رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 25 سبتمبر، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – باب: الجلوس عَلَى القبور والصَّلاة عليها

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ؛ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ؛ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ»، وعن أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ - رضي الله عنه - قال: قَال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ؛ وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا»، الحديثان أخرجهما مسلم في الجنائز (2/667) باب: النهي عن الجلوس عَلَى القبر؛ والصَّلاة عليه.

قوله: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ؛ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ؛ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ». فيه: ترهيبٌ من الجلوس على القبر؛ وأنه لا يحلّ القعود عليه؛ ولا الاسْتناد إليه، ولا المشي عليه من باب أولى.

والقول بتحريم الجلوسُ على القَبرِ: هو مَذْهبُ الشَّافعيِّ وبعض الحَنابِلَة، وأهل الحديث؛ والظَّاهريَّة، وهو قولُ الصنعانيِّ، والشَّوكانيِّ، وكذا قول مشايخنا الشيخ ابنِ باز، وابنِ عثيمينَ، والألبانيِّ رحمهم الله وغيرهم.

أحاديث أخر

وقد وردت أحاديث أُخر في الباب منها ما يلي:

     فعن عقبة بن عامرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأَنْ أمْشي على جَمْرَةٍ أو سَيْفٍ، أو أخْصِفَ نَعْلي بِرجْلي؛ أحَبُّ إليَّ مِنْ أنْ أمْشِيَ على قَبْرٍ». رواه ابن ماجة بإسناد جيد، وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ؛ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ؛ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ». رواه مسلم؛ وقد مضى معنا شرحه، وعن عمرِو بنِ حَزمٍ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: رآنِي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأنَا متكئٌ على قبرٍ؛ فقالَ: «لا تُؤْذِ صاحِبَ القبرِ». رواه أحمد وغيره.

كراهة التنزيه

- قال النووي: عبارة الشافعي في الأم، وجمهور الأصحاب في الطرق كلها: أنه يكره الجلوس، وأرادوا به كراهة التنزيه. كما هو المشهور في استعمال الفقهاء، وصرّح به كثير منهم، قال: وبه قال جمهور العلماء؛ منهم: النَّخعي والليث وأحمد وداود، قال: ومثله في الكراهة: الاتكاء عليه والاستناد إليه، وذهب ابن عمر من الصحابة وأبو حنيفة ومالك؛ إلى جواز القعود على القبر، قال في الموطأ (1/233): إنما نهى عن القعود على القبور فيما نرى؛ للمذاهب. انتهى. يقصد لقضاء حاجة الإنسان من البول أو الغائط.

تأويلٌ ضعيف أو باطل

- قال النووي: هذا تأويلٌ ضعيف أو باطل، وأبْطله كذلك ابن حزم من وجوه عدة. وهذا الخلاف في غير الجلوس لقضاء الحاجة، فأما إذا كان الجلوس لها، فقد اتفق الفقهاء على حُرمته، كما اتفقوا على جواز المَشي على القبور، إذا كان هناك ضرورة تدعو إليه، كما إذا لم يصل إلى قبر ميته إلا بذلك. المجموع (5/312).

باب الجَريدة على القبر

- وفي صحيح البخاري: في الجنائز: باب الجَريدة على القبر. وقال عثمان بن حكيم: أخذ بيدي خارجة؛ فأجْلسني على قبر؛ وأخبرني عن عمه يزيد بن ثابت؛ قال: إنما كُرِه ذلك لمَن أحْدث عليه. وقال نافع: كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يجلس على القبور اهـ. ولا شك أنّ قولهم مرجوح؛ للأحاديث الصحيحة.

لحدث غائط أو بول

- وقال الإمام أبو جعفر الطَّحاوي بعد ذكره للحديث: «لأنْ يجلس أحدكم...» ما نصه: «فذهب قومٌ إلى هذه الآثار فقلّدوها؛ وكرهوا من أجلها الجلوس على القبور؛ وخالفهم في ذلك آخرون؛ فقالوا: لم ينه عن ذلك لكراهة الجلوس على القبر؛ ولكنه أُريد به الجلوس للغائط أو البول، وذلك جائزٌ في اللغة؛ يقال: جلس فلانٌ للغائط، وجلس فلان للبول». واحتجوا في ذلك: أنّ زيد بن ثابت قال: هلمّ يا بن أخي؛ أخبرك إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجلوس على القبور؛ لحدث غائطٍ أو بول؛ فبيّن زيد في هذا الحديث؛ الجلوس المَنْهي عنه في الآثار الأول ما هو، وقد روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - نحو من ذلك» اهـ.

     ثم قال الطّحاوي -رحمه الله-: فثبت بذلك أنّ الجلوس المنهيّ عنه في الآثار الأول؛ هو هذا الجلوس، فأما الجلوس لغير ذلك؛ فلم يدخل في ذلك النهي؛ وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله تعالى-. وقد روى ذلك عن عليّ وابن عمر -رضي الله عنهم- اهـ. شرح معاني الآثار (ج1/516 و517) طبع دار الكتب العلمية.

وحمل المالكية ومن وافقهم الأحاديث التي فيها النهي عن الجلوس على القبور، وما في معناها؛ على الجلوس لقضاء الحاجة على القبر! ولهذا قال مالك: وإنما نهي عن القعود على القبور - فيما نرى - للمذاهب. يريد حاجة الإنسان.

     قال ابنُ عبد البر: «وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن زيد بن ثابت قال له: هلم يا بن أخي، إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلوس على القبر لحدثِ بولٍ أو غائط، وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا محمد بن فضيل عن العلاء بن المسيب عن فضيل عن مجاهد قال: لا تخل وسط مقبرة؛ ولا تبل فيها. وعلى هذا معنى الآثار المروية في هذا الباب». لكن الأحاديث صرحت بالمنع من الجلوس عليها؛ كما سبق.

تنبيه مهم

     وإذا كان لا يجوز الجُلوس على القبور، فإنّ المقبرة لا يجوز أن يُتعرض لها بشيء؛ ما دام أنّ رفات الموتى موجوداً فيها، فإنّ حرمة الميت كحرمة الحي. فلا يجوز امتهان المقبرة لا بوطء بالأقدام والمشي عليها؛ ولا بجعلها طُرقاً وسككاً، ولا بإدخالها في مساكن الناس؛ أو جعلها مزارع ونحو ذلك، كل هذا لا يجوز، إلا إذا كانت المقبرة قد صار ساكنوها من الأموات رميماً تراباً؛ ولم يبق لهم أي جثة أو عظم ما، فهنا وبهذه الحالة، لا بأس باستعمال المقبرة كمزارع أو بيوت أو غير ذلك، أما ما دام يوجد فيها شيء من جثث الموتى، فلا يجوز استعمالها لأن المسلم الميت تقدم إلى هذا المكان قبلكم؛ وسبق إليه؛ فهو أحقُّ به؛ وحرمته وهو ميت؛ كحرمته وهو حي.

قوله - صلى الله عليه وسلم - " ولا تُصلُّوا إليها"

- وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» فيه النّهي عن استقبال القبور بالصلاة؛ أي: أنْ تُصلي وفي قبلتك مقبرةٌ أو قبر، وليس بينك وبين المقبرة سورٌ أو حَاجز، وكذلك الصلاة داخل المقبرة وفي أرضها - ما عدا صلاة الجنازة - باطلة ولا تصحّ، سواءً كانت فريضة أم نافلة.

الأدلة على ذلك 

- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأرضُ كلُّها مَسْجدٌ؛ إلا المَقْبرة؛ والحَمّام». رواه الترمذي (317) وابن ماجة (745) وصححه الألباني، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لعنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى؛ اتَّخذوا قُبُور أنْبيائهم مَسَاجد». رواه البخاري (435) ومسلم (529).

السبب في المنع

- قال العلماء: والسبب في المنع من ذلك: هو أنّ الصلاة في المقبرة؛ قد تتخذ ذريعة إلى عبادة القبور وأصحابها، أو إلى التشبّه بمن يَعبد القبور، ولهذا لما كان الكفار يسجدون للشمس عند طلوعها وغروبها، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عند طلوعها وغروبها؛ لئلا يُتخذ ذريعة إلى أن تُعبد الشمس مِن دون الله -عز وجل-، أو إلى أنْ يتشبه بالكفار.

لا تصح صلاته

     والعلة من منع الصلاة في المقبرة؛ موجودة في الصلاة إلى القبر؛ فما دام الإنسان يتجه إلى القبر؛ أو إلى المقبرة اتجاهاً يُقال إنه يُصلي إليها؛ فإنه يدخل في النهي، وإذا كان داخلاً في النهي؛ فلا تصح صلاته؛ لقوله: «لا تصلوا» فالنهي هنا عن الصلاة، يفيد بطلانها وعدم صحتها؛ وإذا صلى إلى القبر؛ فقد اجتمع في فعله هذا طاعةٌ ومعصية، وهذا لا يمكن أنْ يتقرب إلى الله -تعالى- به، أما إذا كان بينك وبين المقابر جدار فاصل؛ فلا بأس من الصلاة حينئذٍ؛ ولا يدخل في النهي، وكذلك إذا كان بينك وبينها شارع؛ أو مسافة لا تصير بها مصلياً إلى المقابر؛ فلا بأس. والله أعلم. انظر المغني (1/403) لابن قدامة؛ والشرح الممتع لابن عثيمين (2/232).

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك