رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 30 نوفمبر، 2010 0 تعليق

شرح كتاب « الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (15)

 


 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.

ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى.

ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

 

• الحديث الثاني عشر :

7288- حدثنا إسماعيل: حدثني مالك, عن أبي الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة, عن النبي [ قال: «دعوني ما تركتكم , إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم, واختلافهم على أنبيائهم, فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه, وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».

الشرح:

الحديث الثاني عشر في هذا الباب، حديث أبي هريرة - رضي الله عنه وأرضاه - يرويه البخاري - رحمه الله - عن إسماعيل بن أويس الأصبحي قال: حدثني مالك قال عن أبي الزناد, واسمه عبد الله بن ذكوان القرشي المدني ثقة فقيه، وأبو الزناد لقبه، وكان يغضب إذا قيل له : أبو الزناد، لكن هذا اللقب أو هذه الكنية غلبت عليه واشتهر بها، فلم يجد أهل الحديث بداً من أن يذكر بها, وهذا من المواضع التي تباح فيها الغيبة، وهو إذا كان الرجل لا يعرف إلا بلقبه، فإنه يجوز تلقيبه به, فهذا من الوجوه التي تسوغ فيها الغيبة، فإذا كان لا يعرف إلا بالأعرج, بالأعمش, أو بالأخفش, أو بالأفطس, أو بالطويل, أو بالقصير, إذا كان لا يعرف إلا بهذا الوصف فإنه يجوز تلقيبه بذلك ليعرف, أما إذا أمكن تحاشي هذه الألقاب فالواجب على المسلم أن يتحاشاها لئلا يقع في الغيبة, كما قال تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} (الحجرات: 11).

 قوله: عن الأعرج، هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني، ثقة ثبت عالم، وهو أحد المكثرين في الرواية، عن أبي هريرة -رضي الله- عنه عن النبي [ قال: «دعوني ما تركتكم» وفي رواية: «ذروني ما تركتكم» وهي بمعنى: دعوني, وقد ذكر الإمام مسلم سبب هذا الحديث: وهو أن الرسول [ خطب الناس فقال: «يأيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت الرسول [ حتى قالها ثلاثا فقال: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم, ذروني ما تركتكم». وجاء في حديث ابن عباس عند الطبري أن الله تعالى أنزل عند ذلك: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (المائدة: 101), وسيأتي الكلام فيما يتعلق بالسؤال في الباب القادم.

فقوله: «ذروني ما تركتكم» يعني: اتركوني مدة تركي إياكم بغير أمر ولا نهي, إذا تركتكم فلم آمركم ولم أنهكم فاتركوني، فلا تسألوا في تلك المدة التي لم آمركم فيها بشيء، ولم أنهكم فيها عن شيء, لأن هذا من عفو الله تعالى, فالمراد ترك السؤال عن شيء لم يقع؛ خشية أن ينزل فيه تحريم أو إيجاب.

فالرسول [ كان رؤوفا رحيما بالأمة, ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما, وكان يكره أن يسأله أصحابه عن شيء لم يحرم فيحرم, وقد قال [ – كما في حديث مسلم-: «إن من أشد الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته».

وهذا ترهيب أن يُسأل عليه الصلاة والسلام عن شيء لم يحرم ولم يقع فيحرمه من أجل المسألة، وهذا الأمر - كما تعلمون - قد انتهى بوفاة النبي [, إذ بوفاته [ اكتمل الشرع, وكملت الفرائض, واكتملت الأحكام الشرعية، وشرعت الحدود.

وأيضا قوله: «دعوني ما تركتكم» نهي عن كثرة السؤال, لأن كثرة السؤال توقع الإنسان في العنت وفي الشدة, يعني: لا تكثر من الأسئلة ولا تكثر من الاستفصال الذي لا فائدة منه، ولا تنقب كما فعلت بنو إسرائيل لما أمروا أن يذبحوا بقرة: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} (البقرة: 67)؛ فبنو إسرائيل لما أمروا أن يذبحوا بقرة تلكؤوا وتباطؤوا , ولو أخذوا أدنى بقرة وذبحوها لكفتهم، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم؛ ولهذا قال [: «إنما أَهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم» فبنوا إسرائيل شددوا على أنفسهم في البقرة، فقالوا: ما هي؟ ما سنها, ما لونها, ما وصفها؟ وفي كل مرة ينزل عليهم فيها تشديد، حتى إنهم - فيما ذكر أهل التفسير - لم يجدوا البقرة الموصوفة إلا عند رجل باعها بملء جلدها ذهبا! فهؤلاء لو أنهم أخذوا أي بقرة كما أخبرهم نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}، وأخذوا عضوا من أعضائها وضربوا به الميت لأحياه الله عز وجل ولأخبرهم بمن قتله, لكنهم شددوا حتى وقعوا في الشدة, وقد جاء ذلك مرفوعا إلى النبي [ عن أبي هريرة: «لو اعترض بنو إسرائيل أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم» رواه ابن أبي حاتم في تفسيره والبزار وفيه ضعف، ومعناه ورد عن ابن عباس وغيره.

إذًا هذا سبب هلاك السابقين: كثرة سؤالهم واعتراضهم على أنبيائهم, إما سؤالهم عن أشياء لم تقع، أو كثرة استفصالهم عند الأمر والنهي وعدم المسارعة للاستجابة.

وأيضا: كثرة الأسئلة المتكررة التي يحصل فيها عنت ومشقة.

ثم إن النبي [ دلهم على الواجب عليهم، وهو الاستجابة الفورية، وترك كثرة السؤال، فهذا هو الواجب على المؤمنين، كما قال [ في حديثه الآخر: «فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».

فيا عبد الله! اترك عنك كثرة القيل والقال, وترديد السؤال, واعمل بالواجب حالا، فهذا إرشاده [ للخلق أن يشتغلوا بما أمروا به. وإذا رأيت إنسانا يطلب علما لا فائدة منه، أو يكثر من السؤال عن أمور لا تنفعه ولا يترتب عليها عمل، أو يشتغل مثلا بأعراض العلماء والدعاة أو العاملين في مجال الدعوة بغير حق، فعليك أن تنصحه وتقول له: اشتغل بما أمرت به, وانته عما نهيت عنه؛ فالله تعالى أمرك بأن تجتنب محارمه، وأمرك بطاعته.

وكذا السؤال على وجه التعنت أو التكلف، أو السؤال عما لا يفع أصلا, فهذا أيضا من الذي نهينا عنه في هذا الحديث؛ لأن هناك ما هو أهم منه, فالحديث يشير إلى أن المسلم يجب عليه أن يشتغل بالمهم من الأمور، وما يحتاج إليه عاجلا أو آجلا, فربما لا أحتاج اليوم إلى معرفة أحكام الزكاة أو الحج؛ لأني لا أملك النصاب أو المال للحج, لكن أتعلم أحكام الزكاة والحج؛ لأني في المستقبل سيرزقني الله مالا وتجب علي الزكاة والحج.

وقوله [: «فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه مطلقا؛ لأنه لم يذكر الاستطاعة, وهذا عام في جميع المناهي الشرعية, فأي شيء نهاك الله تعالى عنه أو ورسوله [ فاجتنبه, هذا هو الأصل، إلا ما أكرهت عليه أو إلا ما اضطررت إليه، كأكل الميتة لمن خاف الهلاك مثلا؛ فقد قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام : 119), فحال الضرورة والاضطرار، أو حال الإكراه, هذه مسائل استثنائية، وإلا فالأصل أن الإنسان يترك جميع المنهيات الواردة في الكتاب والسنة, وقد جمعها جماعة من العلماء والمؤلفين قديما وحديثا باسم: «المنهيات الشرعية» أو الكبائر, يعني ما نهى الله عنه في كتابه، وما نهى عنه رسوله, وأعظم المنهيات الشرعية»، الشرك بأنواعه أما أعظم ما أمر الله تعالى به، فالتوحيد ومقاماته، كالتوكل والمحبة والخوف والتعظيم والرغبة والرهبة وغيرها.

فقوله: «إذا نهيتكم عن شيء» يعني: أي شيء فاجتنبوه, وهذا يدلنا على أن الأصل في النهي التحريم لا الكراهة؛ لأن الرسول [ يقول: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» فالأصل الاجتناب والبعد، فإذا نهاك الله عن شيء أو نهاك رسوله عنه، فالأصل فيه الاجتناب , إلا ما اضطررتم إليه.

وهاهنا مسألة: هل مما اضطررنا إليه أن نتداوى بالحرام؟!

والجواب: لا؛ لأن الرسول [ سأله رجل عن الخمر يصنعها؟ فقال [: «هي حرام» قال: إني أصنعها للدواء، فقال [: «إنها داء، وليست بدواء» رواه مسلم. فمنعه من التداوي بالخمر والحرام.

وفيه جواب لبعض الناس إذا سألوا: ما حكم شرب بعض دماء الحيوانات؟ يقولون بقصد التداوي!! كما يشرب بعضهم دم الضب بقصد التداوي؟! نقول: إنه داء وليس بدواء؛ فلا يجوز أن يتداوى الإنسان بحرام! وهو [: «نهى عن الدواء الخبيث» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة، رضي الله عنه.

وهو القائل [: «تداووا عباد الله؛ فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له دواء» رواه أحمد وأصحاب السنن.

فالحرام ليس بدواء، وهو وإن شفى شيئا من الأمراض، أورث أمراضا أخرى!! ولو لم يكن من الأمراض التي يورثها إلا الخدش والطعن في الدين والعقيدة لكفى, وهذا مرض عظيم, أن الإنسان يشفى من مرض البدن ويصاب بمرض القلب والروح والعقيدة! وأيهما أولى بالسلامة وأن يحافظ عليه الإنسان؟! لا شك أن العقيدة والقلب والروح أولى بأن يحافظ عليها المسلم من الداء الذي يدخلها النار والعياذ بالله, وأما مرض البدن فإنه وإن بقي في الدنيا فالإنسان مأجور عليه في الدنيا والآخرة.

وأيضا يقول العلماء: إن اجتناب المنهي لا يحصل إلا باجتماع جميعه, «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه», فلا تكون مجتنبا للنواهي حتى تجتنبها جميعا, أما بالنسبة للأمر فـ «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم», وهذا من جوامع الكلم النبوي كما قال النووي وغيره؛ لأنه يدخل فيها قواعد الإسلام وكثير من الأحكام الشرعية.

قوله: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، فمن لا يستطيع أن يصلي قائما نقول له صل قاعدا، ولا نقول له: اترك الصلاة!! لأن النبي [ يقول: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، فإن لم تستطع أن تصلي قاعدا فصل على جنب, وإذا لم تستطع أن تغسل جميع أعضاء الوضوء فاغسل منها ما استطعت ولا تترك الوضوء كله, وإذا لم تستطع أن تغتسل من الحدث الأكبر فاغسل ما استطعت، أو انتقل إلى التيمم, وإذا لم تستطع أن تستر العورة في الصلاة فاستر منها ما استطعت وصل, وإذا لم تستطع أن تؤدي زكاة الفطر عن نفسك وأهلك، فابدأ بنفسك، فإن فضل شيء فبزوجتك ثم ولدك، فلا يترك زكاة الفطر بالكلية، بل يؤدي منها ما استطاع.

وهكذا، فهذه قاعدة عظيمة، معمول بها في الشرع المطهر.

فكثير من الواجبات إذا عجز الإنسان عن شيء منها لا تسقط بالكلية، وإنما ينتقل المكلف إلى مرتبة أدنى، فمن أمر بشيء فعجز عن بعضه ففعل المقدور، فإنه يسقط عنه ما عجز عنه؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وسعها} (البقرة: 286).

ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن كثرة المسائل التي لا يترتب عليها عمل أو حكم شرعي، أو لا يترتب عليها فائدة للسائل , وهذه صفة في كثير من الناس أنه يسأل عن شيء لا ينفعه، وإنما هو إما من باب التطفل، أو إما من باب التدخل في شؤون الآخرين، وقد قال [: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وهو حديث حسن.

فأترك السؤال الذي لا ينفعك واسأل عما ينفعك, والحديث لا ينهى عن السؤال النافع؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43), فما يحتاج إليه المسلم والمسلمة من أمور الدين والفقه فيه, ومعرفة ما أنزل الله تعالى على نبيه [ من الفرائض والأحكام نحن مأمورين بأن نبحث فيه, ونسأل عنه ونقرأ وندرس؛ لأن الله تعالى يقول: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} (ص: 29).

ومن فوائد الحديث: أن فيه إشارة أو تنبيها على أن الإنسان يبدأ بالأهم فالمهم، فإذا أراد أن يتعلم العلوم فيجب عليه أن يقدم الأهم, فيقدم علم العقيدة والتوحيد, ثم معرفة كتاب الله ثم سنة رسول الله [, فإن بقي عنده وقت اشتغل بالنحو والعربية , إن بقي عنده وقت اشتغل بالرد على أهل الأهواء والبدع, لكن لا يعكس مراتب العلوم فيقدم فروض الكفاية على فروض الأعيان؟! فهناك علوم تلزم كل مسلم بعينه، وهناك علوم تجب على العلماء وطلبة العلم والدعاة, فإذا كان عند الإنسان سعة من الوقت والعمر بحث فيها وتعلمها.

والحديث أيضا فيه : ذم المراء والجدال الذي لا طائل من ورائه من باب أولى؛ لأن المراء والجدال لا نفع فيه! فهو مذموم كالسؤال الذي لا نفع فيه.

هذا، والله أسأل أن ينفعنا وإياكم بما قلنا من الحق، وأن يثبتنا عليه حتى نلقاه، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك