رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 11 يوليو، 2019 0 تعليق

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – باب: إِذَا مَاتَ المرء عُرِضَ عَلَيه مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ

عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رسُولَ اللَّه -  صلى الله عليه وسلم - قَال: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ؛ عُرِضَ علَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ؛ إِنْ كانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ وإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ يُقَالُ: هذَا مَقْعَدُكَ؛ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». الحديث أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها (4/2199) وبوب عليه عليه النووي: باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، ورواه البخاري (1379) في كتاب الجنائز، باب: الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي.

     قوله: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي»، قال ابن التين: يحتمل أنْ يُريد بالغداة والعشي غداةً واحدة، وعشية واحدة، يكون العرض فيها، ومعنى قوله: «حتى يبعثك الله» أي: لا تصل إليه إلى يوم البعث، ويحتمل أنْ يريد: كل غداةٍ وكل عشي، وهو محمول على أنه يحيا منه جزءٌ ليدرك ذلك؛ فغير ممتنع أن تعاد الحياة إلى  جزء من الميت أو أجزاء، وتصح مخاطبته والعرض عليه. انتهى.

- قال الحافظ: والأول موافق للأحاديث المتقدمة قبل بابين في سياق المساءلة وعرض المقعدين على كلّ أحد، وقال القرطبي: يجوز أنْ يكون هذا العرض على الروح فقط، ويجوز أنْ يكون عليه مع جزء من البدن. قال: والمراد بالغداة والعشي: وقتهما، وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء. قال: وهذا في حق المؤمن والكافر واضح، فأما المؤمن المخلط فمحتمل في حقه أيضا؛ لأنه يدخل الجنة في الجملة، ثم هو مخصوص بغير الشهداء؛ لأنهم أحياء وأرواحهم تسرح في الجنة. ويحتمل أن يقال: إن فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها؛ فإنّ فيه قدراً زائدا على ما هي فيه الآن.

قوله: «مقعدك حتى يبعثك الله» هذا تنعيم للمؤمن؛ وتعذيب للكافر.

قوله: «إن كان من أهل الجنة؛ فمن أهل الجنة» اتحد فيه الشرط والجزاء لفظاً؛ ولا بد فيه من تقدير، قال التوربشتي: التقدير إنْ كان من أهل الجنة فمقعده من مقاعد أهل الجنة؛ يُعرض عليه.

وقال الطِّيبي: الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظاً دلّ على الفخامة، والمراد أنه يَرى بعد البعث من كرامة الله ما ينسيه هذا المقعد. انتهى، ووقع عند مسلم بلفظ: «إنْ كان مِن أهل الجنة فالجنة». أي: فالمعروض الجنة.

إثبات عذاب القبر ونعيمه

     وفي الحديث: إثبات عذاب القبر ونعيمه، وهو مذهب السلف -رحمهم الله تعالى-؛ قال الطحاوي -رحمه الله- في عقيدته: «ونُؤمن بملَك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين، وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، وسُؤال منكر ونكير في قبره عن ربّه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وعن الصحابة -رضوان الله عليهم-, والقبر روضةٌ من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران».

     قال شارح الطحاوية: «وقد تواترت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته؛ إذْ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، بل إنَّ الشرع قد يأتي بما تحار فيه العقول، فإن عودة الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا».

مذهب أهل السنة

     وقال النووي: «اعلم أن مذهب أهل السنة: إثبات عذاب القبر، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة، قال الله -تعالى-: {النار يُعْرضُون عَليْها غُدوا وعَشيا} غافر: 46؛ وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم-؛ من رواية جماعة من الصحابة في مواطن كثيرة، ولا يمتنع في العقل أنْ يعيد الله -تعالى- الحياة في جزءٍ من الجَسَد ويُعذّبه، وإذا لم يمنعه العقل؛ وورد الشرع به؛ وجب قبوله واعتقاده، وقد ذكر مسلم هنا أحاديث كثيرة في إثبات عذاب القبر، وسماع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوتَ مَنْ يُعذّب فيه، وسماع الموتى قرعَ نعال دافنيهم، وكلامه - صلى الله عليه وسلم - لأهل القليب، وقوله: «ما أنتم بأسمع منهم»، وسؤال الملكين الميت، وإقعادهما إياه، وجوابه لهما، والفَسْح له في قبره، وعرض مقعده عليه بالغداة والعشي، وسَبقَ مُعظم شرح هذا في كتاب الصلاة، وكتاب الجنائز، والمقصود: أن مذهب أهل السنة إثبات عذاب القبر، كما ذكرنا خلافا للخوارج، ومعظم المعتزلة، وبعض المرجئة نفوا ذلك.

المعذَّب عند أهل السنة

     ثم المعذَّب عند أهل السنة: الجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إليه، أو إلى جزء منه، وخالف فيه محمد بن جرير وعبد الله بن كرام وطائفة؛ فقالوا: لا يشترط إعادة الروح! قال أصحابنا: هذا فاسد ; لأن الألم والإحساس إنما يكون في الحي، قال أصحابنا: ولا يمنع من ذلك كون الميت تفرقت أجزاؤه كما نشاهد في العادة، أو أكلته السباع، أو حيتان البحر، أو نحو ذلك، فكما أن الله -تعالى- يعيده للحشر؛ وهو -سبحانه وتعالى- قادرٌ على ذلك، فكذا يعيد الحياة إلى جزءٍ منه أو أجزاء وإن أكلته السباع والحيتان.

     فإنْ قيل: فنحن نشاهد الميت على حاله في قبره، فكيف يسأل ويقعد ويضرب بمطارق من حديد، ولا يظهر له أثر؟ فالجواب: أنَّ ذلك غير ممتنع، بل له نظير في العادة وهو النائم، فإنه يجد لذَّة وآلاماً لا نحس نحن شيئا منها، وكذا يجد اليقظان لذة وألما لما يسمعه أو يفكر فيه، ولا يشاهد ذلك جالسوه منه، وكذا كان جبرائيل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخبره بالوحي الكريم، ولا يدركه الحاضرون، وكل هذا ظاهرٌ جلي، قال أصحابنا: وأما إقعاده المذكور في الحديث فيحتمل أنْ يكون مختصا بالمقبور دون المنبوذ، ومَنْ أكلته السِّباع والحيتان، وأما ضربه بالمطارق فلا يمتنع أنْ يُوسع له في قبره؛ فيُقعد ويضرب. والله أعلم». شرح مسلم (17 / 201).

وقال ابن كثير عند قوله -تعالى:  {النار يعرضون عليها غدوا وعشيّاً}: وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور.

الصحيح من أقوال العلماء

     والصحيح من أقوال العلماء: أن عذاب القبر ونعيمه يقع على الروح والجسد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية  -رحمه الله-: ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن العذاب أو النعيم يحصل لروح الميت وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأيضا تتصل بالبدن أحيانا فيحصل له معها النعيم أو العذاب». «الاختيارات الفقهية» (ص 94).

وقال الحافظ: وفي هذا الحديث إثبات عذاب القبر، وأنّ الروح لا تفنى بفناء الجسد؛ لأن العَرَض لا يقع إلا على حي.

وقال ابن عبد البر: استدل به على أنّ الأرواح على أفنية القبور ! قال: والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية قبورها؛ لا أنها لا تُفارق الأفنية، بل هي كما قال مالك إنه بلغه: أنّ الأرواح تسرح حيثُ شاءت!

تعليق الشيخ ابن باز

     وقد علّق الشيخ العلامة عبد العزيز ابن باز -رحمه الله- في الطبعة السلفية (3/243) هاهنا فقال: «ما قاله ابن عبد البر ومالك في الأرواح ضعيف؛ مخالف لظاهر القرآن الكريم، وقد دل ظاهر القرآن: على أنَّ الأرواح ممسكة عند الله -سبحانه-، وينالها من العذاب والنعيم ما شاء الله من ذلك، ولا مانع من عَرض العذاب والنعيم عليها وإحساس البدن، أو ما بقي منه بما شاء الله من ذلك كما هو قول أهل السنة، والدليل المشار إليه قوله -تعالى-:{اللهُ يُتوفَّى الأنفس حينَ مَوتها والتي لم تمتْ في منامها فيُمسكُ التي قَضَى عليها الموتَ ويُرْسل الأخْرى إلى أجلٍ مُسمّى} الزمر: 42.

وقد دلت الأحاديث: على إعادتها إلى الجسد بعد الدفن عند السؤال، ولا مانع من إعادتها إليه فيما يشاء الله من الأوقات كوقت السلام عليه.

أرواح المؤمنين

وثبت في الحديث الصحيح: «أنَّ أرواح المؤمنين في شكل طيورٍ تَعْلق بشجر الجنة، وأرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت..». الحديث، والله أعلم». انتهى.

حتى يبعثك الله

     قوله: «حتى يبعثك الله يوم القيامة «في رواية مسلم، عن يحيى بن يحيى عن مالك: «حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة». وحكى ابن عبد البر فيه الاختلاف بين أصحاب مالك، وأن الأكثر رووه كرواية البخاري، وأن ابن القاسم رواه كرواية مسلم، قال: والمعنى حتى يبعثك الله إلى ذلك المقعد. ويحتمل أن يعود الضمير إلى الله، فإلى الله ترجع الأمور، والأول أظهر ا هـ.

ويؤيده رواية الزهري، عن سالم عن أبيه بلفظ: «ثم يقال: هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة». أخرجه مسلم. وقد أخرج النسائي رواية ابن القاسم لكن لفظه كلفظ البخاري.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك