

مثال ذلك: رجل مات قبل عشرين سنة؛ فخرج إنسان وصلى عليه وله ثلاثون سنة فيصح؛ لأنه عندما مات كان للمصلي عشر سنوات، فهو من أهل الصلاة على الميت.

مثال آخر

     رجل مات قبل ثلاثين سنة؛ فخرج إنسان وصلى عليه وله عشرون سنة ليصلي عليه، فلا يصح؛ لأن المصلي كان معدوما عندما مات الرجل؛ فليس من أهل الصلاة عليه، قال : ومن ثَمَّ، لا يشرع لنا نحن أنْ نصلي على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وما علمنا أنَّ أحدا من الناس قال: إنه يشرع أنْ يُصلي الإنسان على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، أو على قبور الصحابة، لكن يقف ويدعو». انتهى . (الشرح الممتع 5/436).

حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه

     وفي الحديث: حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ فمن شمائله وصفاته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه الكريمة، وعادته التي عُرِف بها أنَّه كان يتفقدّ أصحابه ويسأل عنهم، ويعرف سبب غِيابهم، ويقدم يد العون لهم إذا كانوا في حاجة أو شدة، وزيارة مَن كان مريضًا منهم، ولا يشتغل بالكبير عن الصغير، ولا بالرجال عن النساء، ولا الأحرار عن العبيد والأرقاء، بل كل ما يهم المسلمين فإنه يسأل عنه صلى الله عليه وسلم ويهتم به، مع عظيم مسؤولياته وكثرة أشِغاله؛ فإن من هديه وسنته صلى الله عليه وسلم السؤال عمَّن غاب، وهذا كثيرٌ في سيرته المشرفة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه : «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم افتَقَد ثابت بن قيس؛ فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك عِلمَه». (رواه البخاري 4846)، وعن عبد الله بن بُرَيْدَةَ عن أبيه -رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتَعهَّد الأنصار ويَعُودُهم ويَسأل عنهم». رواه الحاكم، وحسنه الألباني في أحكام الجنائز ص 207).

عدم احتقار العمل

     وفي هذا الموقف النبوي: بيان ألاَّ يحتَقِر العبد من العمل شيئًا؛ فرُبَّ عملٍ صالح صغَّرَتْه الأعين، كان سببًا لرضا الرحمن، والفوز بالجنان؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم : «لا تحتقرنَّ من المعروف شيئاً». رواه مسلم، لقد كانت أم محجن -رضي الله عنها- امرأة مسكينة، تنظّف المسجد، وتلتقط منه الأذى، ومع ذلك سأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلما أُخْبِرَ بموتها ودفنها، قال لأصحابه الذين قاموا بدفنها: «دلّوني على قبرها»؛ فقام -صلوات الله وسلامه عليه- إلى قبرها، وصلّى عليها مع بعض أصحابه، مع استغفاره ودعائه لها لتحظى في قبرها بالنور الذي يزيل عنها ظلمة القبر ووحشته؛ فصلاته ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لها سكن ورحمة، ونور وضياء؛ فهنيئًا لأم محجن -رضي الله عنها- هذا الجزاء الذي تتطلع إليه القلوب، وتشرئب نحوه الأعناق، كيف لا؟

قوله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ هذه القُبُور

 مملوءَة ظلمَة على أهلها».

- قوله : «إنَّ هذه القُبُور مملوءَة ظلمَة على أهلها، وإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُنوِّرُها بصلاتي عليهم» قال ابن علان في شرح رياض الصالحين: إنّ القبور مملوءة ظلمة؛ لعدم المنافذ التي يدخل منها الضوء إليها؛ فلا ينيرها إلا الأعمال الصالحة، أو الشفاعات المقبولة الراجحة. انتهى .

- ومن أعظم أسباب نيل هذا النور: الحفاظ على الإيمان والأعمال الصالحة في الحياة الدنيا، وأعظمها الصلاة، وكذلك الصبر، كما في الحديث: «والصلاةُ نورٌ، والصدقة برهان، والصبر ضياء». رواه مسلم، ومنها: قراءة القرآن ومدارسته، والعلم الشرعي؛ فالقرآن نور، كما قال -تعالى-: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مبِينًا}(النساء:174).

ومنها: دعاء المصلين الموحدين للميت في صلاة الجنازة وغيرها، كما في الدعاء المأثور: «اللهم نور له في قبره».رواه مسلم؛ فنسأل الله اللطف والعافية، والعون على القيام بالأعمال الموجبة لنيل السعادة في الحياة الدنيوية والبرزخية والأخروية.

من فوائد الحديث

     ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ ولهذا لم يعلم بموتها، بل سأل عنها، وأيضا قال: «دلوني على قبرها»؛ فإذا كان لا يعلم الشيء المحسوس؛ فالغائب من باب أولى، وقد أمره الله -تعالى- أن يبلغ الناس بقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيّ}(الأنعام: 50).

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يعظّم الناس بحسب أعمالهم، وما قاموا به من طاعة الله وعبادته، وخدمة لدين الله -تعالى- وللمسلمين، لا بأنسابهم، ولا بأموالهم، ولا بصورهم.

ومنها: جواز تولي المرأة تنظيف المسجد إذا أُمنت الفتنة، وأنه لا يُحْجَر ذلك على الرجال فقط، بل كل من احتسب ونظف المسجد فله أجره، سواء باشرته المرأة، أو استأجرت من يقم المسجد على حسابها .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك