رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 6 ديسمبر، 2010 0 تعليق

شرح كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (61)-الاجتهاد والقياس والمجمل (2)

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع  كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الحديث الثالث:

7358 – حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن أم حفيد بنت الحارث بن حزن  أهدت إلى النبي[ سمنا وأقطا وأضبًا. فدعا بهن النبي[، فأكلن على مائدته، فتركهن النبي[ كالمتقذّر لهن، ولو كنّ حراما ما أكلن على مائدته ، ولا أمر بأكلهن. (طرفه في: 2575).

الشرح : الحديث الثالث الذي جاء في هذا الباب، باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها.

يرويه البخاري -رحمه الله- من طريق شيخه موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو عوانة، وهو الوضاح بن عبدالله اليشكري ثقة ثبت، يرويه عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية وهو ابن إياس اليشكري، وهو ثقة من أثبت الناس في سعيد بن جبير، قال: عن سعيد بن جبير، وهو من تلامذة ابن عباس المشهورين والمكثرين عنه. أن أم حفيد واسمها: هزيلة بنت الحارث بن حزن الهلالية، وهي أخت ميمونة بنت الحارث الهلالية أم المؤمنين زوج النبي[، وهي خالة ابن عباس، وخالة خالد بن الوليد رضي الله عنهم.

 قوله: «أهدت أم حفيد إلى النبي] سمنا» السمن وهو معروف وهو الدهن، وأقطا، والأقط: هو اللبن المجفف، وأضبا جمع ضب، وهو الحيوان المعروف لدى أهل البوادي.

قوله: «فدعا بهن النبي[ فأكلن على مائدته» أي: أكلت هذه الأطعمة على مائدة النبي[ ولم ينه عنها . قوله: «فتركهن النبي[ كالمتقذر لهن» أي: هو استقذر أكل الضب وكرهه لأنه لم يعتد على ذلك. قوله: «ولو كن حراما ما أكلن على مائدته ولا أمر بأكلهن» وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما.

فهذا الحديث فيه استدلال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه بفعل النبي[ وإقراره، فالنبي[ دعا بالطعام، فجيء له بهذا الطعام المشتمل على السمن والأقط والضب أو الأضب، فأكل من السمن والأقط، وترك الأضب وأكلت الأضب على مائدته وأمامه، لكن النبي[ ترك أكلها تقذرا، يعني: أن نفسه تقذرت الضب، ولم تستسغ أكله.

وسأله خالد بن الوليد كما في الحديث الصحيح في البخاري ( 9/663): أحرام هو يا رسول الله؟ قال: «لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه - يعني: نفسي تعافه لا تقبله» – قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله[ ينظر.

 فالضب  لم يكن بأرض مكة وما حولها؛ لأنه يشتهر ببلاد نجد، وتشتهر نجد بأكله. فاستدل ابن عباس بإقرار النبي[ لخالد على إباحة الضب، وقال: لو كن حراما ما أكلن على مائدته، يعني: النبي[ لا يسكت على محرم، وهذا من الاستدلال بالفعل أو التقرير على إباحة الشيء. وقد بينا أن أقوال النبي[ وأفعاله وتقريراته هي حجة في دين الله عز وجل.

الحديث الرابع:

7359 -  حدثنا أحمد بن صالح: حدثنا ابن وهب: أخبرني يونس ، عن ابن شهاب: أخبرني عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبدالله قال: قال النبي[: «من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته». وإنه أتي ببدر، قال ابن وهب: يعني طبقا، فيه خضروات من بقول، فوجد لها ريحا، فسأل عنها فخَبُر بما فيها من البقول، فقال: «قربوها»، فقربوها إلى بعض أصحابه كان معه ، فلما رآه كره أكلها قال: «كل فإني أناجي من لا تناجي».

وقال ابن عفير عن ابن وهب: بقدر فيه خضراوات، ولم يذكر الليث وأبو صفوان، عن يونس، قصة القدر، فلا أدري هو من قول الزهري أو في الحديث. (طرفه في: 854).

الشرح: الحديث الرابع: حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما يرويه البخاري من طريق شيخه أحمد بن صالح المصري الثقة المشهور، عن ابن وهب وهو عبدالله بن وهب المصري، قال: أخبرنا يونس، عن بن شهاب، وقد مضيا، أخبرنا عطاء بن أبي رباح الإمام الثقة المفسر الشهير يرويه عن جابر رضي الله عنه.

قوله: قال النبي[: «من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته». وهذا الحديث: فيه النهي عن أكل البصل وأكل الثوم ثم إتيان المساجد؛ لأن لها رائحة منفرة مؤذية للمصلين وللملائكة، كما جاء في الحديث، فنهى النبي[ آكل الثوم والبصل أن يأتي المسجد، وليس هذا من باب الرخصة لآكل البصل والثوم أن يصلي ببيته كما يفهم بعض الناس، وإنما هو من باب الزجر والطرد، فالنبي[ لم يرخص لمن أراد أن يتخلف عن الجماعة أن يأكل الثوم والبصل؟! لأن الجماعة في المساجد واجبة على الرجل البالغ العاقل المقيم الصحيح، الذي لا علة فيه؛ فلا يجوز أن يترك إتيان المساجد في الصلوات الخمس ، وإنما منع من كان فيه إيذاء للمؤمنين وعباد الله أن يأتي المسجد إذا كانت به رائحة خبيثة منفرة.

وأخبر[: أن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم، قوله: «وأنه أتي ببدر» جاء في التفسير عن الراوي - وهو ابن وهب - على هيئة البدر. يعني الطبق على هيئة القمر ليلة البدر في الاستدارة.

قوله: «فيه خضراوات من بقول، فوجد لها ريحا فسأل عنها فأخبر بما فيها من البقول، فقال: «قربوها». فقربوها إلى بعض أصحابه كان معه، فلما رآه كره أكلها، أي : كره أبو أيوب أكلها، متأسيا في ذلك برسول الله[، كما قال الله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} فعموم الآية يدل على مشروعية متابعته في جميع أفعاله، فلما امتنع من أكلها ، كره أبو أيوب أكلها وأعرض عنها.

 فقال له رسول الله[ لما رآه كره أكلها: «كُلْ»، يعني: كل من هذا الطبق، ومن هذه البقول لأنها ليست حراما.

قوله: «فإني أناجي من لا تناجي».

وفي لفظ للبخاري: «إني أخاف أن أوذي صاحبي».

 وعند ابن خزيمة «إني أستحيي من ملائكة الله وليس بمحرم».

فهذا الحديث فيه دلالة على جواز أكل الثوم والبصل لعامة الناس، أما النبي[ فكونه كان يناجي جبريل ويتكلم معه فيكره أن يؤذيه برائحة البصل والثوم، ولا يلزم هذا في غير حقه من البشر، بل قال ابن بطال: إن قول النبي[: «كلوه» أو قال: «قربوه», دليل على جواز الأكل.

وقال بعضهم: فيه استحباب أكل البصل والثوم في غير أوقات الصلاة لقوله: «كلوه»؛ لأنه نوع من الحث على أكله، وقد أثبت العلم الحديث والطب المعاصر فوائد جمة للبصل والثوم في دفع الأمراض، ومحاربة الجراثيم، وتخفيض الضغط الدموي، وغيرها من الفوائد، وكذا ما ذكره الإمام ابن القيم في كتابه «الطب النبوي» من فوائد.

وإنما كره الشرع أكلها وقت الصلاة لمناجاة الله سبحانه وتعالى، أو لمنافاته لأخذ الزينة المطلوبة عند ارتياد المساجد، وخشية أذية الناس.

الحديث الخامس:

736 – حدثني عبيد الله بن سعد بن إبراهيم: حدثني أبي وعمي قالا: حدثنا أبي، عن أبيه، أخبرني محمد بن جبير: أن أباه جبير بن مطعم أخبره: أن امرأة من الأنصار أتت رسول الله [ فكلمته في شيء، فأمرها بأمر، فقالت: أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك؟ قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر». زاد الحميدي، عن إبراهيم بن سعد: «كأنها تعني الموت».

الشرح: الحديث الخامس: قال البخاري: حدثني عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، وهو ابن عبدالرحمن بن عوف الزهري، قاضي أصبهان، ثقة. قال: حدثني أبي وعمي، أبوه ثقة، واسم عمه: يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثقة فاضل. قال حدثنا أبي وهو إبراهيم بن سعد المدني ثقة حجة تُكُلم فيه بلا قادح. عن أبيه: وهو سعد بن إبراهيم الزهري ثقة فاضل عابد. أخبرني محمد بن جبير وهو ابن مطعم النوفلي، ثقة عارف بالنسب. أن أباه جبير بن مطعم وهو صحابي معروف،أخبره أن امرأة من الأنصار أتت رسول الله [ فكلمته في شيء» لم تسم هذه المرأة.

قوله: « فأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر، فقالت المرأة أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك؟ قال: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر» زاد الحميدي عن إبراهيم بن سعد: كأنها تعني الموت.

هذه المرأة جاءت إلى الرسول [ فأمرها بأمر، وفي رواية - كما في كتاب المناقب لأبي بكر الصديق – «أن تأتيه من قابل» أي: إنه وعدها أن تأتيه من قابل، أي في السنة القادمة.

قوله: «فقالت: يا رسول الله: أرأيت إن لم أجدك? كأنها تعني الموت « ولم تنطق به، ولأن هذا اللفظ عام، فيحتمل الموت ويحتمل الغياب وعدم الحضور، يعني ربما يكون مؤقتا وربما يكون أعم من ذلك; لأنها قالت: إن لم أجدك؟ والرسول عليه الصلاة والسلام أجابها جوابا مطابقا لذلك العموم فقال لها « إن لم تجديني، فأتي أبا بكر».

أي: ليقضي لك حاجتك، أو يقوم بما تريدين من حوائج.

وقد استدل بهذا على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لكن بطريق الإشارة لا بطريق التصريح، لكن هو قريب من التصريح.

 وقد وقع التصريح بخلافة أبي بكر الصديق في أحاديث: منها قوله [ لعائشة رضي الله عنها: « ادعي لي أباك وأخاك، فإني أريد أن أكتب كتابا، فإني أخشى أن يقول قائل، ويتمنى متمن ويأبى الله والمؤمنون إلا ابا بكر» رواه البخاري وغيره.

ومنها قوله [: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» متفق عليه. فمن رضيه لنا رسول الله [ للإمامة في ديننا، أفلا نرضاه للإمامة في دنيانا؟!

 فهذا الحديث: فيه الدليل الواضح على أن الخليفة بعد رسول الله [ هو أبو بكر رضي الله عنه.

 ومناسبة هذا الحديث الأخير في هذا الباب: أنه يستدل على خلافة أبي بكر الصديق بالدلائل والمعاني الواضحة من النصوص النبوية الشريفة، كما يستدل بالنصوص الصريحة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك