رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 25 يونيو، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – باب: الأمر بتَسْوية القبور

 

عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قال: قال لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه -: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلى ما بَعَثَنِي عَلَيه رسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ «أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ؛ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ».

 

 الشرح:

الحديث أخرجه مسلم في الجنائز ( 2/255) وبوب عليه عليه النووي كتبويب المنذري

أَبِو الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ هو: حيان بن الحصين الكوفي؛ تابعي ثقة.

قوله: «أَلا أَبعثُك عَلى ما بَعثَني عَليهِ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -»، أي: أَلا أُرسِلُك للأَمرِ الَّذي أَرسَلني لَه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأَجعلُك أَميرًا على ذلكَ، كما أمَّرني عليه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.

- قَولِه: «أنْ لا تَدَعَ» أمَرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليًّا - رضي الله عنه -، بقوله: «أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ» التمثال: الشيء المصور؛ والجمع تماثيل أي: صورَةً، والمُرادُ به صورَةٌ ذاتُ رُوحٍ.

«إلَّا طَمستَه»، أي: مَحوْتَه وأَبطلتَه؛ بقَطعِ رَأسِه؛ وتَغييرِ وَجهِه؛ ونَحوِ ذلك.

قال النووي: قوله: «أنْ لا تدع تمثالاً إلا طمسته» فيه الأمر بتغيير صور ذوات الأرواح. انتهى.

وقال في كلام له على التصوير: وأَجْمَعُوا على مَنْع ما كَان له ظِلّ، ووُجُوب تَغْيِيره. شرح مسلم.

والذي له ظل من الصُّور؛ هو الصور المجسّمة وهي التماثيل.

وجوب هدم الأصنام

- وقد دلت الأدلة الشرعية على وجوب هدم الأصنام، ومن ذلك: حديث الباب.

2- ومنها: ما رواه مسلم (832): عن عمرو بن عبسة أنه: قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: وبأي شيء ‏أرْسلك؟ قال: «أرْسلني بصلةِ الأرْحام، وكَسْر الأوثان، وأنْ يوحّد الله لا يُشرك ‏به شيء».‏

3- ومنها: حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا جرير ألا تريحني من ذي الخلصة؟ بيت لخثعم كان يدعى كعبة اليمانية؛ قال: فنفرت في خمسين ومائة فارس؛ وكنت لا أثبت على الخيل؛ فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فضرب يده في صدري فقال: «اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا» قال: فانطلقَ فحرَّقها بالنار؛ ثم بعث جرير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يبشره يكنى أبا أرطاة منا؛ فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: ما جئتك حتى تركناها كأنها جَمَل أجرب؛ فبرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خيل أحمس ورجالها؛ خمس مرات».‏ رواه البخاري (3020) ومسلم (2476).

قال الحافظ ابن حجر: وفي الحدِيث: مشرُوعِيَّة إِزالَة ما يُفْتَتَن بِه النَّاس مِنْ بِنَاء وغيره، سَوَاء كَانَ إِنْسَانًا أَمْ حَيوَانًا أَم جَمَادًا اهـ.

4- ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل سرية من ثلاثين فارساً بقيادة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - في سرية لهدم العزى، وهي من أعظم الأصنام عند قريش وبني كنانة، وذلك بعد فتح مكة المكرمة، لخمس ليالٍ بقين من شهر رمضان سنة ثمانٍ من الهجرة النبوية الشريفة.

     فعن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العُزى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سَمُرات - أي شجرات - فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره؛ فقال: «ارجع فإنك لم تصنع شيئاً». فرجع خالد فلما أبصرت به السدنة - وهم حجبتها- أمعنوا في الجبل، وهم يقولون: يا عُزى، فأتاها خالد فإذا هي امرأة عُريانة؛ ناشِرة شعرها، تحثو التراب على رأسها، فعمّمها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: «تلك العُزْى». رواه النسائي والبيهقي.

5- وأرسل سعد بن زيد الأشهلي - رضي الله عنه - في سرية لهدم «مناة».

6- وأرسل عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في سرية لهدم «سواع». وذلك كله بعد فتح مكة. البداية والنهاية (4/ 712، 776).

شبهة وجوابها

- شبهة وجوابها: وأما ما يقال في ترك الصحابة -رضي ‏الله عنهم- للأصنام في البلاد المفتوحة، الأصنام القديمة للفراعنة والآشوريين والفينيقيين؛ فهذا من الظنون والأوهام، بل من إساءة الظن بهم -رضي الله عنهم-؛ فما كان لأصحاب النبي -[- أنْ يدعوا الأصنام والأوثان، ‏لاسيما مع كونها معبودة في ذلك الزمن!

فإن قيل: فلماذا تركها الصحابة الفاتحون إذاً؟

فالجواب: أن هذه الأصنام لا تخرج عن ثلاثة وجوه:‏

- الأول: أن تكون تلك الأصنام في أماكن نائية؛ لم يصل إليها الصحابة، فإن فتح الصحابة ‏لمصر مثلاً لا يعني وصولهم إلى كل أرض فيها. ‏

- الثاني: أن تكون تلك الأصنام غير ظاهرة، بل داخل منازل الفراعنة وغيرهم، وقد كان ‏هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسراع عند المرور على ديار الظلمة والمعذبين، بل جاء ‏نهيه عن دخول تلك الأماكن. ‏

ففي الصحيحين: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلا أنْ تكونوا باكين، أن يصيبكم مثل ‏ما أصابهم». قال ذلك - صلى الله عليه وسلم - عند مروره على أصحاب الحجر، من ديار ثمود ‏قوم صالح -عليه السلام.‏

وفي رواية في الصحيحين أيضاً: «فإن لم تكونوا باكين؛ فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم ‏مثل ما أصابهم».‏

الثالث: أنّ كثيراً من هذه الأصنام الظاهرة اليوم كان مغموراً مطموراً، أو اكتشف حديثاً، ‏أو جيء به من أماكن نائية لم يصل إليها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم .‏

فقد سئل الكاتب المؤرخ الزركلي: عن الأهرام وأبي الهول ونحوها: هل رآها الصحابة الذين دخلوا مصر؟ فقال: كان أكثرها مغموراً بالرمال، ولاسيما أبا الهول.

- قوله: «ولَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ» مُشرفا: أي مرتفعاً؛ عاليا على الأرض.

أي: ولا تتركْ قبرًا مُرتفعًا، والمُرادُ هو القَبرُ الَّذي بُنِيَ عليه حتَّى يرتفَعَ دونَ الَّذي أُعلِمَ عليهِ بالرَّملِ والحَصا والحَجرِ ليُعرَفَ فَلا يُوطأَ، «إلَّا سَوَّيتَه» أي: بِما حولَه، أي: جَعلتَه مثلَ الَّذي حَولَه، أو معنى سَوَّيتَه، أي: جَعلتَه سويًّا، أي: مُوافقًا للشَّريعةِ.

- قال النووي رحمه الله:» فيه: أَنَّ السُّنَّةَ أَنَّ الْقَبْرَ لَا يُرْفَعُ على الْأَرْضِ رَفْعًا كَثِيرًا، وَلَا يُسَنَّمُ؛ بَلْ يُرْفَعُ نحو شِبْرٍ ويُسَطَّحُ، وهذا مَذهبُ الشَّافعيِّ ومَنْ وافَقَهُ، ونَقل الْقاضي عِيَاضٌ عن أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْأَفْضلَ عندهم تَسْنِيمُهَا، وهو مَذْهَبُ مالِكٍ». شرح النووي على مسلم (7/ 36).

- وقال القاري -رحمه الله-: «قال الْعلماءُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرْفَعَ الْقَبْرُ قَدْرَ شِبْرٍ، ويُكْرَهُ فوقَ ذلِك، ويُسْتحبُّ الهَدْمُ، وفي قَدْرِهِ خلَافٌ، قيل: إِلى الْأَرْضِ تَغْلِيظًا، وهذا أَقْرَبُ إِلَى اللَّفْظِ، أَيْ: لفْظِ الحدِيثِ مِنَ التَّسْوِيَةِ، وقَال ابنُ الهُمَامِ: هذا الحدِيثُ محْمُولٌ على ما كانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَعْلِيَةِ الْقُبُورِ بِالبِناءِ الْعالي، وليسَ مُرَادُنَا ذلك بِتَسْنِيمِ القَبْرِ، بل بِقَدْرِ ما يَبْدُو مِنَ الْأَرْضِ، ويَتَمَيَّزُ عنها». (مرقاة المفاتيح) (3/ 1216).

معنى تسوية القبر

     قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: «معنى سويتَه، يعني نقضته وهدمته حتى يستوي بالأرض، ما يبقى إلا علامة القبر قدر شبر ونحوه. هكذا شرع الله القبور: أن ترفع قدر شبر من الأرض، حتى يعرف أنها قبور، لا توطأ ولا تمتهن؛ ولا يبنى عليها». فتاوى نور على الدرب (2/ 369).

- وأما دعوى أنّ الأمر بتسوية القبور خاص بقبور اليهود والنصارى فدعوى باطلة، وذلك لما يلي:

أولا: أن الأمر في الحديث عام، والخصوصية تحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك، وإنما الدليل على خلافه.

- فقوله: «لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، ولا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ»، نكرة في سياق النهي، فتعم كل قبر، لأن النكرة في سياق النفي أو النهي تعم، كقوله -تعالى-: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الكهف: 23- 24، وقوله -تعالى-: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} القصص: 88، قال القرافي -رحمه الله-: «النَّكِرَةَ في سياقِ النَّهْيِ، كَالنَّكِرَةِ في سِياقِ النَّفْيِ: تَعُمُّ». انتهى من (الفروق) (1/ 191).

- ثانيا: روى مسلم (968) - قبل هذا الحديث مباشرة -، عن ثُمامةَ بن شُفَيٍّ قال: «كُنَّا مع فَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ بِأَرْض الرُّومِ بِرُودِسَ، فَتُوُفِّيَ صاحبٌ لَنا، فأَمَرَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ بِقَبْرِه فَسُوِّيَ، ثمَّ قَال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا».

فهذا فعل صحابي، مرَّ بقبر رجلٍ من المسلمين لا من غيرهم، فعمل بمقتضى ما فهمه من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتسوية القبور.

- ثالثا: لو جاز القول بأن الأمر بتسوية القبور خاص بقبور اليهود والنصارى، لكان لقائل أن يقول: إن الأمر بطمس الصور والتماثيل خاص بهم أيضا؛ لأن الأمرين وردا في الحديث معا، وهو باطل، كما لا يخفى، ولم يقل به أحد من أهل العلم.

البناء فوق القبر

- والبناء فوق القبر - سواء كان فوق القبر مباشرة أم كان حول القبر - أمرٌ محرّم منهي بنص الحديث؛ لأنه من تعظيمها، وهو ذريعة إلى الشرك والفتنة بها.

     ولا يُعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن أحدٍ من أصحابه أنهم أمروا بالبناء على قبورهم، أو جعلها في أضرحة خاصة، أو بيوت تحيط بها، وإنما المعروف النهي عن ذلك وتجنبه، وهذه قبور الصحابة في البقيع إلى اليوم، وفي مقبرة أُحد وغيرها ظاهرة للناس، ليست مرفوعة، وليس على شيء منها بناء من ضريح أو غيره.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك