رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 27 يونيو، 2011 0 تعليق

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(23) الصلوات تذهب بالسيئات

 

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا.  والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا.  والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

( سورة هود ) : باب في قوله تعالى: {إن الحسناتِ يذهبن السيئات}.

2143. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ [ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا، فَأَنَا هَذَا، فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ ! فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ، لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ، قَالَ : فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ [ شَيْئًا، فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ، فَأَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا دَعَاهُ، وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذَا لَهُ خَاصَّةً ؟ قَالَ : « بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً».

الشرح:

       سورة هود وفيها حديث واحد، أخرجه الإمام مسلم أيضا في التفسير باب قوله تعالى: {ِإنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ}، وهو حديث عبد الله بن مسعود الهذلي، وهو أبو عبد الرحمن أحد السابقين الأولين للإسلام، ومضت ترجمته.

       قال : « جاء رجل إلى النبي [ «لم يذكر اسمه في الحديث، ومن عادة الصحابة أنهم لا يذكرون الأسماء إذا كان هناك شيء من ذنب أو معصية أو ما أشبه ذلك، فإنهم يلتزمون الأدب الشرعي في هذا الباب فلا يذكرون الأسماء؛ ستراً على أصحابها، وهذا من خلقهم الجميل .

       قال : «جاء رجل إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها» قوله : إني عالجت امرأة : يعني : تناولتها واستمتعت بها من التقبيل أو الضم.

       «من غير أن أمسها» يعني : من غير أن يحصل هناك جماع أو الوقوع في الزنى الأكبر، وإنما حصل الاستمتاع بالقبلة والمعانقة ونحو ذلك.

       قوله : «فأنا هذا فاقض فيّ ما شئت» أي إنه لامته نفسه على هذا العمل المحرم وندم، ومن كمال توبته أنه جاء إلى النبي [ طالباً إقامة الحد عليه، يعني أنه ظن أن هناك حداً يقام عليه بسبب هذا الفعل، فطلب من النبي [ أن يقيم عليه الحد، ويقضي فيه بما يشاء .

       قوله : « فقال له عمر : لقد سترك الله، لو سترت على نفسك، فلم يرد النبي [ شيئا» وهذا إقرار من النبي [، ونعلم أن السنة النبوية: قول وفعل وتقرير، فالنبي [ أقرّ عمر ] على قوله : « لقد سترك الله فلو سترت على نفسك» . قال أهل العلم : من ألّم بمعصية أو كبيرة وستره الله، فعليه أن يستر على نفسه، ولا يفضح نفسه، فيقول : فعلت كذا وكذا، كما جاء في الحديث الصحيح: « كلُ أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ً، ثم يصبح وقد ستره الله تعالى فيقول : عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» متفق عليه .

       وهكذا لا يذهب إلى القاضي ويقول : أنا فعلت كذا وفعلت كذا، فأقم حد الله عليّ؛ لأن الله عز وجل قد ستره، فليستر على نفسه، وثبت أيضا أن النبي [ قال : « من ألمّ بشيء من هذه القاذروات، فليستتر بستر الله تعالى؛ فإنه من يُبد لنا صفحته، نقم عليه الحد « .

       القاذروات هي الكبائر، يعني: من وقع بشيء من هذه الفواحش، فعليه أن يستر على نفسه، فإنه إن أبدى لنا ما فعله، واعترف على نفسه، أقمنا عليه الحد الشرعي .

       فما دام أن الأمر لم يصل إلى القضاء، فإنه لا تقام الحدود، إما إذا وصل الأمر إلى القاضي والحاكم، فعندئذ لا تجوز الشفاعة لإسقاط الحد؛ لأن الشفاعة في حد من حدود الله حرام، ومن حالة شفاعته دون حدّ من حدود الله، أي دون إقامة حدّ من حدود الله فقد ضاد الله في حكمه، كما قال [ في الحديث الصحيح عند ابن ماجة .

       فالحاصل : إذا سترك الله عز وجل فاستر على نفسك، واطلب من الله سبحانه وتعالى المغفرة والعفو والمسامحة، واندم على الذنب، واتبعه بالعمل الصالح، وبقدر ندم المسلم يكون صدق التوبة، وبحسب كراهيته لما فعل، وخوفه من الله وكثرة استغفاره، فكل هذا يدل على صدق التوبة .

       ولأن في الستر تحقيقا لصفة يحبها الله تعالى وهي الستر، كما جاء في الحديث : « إن الله حيي ستير، يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر « رواه أحمد وأبو داود والنسائي .

فربنا عز وجل - كما قال [ - يحب هذه الصفة وهي الستر؛ لأن الستر فيه حماية لسمعة الناس وأعراضهم أولا، وهذا فيه إعانة للعاصي على التوبة والرجوع إلى الله عز وجل، لأنه لم يعلم به أحد إلا الله، فنسي هذا الذنب ورجع إلى الجادة الصحيحة وتاب إلى الله سبحانه وتعالى، لكن لو أن أحد الناس أذنب ذنبا فوضع اسمه في الجرائد ونشرت صوره، فإن رجوعه عن المعصية يصعب ؟! ويصبح هذا الرجل وكأنه قد قضي عليه، فيقول : ما دام أني عرفت بهذا، فلن أرجع، فتأخذه العزة بالإثم ويستمر في معصيته .

       ولهذا فالستر يحبه الله سبحانه وتعالى، وكان النبي [ من هديه أن يقول في خطبه : ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ؟! فلا يذكر أحدا باسمه [، وهذا من هديه بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأما هذه الجرائد التي لا هم لها إلا الفضائح وأخبار الجرائم، فهذه محرمة لا يجوز بيعها ولا شراؤها، وتوجد للأسف بأسواق المسلمين اليوم جرائد بعضها اسمها : أسرار الناس ؟؟! وبعضها اسمها الجريمة ؟؟! يعني مهنتها الكلام في الجرائم وفضح الناس بالصور وبالمقالات الواسعة، وبالتصريح المخل بالآداب ؟ والمذهب للحياء ؟! فهذا في الحقيقة إعلام يجب أن يُقطع ويقاطع، وأن يحذر منه، والذي يريد أن يتكسب بأعراض الناس ونشر فضائحهم فهذا إنسان ليس عنده من الدين والخلق ولا من الأدب ولا من الحياء من الله عز وجل ما يمنعه عن ذلك، فيريد أن يكسب المال والدراهم من فضح الناس بالصور وبالوقائع وبالأخبار، وربما يكون الخبر صغيرا فيضع عليه التفصيلات والزوائد لأجل أن يروج وأن ينتشر هذا الأمر ؟؟!

       وهذا العمل جاءنا من الكفار وصار بعض المسلمين يقلدهم فيه فعندهم الجرائد تجند لصوصا يسرقون صور الناس وأسرارهم باسم الصحافة ؟؟! ربما يصور الإنسان بخلوه، وربما يصور الإنسان ببيته وهو بين أهله ؟؟ ربما يصور الإنسان في وضع هو لا يسمح بتصويره ؟ من أجل ماذا ؟ من أجل أن يكسب شهرة وسبقا صحفيا – زعموا - ومالا سحتا من بيع النسخ، من وراء نشر الفضائح ؟! وكشف العورات ؟!

وهذا كله مما يخالف شريعة الله عز وجل .

       وأما إذا عمل الإنسان عملا محرماً مستهترا غير مبال به، كالذي يذنب وهو يضحك بملء فيه، أو يعصي ويستهتر بعباد الله، أو يجاهر بالمعصية، أو يستهزئ بأهل الدّين والصلاح، كل هذا يدل على استهانته بالله عز وجل، قال عز وجل: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الزمر، فلو قدروا الله عز وجل حق قدره، لعظمت المعصية في قلبه .

       وقال بعض السلف : لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من تعصي .  ولهذا قال بعضهم بهذا الاعتبار : كل المعاصي كبائر .

فالنبي [ لما ذكر له الرجل ما حصل منه سكت عنه، وما ردّ عليه بشيء .

       ثم إن الرجل كما جاء في رواية لمسلم : قام مع النبي [ لصلاة العصر، فصلى مع النبي [ وبعد أن صلى العصر انطلق الرجل، فأتبعه الرسول [ رجلا، يعني : أرسل في أثره رجلا، فدعاه وناداه، فلما جاء إلى النبي [ تلا عليه قول الله تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود : 114).

       وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} اختلف العلماء في طرفي النهار اختلافا كثيرا، وهو من اختلاف التنوع؛ لأن الآية تسع هذه المعاني كلها، وهذا من عظمة كتاب الله سبحانه وتعالى، ومن سعته ومجده، أن اللفظ الواحد يسع المعاني الكثيرة، فمن أهل العلم من قال {طرفي النهار}: الفجر والعصر . ومنهم من قال: {طرفي النهار} : الفجر والمغرب . ومنهم من قال : الفجر والظهر . وهذه كلها أقوال في طرفي النهار .

       وقوله: {وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ} قيل : المغرب والعشاء، وبهذا القول تكون الآية قد اشتملت على الصلوات كلها . والزُلف هي الساعات المتقاربة، فالزلف من الليل تشمل المغرب والعشاء .

       وقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} الحسنات هنا عامة، وأعظمها الصلوات المكتوبة، فإنهن يذهبن السيئات، والصلوات المستحبة أيضا يذهبن السيئات، وقد جاء في الحديث المشهور عند الإمام مسلم أن النبي [ قال : «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء ؟ «قالوا : لا يبقى من درنه شيء، قال : « فذلك مثل الصلوات الخمس، يكفر الله بهن الخطايا» .

إذاً الصلوات الخمس مكفرات عظيمة للذنوب .

       وفي الحديث الآخر أيضا في صحيح مسلم : قال الرسول [ : «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر « .

       فالحسنات الواجبة والمندوبة على العموم، تكفر السيئات وتمحوها، سواء كانت صلوات أو زكوات أو صدقات، أو أذكار أو أعمال بر وصلة، فكل الحسنات يذهبن السيئات .

       وقوله: {يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} قيل : المراد بها الصغائر؛ للحديث السابق: «إذا اجتنبت الكبائر» . وقيل : إنها تكفر كل السيئات، والأول أظهر . إلا إذا انضاف للحسنة التوبة، فإنها تمحو السيئة مهما كانت بالاتفاق.

       وقوله: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} أي: موعظة للمتعظين والمتذكرين، والذين يتعظون هم أهل الإيمان والتقوى، وأهل الذكر، الذين يذكرون الله تبارك وتعالى فهم الذين يتذكرون بهذا .

       قوله « فقال رجل من القوم : يا نبي الله، هذا له خاصة ؟ قال [ : «بل للناس كافة « ، وفي رواية عند أهل السنن : « هي لمن عمل بها من أمتي « يعني أن الحسنات يذهبن السيئات ليست خاصة لهذا الرجل، بل كل فرد من الآمة إذا عمل سيئة فاتبعها بحسنة فإنها تمحوها، كما جاء في الحديث : أن النبي [ قال: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» رواه الترمذي. أتبعها: يعني أن تكون بعدها، حتى لا تكتب عليك السيئة، ولا تصيبك آثار هذه السيئة، والمحو معناه الإزالة والإنهاء، أي: لا يبقى منها شيء بفعل الحسنة .

       وقوله في هذا الحديث: « هي للناس كافة» دليل على قاعدة شرعية عند أهل التفسير، ألا وهي : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومعنى هذه القاعدة : أنه إذا نزلت آية في شخص ما من الصحابة، أو عمل عملا ما فنزلت الآية فيه، فلا يعني هذا أن حكم هذه الآية خاص بهذا الرجل، بل الآية وكل الأحكام النازلة إنما تنزل لعموم الأمة، هذا هو الأصل، بل حتى الآيات النازلة في النبي [ هي في الأصل لعموم الأمة، يعني مثلا قال الله سبحانه وتعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق : 1)، الخطاب هنا للنبي [، لكن ليس له وحده بل للأمة المسلمة جميعا ؟

وكذا قوله: {يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك...} ثم قال {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}.

       فالخطاب وإن كان في القرآن للنبي [، فليس خاصا به، بل هو خطاب ينفذ منه إلى سائر الأمة؛ لأنه المبلغ عن الله تعالى دينه .

       إلا ما دل عليه الدليل بالنص، أو بالقرينة الواضحة، مثل قول الله سبحانه وتعالى في المرأة التي وهبت نفسها للنبي [: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (الأحزاب : 50).

فقوله «خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» دليل واضح على الخصوصية .

       وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} (الأحزاب : 53)، وهذا نص أيضا على أنه لا يجوز لأحد أن يتزوج بزوجات النبي [ من بعده، فأيما امرأة مات عنها النبي [ فهي أمٌ لنا، وأم للمؤمنين جميعا، ولا يحل لأحد أن يتزوجها .

فهذه نصوص خاصة بالرسول [ .

هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك