رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 13 يوليو، 2010 0 تعليق

-شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (45)-الإجماع وعمل أهل المدينة (5)

 إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع  كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الحديث الحادي عشر:

قال البخاري رحمه الله:

7332 – حدثنا إبراهيم بن المنذر: حدثنا أبو ضمرة: حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع عن ابن عمر: أن اليهود جاءوا إلى النبي [ برجل وامرأة زنيا؛ فأمر بهما فرُجما، قريبا من حيث توضع الجنائز عند المسجد. (طرفه في: 1329).

الشرح:

الحديث الحادي عشر روى فيه البخاري رحمه الله تعالى عن شيخه إبراهيم بن المنذر وهو ابن عبدالله الأسدي الحزامي، صدوق تكلم فيه الإمام لأجل القرآن، عن أبي ضمرة وهو أنس بن عياض المدني ثقة، عن موسى بن عقبة وهو ابن أبي عياش الأسدى، ثقة فقيه إمام في المغازي، وهو صاحب كتاب (المغازي)، ووجد منه أجزاء مخطوطة كمغازي الإمام ابن إسحاق.

قال: عن نافع وهو أبو عبدالله المدني، مولى ابن عمر ثقة ثبت فقيه مشهور. قال: عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاءوا إلى النبي [ برجل وامرأة زنيا؛ فأمر بهما فرجما قريبا حيث توضع الجنائز عند المسجد.

في هذا الحديث إثبات حدّ الرجم بسنة رسول الله [ الفعلية، والرجم فريضة أنزلها الله تبارك وتعالى في آية من كتابه من سورة الأحزاب، وهي قوله «والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجمهما ألبته نكالا من الله والله عزيز حكيم» ثم نسخت تلاوة هذه الآية، وبقي حكمها، وقد أورد الإمام البخاري رحمه الله هذا الحديث للتدليل على أن الرجم ذكر في القرآن في آية، ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها، وخطب عمر ابن الخطاب ]، وهو المحدَّث الملهم فقال: إن الرجم في كتاب الله تعالى حق، نزلت آية الرجم فقرأناها ووعيناها، فيوشك أن يضل قومٌ بترك فريضة أنزلها الله تبارك وتعالى في كتابه، فيقولوا: لا نجد الرجم في كتاب الله! وقد رجم رسول الله [ ورجمنا بعده.

فإذاً الرسول [ قد رجم، ورجم الخلفاء من بعده.

ومن الأدلة من السنة على وقوع الرجم هذا الحديث؛ إذ رجم رسول الله [ الزانيين من اليهود، وأيضا جاء في (صحيح مسلم): عن عبادة بن صامت أن النبي [ قال: « خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهم سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».

وثبت في (صحيح مسلم) أيضا: عن علي رضي الله عنه: أنه لما زنت شُراحة، وكانت محصنة جلدها مائة جلدة ورجمها في اليوم التالي، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله [.

فالرجم إذاً ثابت في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، وهذه الحادثة أيضا التي حدثت في عهد النبي [، هي من الأدلة على ثبوت الرجم لمن أحصن، والمحصن: هو من ثبت له الدخول بزوجة بعقد صحيح، فإن وقع في الزنى بعد ذلك، فصاحبه مستحق للرجم حتى يموت.

واليهود لما حصلت عندهم هذه الحادثة، جاءوا إلى النبي [ يتحاكمون إليه، وكانوا يظنون أنه سيخفف عنهم أو يغير لهم حكم الله تعالى، لكن الرسول [ أمر بالزانيين المحصنين أن يرجما، وكان ذلك في مصلى الجنائز الذي اعتاد [ أن يصلي فيه على الجنائز، قريبا من مسجده [.  فالحديث هنا لإثبات هذه السنة العملية عنه [، وفيه رد كما قلنا على أهل الأهواء والفرق الضالة من الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا هذه الفريضة.

الحديث الثاني عشر:

قال البخاري:

7333 – حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن عمرو مولى المطلب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله [ طلع له أحد، فقال: « هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها». تابعه سهل عن النبي [ في أحد. (طرفه في: 371).

الشرح:

الحديث الثاني عشر يقول فيه البخاري: حدثني إسماعيل، وهو ابن أبي أويس، حدثني مالك، وهو الإمام المشهور، عن عمرو مولى المطلب وهو ابن حنطب عن أنس، الصحابي الجليل المشهور أن رسول الله [ طلع إلى أحد فقال: «هذا جبل يحبنا ونحبه». وهذا قاله عند رجوعه [ من إحدى الغزوات، ويمكن أن يكون عند رجوعه من الحج [، بدا له جبل أحد، وهو جبل كبير بالمدينة طوله ما يقرب من ثمانية كيلو مترات، وارتفاعه حوالي خمسمائة متر.

وقال [: «جبل يحبنا» فأثبت المحبة للجبل، وهذا كما قال كثير من أهل العلم إن الجمادات جعل الله تبارك وتعالى لها شيئا أو نوعا من الإدراك بأمره سبحانه وتعالى، كما حصل أنين الجذع بمسجده لرسول الله [، وهو جذع نخلة قد قطع ويبس ووضع بالمسجد، ومع ذلك حصل له حنين وصوت كصوت ولد الناقة إذا صاح.

ومثله أيضا تسليم الحجر عليه [. وذكر أيضا الإمام الحافظ ابن كثير شيئا من الكلام عن هذه المسألة عند قوله تبارك وتعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} (الكهف: 77). فالله سبحانه وتعالى يقول عن الجدار: {يريد أن ينقض} وهذا بأمره سبحانه وتعالى، فنسب للجدار شيئا من الإرادة.

فجبل أحد من معالم المدينة النبوية، وقال عنه [: « يحبنا ونحبه « أي: نبادله المحبة، وعند جبل الرماة بجبل أحد، حصلت غزوة أحد الشهيرة المذكورة في سورة آل عمران.

وقوله [: « اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها » فنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حرم مكة، بمعنى: بين للخلق تحريم مكة وأبلغهم ذلك، وإلا فمكة حرمها الله سبحانه وتعالى يوم خلق السموات والأرض، كما قال [: « إن مكة حرمها الله يوم خلق السموات والأرض، ولم يحرمها الناس « فيجمع بين هذا الحديث، وبين قوله [ هاهنا: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة» يعني أن إبراهيم عليه السلام أظهر للناس تحريم مكة، وأبان لهم أن الله عز وجل جعل هذا البلد حراما، ومعنى كونه حراما جاء بيانه وتفصيله في أحاديث أخر، وهو: «أنه لا يصاد صيده، ولا ينفر، ولا يقطع شجره» فالبلد الحرام الأول هو مكة.

والبلد الثاني الذي حرم على لسان نبينا محمد [، هو المدينة، فهي بلد حرام، لا يصاد صيده، ولا ينفر، يعني: لا يذعر ويطرد عن وكره، أو يجرى خلفه؛ فلا يجوز أن يصطاد المسلم فيه لا طيرا ولا أرنبا ولا غزالا.

وروى البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «والله لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها، سمعت رسول الله [ يقول: «إنها حرام إنها حرام ، أو إنه حرم ما بين لابتيها».

فمعنى كون البلد حراما أنه لا يصاد صيده، ولا ينفر أو يذعر.

أما إذا صيد خارج المدينة ثم جيء به إلى داخل المدينة فلا بأس، واستدل لذلك بحديث أن الرسول [ لما رأى طائرا صغيرا يلعب به أخ صغير لأنس قال له: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ «  وهو طائر صغير يقال له: النغير. لكن هذا الطائر صيد خارج المدينة ثم أدخل إلى المدينة.

وكذلك الشجر، لا يجوز قطعه، وهو الشجر الذي ينبت بنفسه، لا ما استزرعه الإنسان، يعني ما أنبته الإنسان وزرعه من النباتات والثمار والزروع، فهذا يجوز له أن يقطعه، كما يجوز له أن يأكل الدجاج والدواجن التي يربيها، لكن المقصود بالذي لا يقطع من الشجر، الذي ينبت بنفسه.

ويجب الانتباه إلى أنه لا يثبت حكم الحرمة لسوى مكة والمدينة على وجه الأرض، وقد نبه أهل العلم على خطأ شائع بين المسلمين، وهو قولهم عن المسجد الأقصى - حرره الله بفضله وقوته - يقولون عنه: ثالث الحرمين؟! ويقولون: أولى القبلتين وثالث الحرمين! وهذا خطأ؛ لأنه لم يثبت تحريم أرض بيت المقدس، لا في القرآن ولا في السنة، والصحيح أنه أولى القبلتين كما ورد صحيحا في الحديث.

وأيضا: بيت المقدس من الأمكنة الشهيرة حيث تنزل الوحي ببيت المقدس مهد الرسالات السماوية السابقة، ولاحظ كيف أن الله سبحانه وتعالى جمع بين الأرضين المباركة المقدسة، التي نزل فيها الوحي في قوله سبحانه وتعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ < وَطُورِ سِينِينَ < وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} (التين: 1-3)  فالتين والزيتون: شجر يشتهر به بيت المقدس وما حوله، هذا الشجر يكثر نباته في فلسطين وما حولها، وطور سينين : جبل الطور الذي كلم الله سبحانه وتعالى عنده موسى عليه السلام، ونزلت عليه الرسالة فيه. والبلد الأمين: هو مكة، حيث ابتدأ نزول الوحي فيه.

وقوله: إن الرسول [ «حرم ما بين لابتيها» اللابتان: الحرة الشرقية والحرة الغربية، يعني: ما بين الحرتين، والحرة هي الأرض ذات الحجارة السود.

قال البخاري رحمه الله تابعه سهل عن النبي [ في أحد، سهل هو ابن سعد الصحابي ]، تابع أنسا في هذا الحديث. ومعنى المتابعة: هي المشاركة في الرواية عن الشيخ نفسه، فإذا قلنا: إن سعد قد تابع أنسا يعني: قد شاركه في الرواية عن النبي [ في هذا الحديث، وبالمتابعات تتقوى الأحاديث ويزداد الاطمئنان واليقين، فإن الخبر إذا نقله اثنان، يكون أقوى من نقل الواحد له، فالخبر الواحد إذا نقله أكثر من واحد، حصل من الطمأنينة بالنقل أكثر مما يحصل بنقل الفرد الواحد، وذلك لأن الفرد الواحد معرض للخطأ وللنسيان وللغفلة، لكن إذا تتابع الرواة على نقل حديث واحد بنصه، حصل للسامع ولصاحب التأليف من أهل الحديث الثقة والطمأنينة، بأن هذا الخبر محفوظ لم يدخله تغيير ولا خطأ ولا نسيان، وقد اعتنى أهل الحديث قديما وحديثا بجمع المتابعات؛ لأنها كما ذكرنا تقوي الأحاديث النبوية، ولاسيما بعض الأسانيد الضعيفة إذا رواها شيخ فيه ضعف من جهة الحفظ والإتقان، فإذا تابعه شيخ آخر قوي خبره، وربما ارتفع الحديث من منزلة الضعيف إلى منزلة الحسن لغيره، وتارة يتقوى الحديث الحسن بغيره فيكون صحيحا لغيره، كما هو معروف في مصطلح الحديث.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك