رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 9 يونيو، 2010 0 تعليق

شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (40) إثم من دعا إلى ضلالة

 

 
 إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

 

 

الباب الخامس عشر:

 

 

15 – باب إثم مَن دعا إلى ضلالة , وسنّ سنة سيئة؛ لقول الله تعالى: {ومن أوزار الذين يضلونهم} (النحل: 25).

 

 

7321 – حدثنا الحميدي: حدثنا سفيان: حدثنا الأعمش, عن عبدالله بن مرة, عن مسروق, عن عبدالله قال: قال النبي[: «ليس من نفسٍ تقتل ظلما, إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها – وربما قال سفيان: من دمها - لأنه أولُ من سنّ القتل أولا».

 

 

طرفه في: 3335 .

 

 

الشرح :

 

 

الباب الخامس عشر هو: باب إثم من دعا إلى ضلالة, وسن سنة سيئة؛ لقول الله تعالى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (النحل: 25).

 

 

ترجم البخاري - رحمه الله - لهذا الباب بحديثين ليسا على شرطه, واكتفى بما يؤدي معنى الحديثين, وهما حديثان أخرجهما صاحبه وتلميذه الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري .

 

 

فأما حديث: «من دعا إلى ضلالة» فأخرجه الإمام مسلم عن العلاء بن عبدالرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال [: «منَ دعا إلى هدى كان له من الأجر، مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا, ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».

 

 

وأما حديث: «من سن سنة سيئة» فأخرجه الإمام مسلم من رواية عبدالرحمن بن هلال عن جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه - قال: قال[: «من سنّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا, ومن سن في الإسلام سنة سيئةً، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا».

 

 

فهذا الباب في معنى هذين الحديثين العظيمين، ويبين أن من دعا إلى هدى جاء به النبي [, وأحياه وذكر به الناس, وعلم به الجاهل، فإن له أجر من استجاب له وعمل به، من غير أن ينقص من أجره شيئا وذلك إلى يوم القيامة, وإذا دعا إلى ضلالة, إذا ابتدع ضلالة أو ابتدع بدعة فعليه وزرها، ووز من عمل بها بعده، لا ينقص ذلك من وزره شيئا، والعياذ بالله .

 

 

وقوله [: «من سن في الإسلام سنة حسنة» يعني: أحيا سنة نبوية ميتة؛ فإن السنن تموت وتحيا, تموت بظهور البدع والمحدثات، وتحيا السنن بموتها, كما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: «ما أحييت بدعة إلا وأميتت سنة»، فإحياء البدع معناه موت السنن, وهذه نتيجة طبيعية؛ وذلك أن للإنسان طاقة محصورة، وعمرا ووقتا محدودا, فإذا اشتغل بالبدع والمحدثات لم يبق له وقت, ولا جهد, ولا قصد, ولا همة لإحياء السن والاشتغال بها؛ لأنه قد اشتغل بضدها, وهكذا إذا اشتغل المسلم بالسنن, وملأ حياته بالاقتداء بسيد الخلق [, لم يبق عنده وقت للالتفات إلى المحدثات والبدع, أو إلى العادات السخيفة والطرائق التي تخالف طريقة نبينا عليه الصلاة والسلام.

 

 

ويدخل في إحياء السنن: العمل بكل ما أمر الله تعالى به, وما أمر به رسوله [؛ لأن سبب هذا الحديث أن الرسول [ دعا الناس إلى البذل والنفقة في سبيل الله؛ لمجيء قوم عراة أو لا يلبسون إلا ما يكاد يستر عوراتهم، فدعا الناس للإنفاق, فقام رجل بُصرة قد عجزت كفه عن حملها, وجاء آخر بثياب, وجاء آخر بطعام, حتى توافر لدى النبي [ كوم من طعام وكوم من ثياب؛ فتهلل وجهه عليه الصلاة والسلام, وقال هذا الحديث: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا».

 

 

وأما الآية في الباب: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (النحل: 25), أي: إن من أضل إنسانا عن سبيل الحق، ودعاه إلى الباطل، وقلده في قوله وعمله بجهل، فإنه يحمل وزره، ووزر من أضله إلى يوم القيامة على ظهره في المحشر.

 

 

وكذا من حمل أحدا على ارتكاب معصية, ومن زين لإنسان معصية ووقع فيها فعليه وزرها, فإنه يحمل ذنبه وذنب من أضله؛ ولهذا قال مجاهد إنهم يحملون ذنوب أنفسهم, وذنوب من أطاعوهم، يعني من زينوا لهم البدعة أو زينوا لهم المعصية فأطاعوهم, ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم شيئا؛ لأن من أطاع غيره في ارتكاب معصية فهو مسؤول عن نفسه, ومسؤول عن معصيته لكن من أمره بالمعصية فأطاعه يكون ذنبه مضاعفا .

 

 

واستدل البخاري بحديث ابن مسعود الذي ساقه من طريق شيخه الحميدي, والحميدي هو عبدالله بن الزبير , وهو أحد الحفاظ وصاحب المسند المعروف باسمه اليوم, وهو مطبوع في مجلدين باسم (مسند الحميدي)، قال: حدثنا سفيان, وهو شيخه سفيان بن عيينة الهلالي أبو محمد، قال: حدثنا الأعمش, وهو سليمان بن مهران كما مر معنا, عن عبدالله بن مرة وهو الهمداني تابعي ثقة.

 

 

عن مسروق وهو ابن الأجدع الهمداني، أبوعائشة الكوفي، ثقة فقيه مخضرم، وأحد أصحاب عبدالله بن مسعود، عن ابن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه - قال: قال النبي [: «ليس من نفس تقتل ظلماً، إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها أو كفل منها؛ لأنه سن القتل أولا».

 

 

وابن آدم الأول هو الذي قص الله سبحانه وتعالى علينا قصته في سورة المائدة في قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة: 27 - 28) .

 

 

وحاصل القصة: أن أحد الرجلين اختلف مع أخيه في شيء، قيل: في زواجه من أخته التي معه بنفس البطن, وقيل: غير ذلك، فأمرهما أبوهما آدم عليه السلام أن يقربا قربانا، فمن تقبل قربانه فهو على الحق والصواب, والذي لا يتقبل قربانه فهو على الباطل والخطأ، فتقبل الله تبارك وتعالى قربان أحدهما, وذلك بنار تنزل من السماء فتأكل القربان؛ فعند ذلك اغتاظ الآخر وقال: لأقتلنك, فذكّره بالله تعالى، وأن هذا الفعل عدوان وظلم وحرام، وأخبره أنه لو أراد قتله فإنه لن يقتله, ولن يدافع عن نفسه, فقام أخوه, ويقال في التفسير أنه هابيل, قام على أخيه بصخرة عظيمة فشدق بها رأس أخيه قابيل وهو نائم.

 

 

فالنبي [ يذكر في هذا الحديث أنه لا تقتل نفس في الأرض ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل, والكفل: هو الحظ والنصيب, كما في قوله تعالى: {ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها} (النساء: 87).

 

 

والمعنى: إلا كان على ابن آدم الأول نصيب من وزرها , وكفل من إثمها ودمها، لماذا؟ لأنه كان أول من سن وابتدأ القتل.

 

 

 فأول من أظهر هذه الجريمة في الأرض وهي القتل، هو هابيل، فاتبعه من تبعه من فجرة بني آدم في قتل النفوس ظلما, وتجاوز لحدود الله والوقوع في حرماته, والدعوة إلى هذا الفعل.

 

 

وهذا الباب في التحذير من الضلال, واجتناب البدع ومحدثات الأمور, والنهي عن مخالفة سبيل المؤمنين, وقد قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 115).

 

 

 وهذا الباب: فيه التحذير من الآثام التي تلحق المرء ولو بعد موته، فتكون من السيئات الجارية والعياذ بالله، من عمل بمعصية فاشتهرت عنه, وعمل بها الخلق من بعده؛ لأنه الأصل في إحداثها أو الدعوة إليها, ويدخل في ذلك في زماننا ما يكتبه وينشره أصحاب الكتب المنحرفة, والمناهج الهدامة, والبدع المضلة، الداعية للبدع والشركيات، وأصحاب المجلات الساقطة التي فيها الصور العارية الخليعة, وأصحاب إنتاج أشرطة (الفيديو كلب), والأفلام الخبيثة, وأشرطة المعازف والغناء، وكذا المغنون والمغنيات, والممثلون والممثلات, ومن على شاكلتهم من أصحاب الدعوات الباطلة والمنكرة، كلهم داخلون في هذا الباب والعياذ بالله تعالى؛ لأنهم دعاة إلى الشر, يدعون الناس إلى البدع والضلالات، أو الفسوق والفجور والعصيان, ويزينون للخلق كافة مخالفة ربهم, وعصيان رسوله [, فتكون لهم هذه الأعمال، سيئات جارية مستمرة حتى بعد خروجهم من الدنيا.

 

 

نحن سمعنا عن الصدقات الجارية ، كأن تحفر بئرا، أو تورث مصحفا، أو تبني مسجدا، أو تبني بيتا لابن السبيل أو لليتيم أو للأرملة، أو ما أشبه ذلك من الأوقاف الخيرية التي هي صدقات جارية لك بعد مماتك, لكن هل سمعنا عن السيئات الجارية؟! إنها التي يدعو فيها الإنسان الخلق إلى معصية الله, وارتكاب حرماته فتكتب وتسجل عليه، ثم كل من قلده فيها ووافقه وسار على نهجه كتب له من أوزارهم على ظهره كما قال الله عز وجل: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (النحل: 25).

 

 

فوالله العظيم، لو علم هؤلاء الدعاة إلى الضلال والشر والباطل, ماذا عليهم من الإثم لكفوا وانتهوا عن ذلك!

 

 

لو أنهم حكموا عقولهم، ونظروا بعين البصيرة ماذا يكون عليهم من الآثام في إضلالهم لخلق الله سبحانه وتعالى, ودعوتهم إلى الشر والمنكر والباطل , لكفوا عن ذلك وابتعدوا، واكتفوا على الأقل بسيئات أنفسهم.

وانظروا اليوم إلى السبل الكثيرة التي يراها المسلمون, والطرائق الخبيثة التي تعرض عليهم صباح مساء في الفضائيات, وفي الجرائد والمجلات، والأسواق وغيرها, حتى المسلم - أو المسلمة - إذا خرج على الناس وقد صنع بنفسه شيئا منكرا فقلده عليه غيره من خلق الله، فإنه يكون داعية إلى ذلك الشر, ويكون داخلا في قول الرسول [: «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه, لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك