رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 7 نوفمبر، 2010 0 تعليق

شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (60) الاجتهاد والقياس ومعرفة المجمل

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع  كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الباب الرابع والعشرون:

باب: الأحكام التي ُتعرف بالدلائل، وكيف معنى الدلالة وتفسيرها

وقد أخبر النبيُ[ أمرَ الخيل وغيرها ، ثم سئل عن الحمر، فدلهم على قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}، وسئل النبي[ عن الضب، فقال: «لا آكله ولا أحرمه». وأكل على مائدة النبي[ الضبُ، فاستدل ابن عباس بأنه ليس بحرام.

الحديث الأول:

7356 – حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله[ قال: «الخيل لثلاثة: لرجل أجرٌ، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك المرج والروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها، فاستنت شرفا أو شرفين، كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرّت بنهر فشربت منه - ولم ُيرد أن يسقي به - كان ذلك حسنات له، وهي لذلك الرجل أجر. ورجل ربطها تغنيّاً وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر . ورجل ربطها فخراً ورياء، فهي على ذلك وزر». وسئل رسول الله[ عن الحمر، فقال: «ما أنزل الله علي فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} طرفه في: 2371 .

الشرح:

الباب الرابع والعشرون هو: باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها.

والأحكام هي الشرعية التي تعرف بالدلائل، وفي بعض النسخ: بالدليل.

 والدليل يُعرّف بأنه: ما يرشد إلى المطلوب، ويلزم من العلم به العلم بالمدلول، وأصله في اللغة: من أرشد إلى الطريق، قاصدا إلى طريق يوصله إلى مقصده. والدلالة يجوز فيها فتح الدال وكسرها، والفتح أفصح. والمراد بها في الاصطلاح الشرعي: الإرشاد إلى حكم الشيء الخاص الذي لم يرد فيه نص خاص، وإنما هو داخل تحت حكم دليل آخر بطريق العموم.

هذا معنى الدلالة، وتفسيرها يعني: تبيينها، فالتفسير هو التبيين، وهو تعليم المأمور، أي: تعليم المكلف كيفية ما أُمر به، أو كيفية الوصول إلى ما أمر به من الأحكام.

 ويستفاد من هذه الترجمة: أن الاستنباط والاجتهاد في الوصول إلى ما يظن أنه حكم الله تعالى ورسوله[، محمود إذا تم بضوابطه الشرعية، وأن الجمود على النصوص الظاهرة ليس هو طريق النبي[، فليس من طريق النبي[ أن يجمد على ظاهر النص، ويهمل الإشارة أو الدلالة، والأدلة على ذلك ما ذكره البخاري تحت هذا الباب من الأحاديث.

وقوله: «سئل النبي[ عن الضب فقال: لا آكله ولا أحرمه»، هو الحديث الثالث في الباب وسيأتي الكلام فيه.

أما الحديث الأول في الباب: الذي يرويه البخاري من طريق شيخه إسماعيل بن أبي أويس، عن الإمام مالك، عن زيد بن أسلم  وقد مضت تراجمهم. عن أبي صالح السمان واسمه ذكوان المدني، وسمي بالسمان أو الزيات لكونه كان يتجر بالزيت، يرويه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

أن رسول الله[: «الخيل لثلاثة» أي: لثلاثة أصناف أو ثلاثة أنواع من الناس.

قوله: «لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله» يعني رجل ربط هذه الفرس من أجل الغزو والجهاد، وهذا معنى ربطها في سبيل الله، أي: أنه أعدها وربطها ذخرا للجهاد.

قوله: «فأطال في مرج أو روضة» يعني أطال الحبل. قوله: «فما أصابت في طيلها ذلك المرج والروض كان له حسنات» أي: إذا تحركت هذه الخيل ومشت أو ركضت على حسب طول الحبل كان له به حسنات.

قوله: «ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين» أي: إذا قطعت حبلها، واستنت أي: ركضت، والشرف: هو المكان المرتفع.

 قوله: «كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن تسقي بهه كان ذلك حسنات له» فهذه الفرس كلها حسنات وأجر وثواب لصاحبها، فكل طعامها وشرابها يوضع في ميزان صاحبها، بل حتى أرواثها توضع في ميزانه، وحتى تحركها يمينا وشمالا في مرجها يحسب له حسنات.

قوله: «ورجلا ربطها تغنيا وتعففا» أي: طلبا للنسل، فيطلب تولدها لأجل أن يبيع من أولادها، ولم ينس حق الله في رقابها، ولا ظهورها، فهي له ستر، لأنها تغنيه عن السؤال وتستره هو وعياله.

أما الرجل الثالث: «فرجل ربطها فخرا ورياء» أي: يتخذها لمجرد الفخر على الناس والخيلاء، بأنه يملك من الخيل كذا وكذا، أو من الأفراس كذا وكذا، فهي على ذلك الرجل وزر، لعدم وجود النية الصالحة في اتخاذها.

قوله: «وسئل[ عن الحُمر» وهي جمع حمار، الحيوان المعروف. فقال: ما أنزل الله علي فيها إلا هذه الآية الفذة الجامعة، الفذة يعني الجامعة الفريدة، وهي قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7- 8)، فالرسول[ لما بيّن حكم اقتناء الخيل وأحوال مقتنيها من الناس، وسئل عن الحمر أشار إلى أن حكمها وحكم الحمر وحكم غيرها مندرج في عموم قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8)، وهذا من باب الإرشاد إلى أن حكم الشيء الخاص الذي لم يرد فيه نص خاص، قد يندرج تحت دليل آخر بطريق العموم كما قلنا، وهذا هو القياس.

 فقال أهل العلم: إن هذا الحديث فيه حجة على إثبات القياس، ولا شك في أن فيه إشارة واضحة إلى حجية القياس، وتعليم النبي[ أمته كيف يصلوا إلى الحكم الشرعي بالإستنباط، وإلى الأدلة على الشيء الخاص في نظرهم في الأدلة العامة.

الحديث الثاني:

7357 – حدثنا يحي: حدثنا ابن عيينة، عن منصور بن صفية، عن أمه، عن عائشة: أن امرأة سألت النبي[.

طرفه في: 314 . ح / حدثنا محمد – هو ابن عقبة - حدثنا الفضيل بن سليمان النميري البصري: حدثنا منصور بن عبد الرحمن بن شيبة، حدثتني أمي، عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة سألت النبي[ عن الحيض، كيف تغتسل منه؟ قال: «تأخذين فرصة ممسكة، فتوضئين بها» . قالت: كيف أتوضأ بها يا رسول الله؟ قال النبي[: «توضئي». قالت: كيف أتوضأ بها يا رسول الله؟ قال النبي[: «توضئين بها». قالت عائشة: فعرفتُ الذي يريد رسول الله[ فجذبتها إليَّ فعلّمتها.

الشرح:

الحديث الثاني في هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها والذي يرويه البخاري رحمه الله بإسنادين:  الأول: من طريق يحي، وهو ابن موسى البلخي، ثقة. قال: حدثنا ابن عيينة، وهو سفيان عن منصور بن صفيه وهو ابن عبد الرحمن العبدري الحجبي المكي، ثقة. عن عن أمه وهي صفية بنت شيبة ابن عثمان بن أبي طلحة العبدرية، لها صحابية رؤية عن عائشة رضي الله عنها.

ويرويه البخاري بسند آخر: عن محمد بن عقبة هو الشيباني الطحان الكوفي، ثقة. عن الفضيل بن سليمان النميري، عن منصور بن عبدالرحمن بن شيبة عن أمه، عائشة رضي الله عنها.

قوله: «أن امرأة سألت النبي[ عن الحيض كيف تغتسل منه» أي: كيف تتطهر منه.

فقال النبي[: «تأخذين فرصة ممسكة فتوضئين بها» يعني بعد أن تغسل المرأة رأسها وبدنها، فإنها تإخذ فرصة ممسكة، والفرصة بكسر يعني تأخذ قطعة من المسك، وقيل تأخذ قطنة ممسكة، يعني فيها شيء من المسك فتتوضأ بها.

 وأراد النبي[ بالوضوء ها هنا: تتبع آثار الدم، وهذا وضوء خاص لأنه اقترن بذكر الدم والأذى، فالنبي[ أحب لنساء أمته أنهن إذا طهرن من المحيض أن يتطهرن بالماء ويغسلن رؤسهن وأبدانهن، ثم تأخذ المرأة قطنة ممسكة، فيها شيء من المسك أو الطيب، فتتبع بها آثار الدم لتدفع به الرائحة الكريهة، وقد ذكر بعض الأطباء فائدة هذا للرحم وفائدته للمرأة عموما، وقيل: فائدته للزوجين، لترغيب الرجل بجماع امرأته.

 وإنما قال النبي[: «توضئين بها» لأنه استحي[ أن يذكر اللفظ الصريح.

 فقالت المرأة: كيف أتوضأ بها يا رسول الله، وأعادته عليه عليه الصلاة والسلام مرتين أو ثلاثا، وهو يقول لها: توضئين بها.

قوله: «قالت عائشة ، فعرفت الذي يريد» أي: عرفت غرض النبي عليه الصلاة والسلام ومقصده، فعرفت أنه يريد أن تتبع بها آثار الدم، موضع الدم وهو الفرج، فبينت للمرأة ما خفي عليها من ذلك.

 وهذا الحديث كما أنه حجة في هذا الباب، وهو أن الأمر المجمل يعرف بيانه بالقرائن والإشارات، والمجمل هو الأمر الذي لم تتضح دلالته، فإن القرآن والسنة فيهما مجمل ومبين:

 أما المجمل: فهو الذي المبهم والمحتمل، أي مالا تتضح دلالته.

وأما المبين:  فهو الذي لا يحتاج إلى بيان.

 فالمجمل تختلف الأذهان والأفهام في إدراكه، ولذلك عرفت عائشة قصد النبي[ ولم تعرفه المرأة، وهذا فيه فضل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها على غيرها من نساء الصحابة، وفقهها وعلمها بالشرع.

والمجمل ينقسم إلى قسمين: فقد يكون لفظا مفردا، وقد يكون جملة مركبة.

أما اللفظ المفرد فـ»كالقرء»: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (البقرة: 228)، فالقرء لفظ مجمل يحتمل الطهر، ويحتمل الحيض، ولذلك يحتاج إلى بيان.

 ومنه حديث الباب، فإن النبي[ قال لها: «توضئي بها»، والوضوء قد يطلق على العبادة الشرعية المعروفة، وقد يطلق أحيانا على عموم التطهر ، كما في حديث الباب.

 أما المجمل المركب فكقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (البقرة: 237).

 فيحتمل أن يكون الذي بيده عقدة النكاح وإنهائها، هو الزوج .  وهناك قول ثان: أن الذي بيده عقدة النكاح هو: الولي، لأنه الذي عقد النكاح أولا، فهذا من المجمل المركب، وله نظائر كثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى.

وممن اهتم ببيان مجمل القرآن وتفسيره، أي تفسير القرآن بالقرآن، العلامة الشنقيطي محمد الأمين في كتابه: «أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك