رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 23 يونيو، 2010 0 تعليق

-شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (42)-الإجماع وعمل أهل المدينة (2)

 

  إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع  كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الحديث الثاني:

7323 – حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا عبدالواحد: حدثنا معمر, عن الزهري, عن عبيدالله بن عبدالله قال: حدثني بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت أقرئ عبدالرحمن بن عوف، فلما كان آخر حجةٍ حجها عمر، فقال عبدالرحمن بمنى: لو شهدت أمير المؤمنين، أتاه رجل قال: إن فلانا يقول: لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانا, فقال عمر: لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم.

قلت: لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس, يغلبون على مجلسك, فأخاف ألا ينزلوها على وجهها, فيطير بها كل مطير, فأمهل حتى تقدم المدينة دارَ الهجرة ودار السنة, فتخلُص بأصحاب رسول الله [ من المهاجرين والأنصار, فيحفظوا مقالتك وينزّلوها على وجهها، فقال: والله لأقومن به في أول مقام أقومه بالمدينة.

قال ابن عباس: فقدمنا المدينة، فقال: إن الله بعث محمدا [ بالحق, وأنزل عليه الكتاب, فكان فيما أُنزل آية الرجم. (طرفه في: 2462).

 الشرح:

الحديث الثاني في هذا الباب حديث ابن عباس عن عبدالرحمن بن عوف, والغرض منه هنا كما قال الحافظ ابن حجر: ما يتعلق بوصف المدينة بدار الهجرة، ودار السنة، ومأوى المهاجرين والأنصار.

وفي الحديث لما سمع عمر ] قول بعض الناس: لو مات أمير المؤمنين عمر لبايعنا فلانا وفلانا؟! فغضب عمر من هذه المقالة التي لا تستند إلى علم ولا دليل, ولا إلى رأي لمن جعله الله تعالى أهلا للحل والعقد, فأراد عمر ] أن يقوم فيخطب في أهل الموسم ممن حضر الحج في تلك السنة, وأن يحذرهم من هذه الأقاويل الفاسدة؛ لأن هذا الأمر ليس لكل أحد أن يبت فيه، أو أن يتكلم فيه أو أن يحكم فيه.

 فقال له عبدالرحمن بن عوف: لا تفعل فإن موسم الحج يجمع رعاع الناس، وهم العوام من الناس، أو من لا رأي له, فقال له: أخاف ألا ينزلوا كلامك على غير وجهه، فيحصل به شر وفتنة، ويطير بها كل مطير.

قوله: «فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة، فتخلص بأصحاب رسول الله [ من المهاجرين والأنصار»، وهذا موقع الشاهد للترجمة من هذا الحديث وهو قول عبدالرحمن بن عوف: «أمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة», فوصف المدينة بأنها دار الهجرة ودار السنة, وأن فيها أصحاب رسول الله [ من المهاجرين والأنصار الذين يفهمون مقالتك، وينزلونها على وجهها.

 فدل هذا الحديث على تفضيل المدينة ووصفها بأنها دار الهجرة, وهي كذلك؛ فإنها مهاجر النبي [ ومأواه, وبها المهاجرون والأنصار, ومر معنا في الحديث الماضي قول من قال بحجية إجماع أهل المدينة، لكثرة من كان بها من أصحاب رسول الله [, وأقوى منه قول من قال بحجية إجماع الصحابة؛ وذلك لأن الصحابة شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل، وعاصروا الرسول [ وسمعوا الحديث.

ولا شك أن إجماع الصحابة أقوى من إجماع أهل المدينة، والراجح كما ذكرنا في الحديث الماضي أن إجماع أهل المدينة، القول به أقوى من القول بغيره، ما لم يخالف نصا مرفوعا إلى الرسول [, وما ذاك إلا لفضل أهل المدينة، وقربهم من العلم, ولكون المدينة كانت دار السنة ودار الهجرة .

الحديث لثالث: قال البخاري رحمه الله:

7324 – حدثنا سليمان بن حرب: حدثنا حمادٌ, عن أيوب, عن محمد قال: كنا عند أبي هريرة, وعليه ثوبان ممشقان من كتان, فتمخط، فقال: «بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان, لقد رأيتني وإني لأخرّ فيما بين منبر رسول الله [ إلى حجرة عائشة مغشيا عليّ, فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي, وُيرَى أني مجنون, وما بي من جنون, ما بي إلا الجوع».

 الشرح:

الحديث الثالث في هذا الباب حديث أبي هريرة رضي الله عنه, يرويه البخاري عن شيخه سليمان بن حرب عن حماد, وهو زيد بن درهم أحد الحمادين ومن الثقات الأثبات, عن أيوب هو ابن أبي تميمة السختياني, قال: عن محمد, وهو ابن سيرين الإمام المشهور التابعي الثقة, واشتهر بتأويل الرؤى والأحلام, وله كتاب مشهور في الأسواق وفيه بعض الأشياء الغريبة التي تدل غرابتها على أنها زيدت في الكتاب, وبعض أهل العلم يقول: إن هذا الكتاب مدسوس على ابن سيرين! لكن الذي يظهر والله أعلم أن ابن سيرين كان له اشتغال بالرؤى كثيرا، وقد فسرت وأول وكتبت, لكن جاء بعض الناس وزاد على هذا الكتاب أشياء، لأن الكتاب قديم, وله نسخ مخطوطة كثيرة.

قال: «كنا عند أبي هريرة ] وأرضاه وعليه ثوبان ممشقان» ممشقان يعني: مصبوغان بالمشق, والمشق هو الطين الأحمر.

 قوله: «من كتان»: وهو نبات معروف تصنع منه الثياب.

قوله: «فتمخط فقال: بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان» وهذا بعد النبي [, وبعد أن حصل الرخاء, كثرت الأموال وفتحت, وبسطت الدنيا على الصحابة رضي الله عنهم بعد الضيق والشدة التي كانوا بها.

قوله: «فقال: بخ بخ» هذه الكلمة تقال للتعجب, وتقال أيضا للفرح، وفيها لغات.

قوله: «لقد رأيتني» هو يحكي حاله من قبل في زمن النبي [، حيث الحاجة والفقر هي الغالبة على حال الصحابة رضوان الله عليهم.

قوله: «وإني لأخرَّ فيما بين منبر رسول الله [ إلى حجرة عائشة مغشيا علي» أي: وهو مكان القبر الشريف الآن.

قوله: «فيجيء الجائي» أي: فيأتي الرجل من الناس» فيضع رجله على عنقي, ويرى أني مجنون «يعني: يظن أني مجنون ولهذا أصرع, وما بي من جنون, ما بي إلا الجوع»، فهو - رضي الله عنه وأرضاه - من شدة الجوع كان يخر مغشيا عليه، حتى يظن بعض الناس الذين يرونه مغشيا عليه، أن به صرعا من الجنون، فيضع رجله عليه, وما كان به من جنون, وإنما سبب وقوعه مغشيا عليه هو الجوع الشديد.

وهذا فيه بيان ما كان عليه أبو هريرة ] خاصة من الصبر على الجوع الشديد وقلة الطعام, والفقر والشدة من أجل ملازمة النبي [ في طلب العلم الشرعي, والحرص على مجالسة النبي [، وسماع الحديث النبوي منه، أي: إنه ترك السعي وراء الدنيا, والمعاش حرصا على ملازمة رسول الله [ وسماع أقواله كلها، فجوزي على ذلك بما انفرد به من كثرة الحديث عن رسول الله [، ونقله لأحاديثه حتى صار أكثر الصحابة حفظا, وهو راوية الإسلام بحق؛ فالمنقول عن أبي هريرة في الكتب الستة وغيرها يفوق الخمسة آلاف حديث، في حين أن أكثر الصحابة حديثا كأنس وابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم، لا يزيد حديثه على ألفين وكسر من الأحاديث.

ولهذا كثرت الطعون على هذا الصحابي الجليل من أعداء الإسلام والحاسدين، وكثر الكلام على ما نقله من الحديث النبوي الشريف, ووجهوا الاتهام له بالكذب, وهو ] وأرضاه بعيد عن ذلك كله, فأعداء الإسلام قديما وحديثا خاضوا في عرض هذا الصحابي الجليل، واتهموه بافتراء الكذب على النبي [؛ من أجل أن يسقطوا السنة النبوية وأحكامها, ومعلوم أن الطعن في الصحابة طريق الزنادقة والملاحدة، كما قال أبو زُرعة الرازي رحمه الله: هم يريدون أن يجرحوا شهودنا, والجرح بهم أولى، وهم زنادقة، وإنما نقل لنا الإسلام والسنة النبوية الصحابة.

يعني: إذا جرحوا الصحابة سقطت شهادتهم، وبذلك تسقط أحكام الإسلام التي نقلوها، وتندثر السنن، ويضيع الدين, وهذا هو مقصود الزنادقة والمنافقين قديما وحديثا, وفي هذا العصر أيضا كثرت المؤلفات والكتب من المؤلفين الحاقدين والمندسين بين أهل الإسلام وغيرهم من أهل الفرق المنحرفة، والطاعنين على أصحاب رسول الله [ وحملة الآثار والأحاديث؛ لصد الناس عن سبيل الله والاستقامة على دينه.

والمقصود من هذا الحديث: أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه لما صبر على الشدة والجوع وشظف العيش بالمدينة النبوية، جازاه الله تعالى بما انفرد به من كثرة الحديث المحفوظ عنه [ ونشره بين الناس.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك