رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 1 ديسمبر، 2010 0 تعليق

شرح كتاب « الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (16)

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع  كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

• الباب الثالث: باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف مالا يعنيه وقوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} (المائدة: 101).

• الحديث الأول:

7289 – حدثنا عبد الله بن يزيد المقري: حدثنا سعيد: حدثني عقيل، عن ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه: أن النبي [ قال: « إن أعظم المسلمين جُرماً، مَن سأل عن شيءٍ لم يحرّم، فحُرم من أجل مسألته « [ طرفه في: مسلم: كتاب الفضائل، باب توقيره [ وترك إكثار سؤاله. رقم: 2358 ].

< الشرح:

الباب الثالث من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف مالا يعنيه، وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة:101), أي: هذه الآية على كراهة كثرة السؤال، وورد في ذلك آيات من الكتاب وأحاديث شريفة أخرى تدل على الكراهة – كراهة كثرة السؤال -.

وأيضا: وردت آيات وأحاديث تدل على كراهة تكلف ما لا يعني، واستدل البخاري رحمه الله بهذه الآية الكريمة من سورة المائدة: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (المائدة:101).

فالله سبحانه وتعالى ينهى في أول هذه الأمة عن كثرة السؤال عن أشياء لم تبد لهم، ولم تشرع ولم تبين لهم، ولم يحكم الله سبحانه وتعالى فيها، وليس في الآيات ولا الأحاديث المنع من السؤال عن بيان معنى آية، أو بيان معنى حديث، فهذا غير داخل في معنى الآية، وإنما المقصود السؤال عن النوازل التي لم تقع إلى أن تقع؛ فقد روى البزار والحاكم: من حديث أبي الدرداء ] عن النبي [: «ما أحلّ الله في كتابه فهو حلالٌ، وما حرّم الله فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن ينسى شيئا. ثم تلا الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم: 64)، فما أحله الله لكم في الكتاب فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت الله عنه، فقد سكت عنه رحمة بكم من غير نسيان، فلا تسألوا عنه، وتفتشوا فيه، فإن الله عز وجل لم يكن لينسى شيئا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم: 64).

وورد في حديث أنس ] أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا قد نُهوا أن يسألوا النبي [ شيئا، قال: «كنا نُهينا أن نسأل رسول الله [ عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية، فيسأله ونحن نسمع».

فالصحابة نُهوا عن سؤال النبي [، وكانوا يفرحون أو يعجبون إذا جاء رجل غريب من غير أهل المدينة والمهاجرين، فيسأل النبي [ وهم يسمعون.

وفي حديث ابن عمر ]: «أن الرسول عليه الصلاة والسلام كره المسائل وعابها». والمقصود به: المسائل التي لم تقع بعد، وسبب الحديث أن رجلا جاء إلى النبي [ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن وجد الرجل مع امرأته رجلا أفيقتله فتقتلوه؟ أم كيف يفعل؟». فالنبي عليه الصلاة والسلام كره سؤاله هذا؛ لأن هذا السؤال عن شيء لم يقع بعد! وعاب النبي [ المسائل التي من هذا النوع.

وروى الإمام مسلم: عن النواس بن سمعان ] قال: أقمت مع رسول الله سنةً بالمدينة، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي [، أي: إنه كان في حكم الوافدين إلى المدينة، لكن كان يكره أن يكون مهاجرا خشية أن يمنع من السؤال، فاستمر بهذه الصورة إلى قريب من سنة، خشية أن يصير مهاجرا فيمتنع عليه السؤال.

فهذه الآية منعت الصحابة من السؤال عن النوازل التي لم تقع، ومنعتهم من ابتداء الرسول [ بالسؤال عن الحكم.

فإن قيل: قد ورد في القرآن أسئلة كثيرة كقوله سبحانه {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} (البقرة: 220)، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} (البقرة: 189)، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (البقرة: 219)، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} (البقرة: 215)، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} (البقرة: 222)، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} (البقرة: 217)، وغيرها من الأسئلة التي وردت في القرآن، فكيف يمكن الجمع بين هذا وبين هذه الآيات؟

والجواب: إما أن يكون هذا قبل النهي؛ لأن المائدة من أواخر ما نزل بالمدينة، وإما أن يكون النهي لا يتناول ما يحتاج إليه المكلف من الأحكام الشرعية الواقعة، أو الحاجات الضرورية اليومية، كمسائل اللباس والطعام والشراب، والذبح، وما يتعلق بحياة المسلم ومعاملته مع زوجه وأبويه، وما أشبه ذلك من المسائل التي تقع.

وقد ورد عن الصحابة والتابعين آثار تدل على كراهيتهم لكثرة المسائل التي لم تقع، فورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن. ووردت أيضا آثار أخرى مشابهة.

أما الأمر الآخر الذي نُهينا عن السؤال عنه: فهو السؤال عن الأمور الغيبية التي ورد الشرع بوجوب الإيمان بها وبمعانيها، مع ترك البحث والنظر والسؤال عن كيفياتها، كالسؤال عن وقت الساعة، وأمور الآخرة، وأشراط الساعة، وكالسؤال عن الروح، والسؤال عن عُمر هذه الأمة، وأمثال هذه الأشياء التي لا تعرف إلا بالنقل والسماع، فهذه الأمور يجب الإيمان بها من غير بحث، والبحث فيها يوقع الإنسان في الشك والحيرة، وسيأتي في حديث أبي هريرة مرفوعا إلى النبي [: « لا يزال الناس يتساءلون: من خلق كذا، من خلق كذا؟ حتى يقولوا: من خلق الله؟!». وهذا ناتج من كثرة السؤال عما لا يجوز.

وأيضا مما كرهه السلف: كثرة التفريع، أي: الإكثار من التفريع على المسائل الفقهية، وربما ذكر بعض الفقهاء مسائل لا أصل لها في الكتاب والسنة! بل قد تكون مسائل نادرة الوقوع جدا، والبحث والتفريع في المسائل النادرة الوقوع جدا، هو من تضييع الزمان بلا طائل ولا فائدة، فهذا أيضا ينبغي أن يترك التوسع فيه؛ لما سبق من الآية والحديث.

ولا شك أن كثرة السؤال في هذه الأمور، توقع الإنسان في التنطع والتكلف الذي نهينا عنه.

أما البحث عن معاني كتاب الله سبحانه وتعالى، أو البحث في شرح السنة النبوية ومفرداتها، وأحكامها وفوائدها، فهذا لا يدخل في هذا الباب بلا شك.

وأيضا يمكن أن يقال: إن هذه الآية {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101)، أن هذا في العهد النبوي خاصة دون غيره؛ خشية أن ينزل من الآيات ما يشق على المكلفين امتثاله، فالرسول [ أمر الصحابة بأن يتركوا سؤاله لهذا السبب، وقد مر معنا في الحديث الماضي أنه [ لما قال: « إن الله كتب عليكم الحج فحجوا «، فسأله رجل: «أكلّ عام يا رسول الله؟» ، كان هذا السؤال في الحقيقة نوعا من التكلف، فرسول الله [ قال: « إن الله كتب عليكم الحج فحجوا»؛ ولهذا الرسول [ لم يجب السائل أول مرة، حتى سأل ثلاث مرات، فقال عندها: « دعوني ما تركتكم أو ذروني ما تركتكم» فمنعهم [ من السؤال إلا عن شيء نافع، أما البحث والتنقيب والتنطع فقد نهى الله تعالى عنه عباده، وُنهي عنه الصحابة خصوصا في زمن الوحي؛ خشية أن ينزل عليهم ما يشق عليهم القيام به من الواجبات، أو أن يحرم عليهم شيء من المباحات، كما سيأتي في الحديث الأول في هذا الباب.

< الحديث الأول:

حديث سعد بن أبي وقاص ] القرشي، وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وقال علي ]: ما سمعت النبي [ يجمع أبويه لأحد غير سعد، قال له: « ارمِ فداك أبي وأمي « وذلك يوم أحد. رواه البخاري (6184).

وعامر: هو ابن سعد بن عامر بن سعد من ثقات التابعين، وممن روى عن أبيه وتفقه عليه. وابن شهاب هو الزهري قد مر معنا مرارا، وعقيل كذلك، وسعيد: هو ابن أبي أيوب الخزاعي مولاهم، المصري ثقة ثبت، وعبد الله بن يزيد المكي المقرئ ثقة فاضل، وأحد الحفاظ، ومن مشايخ البخاري.

قوله: عن النبي [ أنه قال: «إن أعظم المسلمين جُرما من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته».

وفي رواية لمسلم: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرما، من سأل عن شيء لم يحرم فحرم»، وهذا الحديث فيه ترهيب من السؤال عن المسائل التي لم تقع، أو السؤال في الأمور التي لم تحرم، فالنبي [ شدد فقال: إن من أعظم المسلمين « وهذا تشديد وتفخيم، وقوله: (جرما) «يدل أيضا على أنه أجرم في حق المسلمين؛ بسبب مبالغته في البحث والاستقصاء، فيحرم على المسلمين الشيء بسببه.

وهذا كما قلنا سابقا: لا يدخل فيه السؤال عما يحتاج إليه من الأحكام التي وردت في القرآن أو السنة، فلو سأل سائل عن كيفية الصلاة والزكاة أو عن أمور من الطهارة، فهذا لا يدخل في هذا الباب، فهذه الأمور لا بد فيها من العلم والتفقه، ولأن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالسؤال عن أحكام الشريعة فقال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل: 43).

وكذا من حصلت عنده نازلة، أو وقعت عنده واقعة لا يعلم حكمها، فسأل عنها فهذا لا شيء عليه، ولا إثم يلحقه؛ لأن السؤال في هذه المسائل وهذه الأمور مطلوب بنص القرآن كما ذكرنا.

أما المنهي عنه: فهو السؤال الذي بسببه يصير الشيء المباح حراما؛ فيضيق بسبب السائل على جميع المسلمين والمكلفين، وهذا كما قلنا خاص بالعهد النبوي، وإلا فالأحكام الآن قد تمت، وأكمل الله سبحانه وتعالى الدين؛ فلا يضاف إليه شيء بعد وفاة النبي [.

وهذا الحديث يستفاد منه فائدة: أن الأصل في الأشياء الإباحة، حتى يرد الشرع بخلاف ذلك.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك