رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 26 ديسمبر، 2010 0 تعليق

شرح كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (64)- نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم

 

     إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع  كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الباب السابع والعشرون

27 – باب نهي النبي [ على التحريم، إلا ما تعرف إباحته، وكذلك أمره. نحو قوله حين أحلّوا: «أصيبوا من النساء». وقال جابر: ولم يَعزم عليهم، ولكن أحلهم. وقالت أم عطية: نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا.

الحديث الأول: قال البخاري رحمه الله:

7367 – حدثنا المكيّ بن إبراهيم، عن ابن جريج: قال عطاء: وقال جابر ح. قال أبو عبدالله: وقال محمد بن بكر البرساني، حدثنا ابن جريج قال: أخبرني عطاء: سمعت جابر بن عبدالله في أناس معه قال: أهللنا أصحابَ رسول الله [ في الحج خالصا ليس معه عمرة، قال عطاء: قال جابر: فقدم النبي [ ُصبح رابعة مضت من ذي الحج، فلما قدمنا أمرنا النبي [ أن نحلّ، وقال: « أحلوا، وأصيبوا من النساء «. قال عطاء: قال جابر: ولم يعزم عليهم، ولكن أحلّهن لهم، فبلغه أنا نقول: لمّا لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمسٌ، أمرنا أن نحل إلى نسائنا، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرُنا المذي، قال: ويقول جابرٌ بيده هكذا، وحركها، فقام رسول الله [ فقال: «قد علمتم أني أتقاكم لله، وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون، فحلوا، فلو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ». فحللنا وسمعنا وأطعنا. (طرفه في: 1557).  

الحديث الثاني:

7368 -  حدثنا أبو معمر: حدثنا عبدالوارث، عن الحسين، عن ابن بريدة: حدثني عبدالله المزني، عن النبي [ قال: « صلوا قبل صلاة المغرب ». قال في الثالثة: « لمن شاء ». كراهة أن يتخذها الناس سنّة. (طرفه في: 1183).

الشرح:

الباب السابع والعشرون، قال الإمام البخاري: « باب نهي النبي [ عن التحريم إلا ما تعرف إباحته» ، أي أن النهي الصادر من المصطفى [ يحمل على التحريم.

هذا هو الأصل: أن ما نهى عنه [ فهو محمول على التحريم.

       وقوله: « إلا ما تعرف إباحته» يعني: إلا ما يُعرف أنه مباح لكن فيه الكراهة، وذلك بدلالة السياق، أو قرينة الحال، أو وجود الدليل الذي يصرف التحريم إلى الكراهة. وكذلك أمره [ محمول على الوجوب، لأن امتثال أمره واجب، ما لم يدل الدليل، أو توجد القرينة الدالة على أنه [ أراد الندب أو الإباحة.

وهكذا قول الصحابي: أمرنا رسول الله [ بكذا، أو نهانا عن كذا.

        وهذا قول جمهور أهل العلم، مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، يرون أن أوامر النبي [ الأصل فيها أنها فرض، إلا إذا قامت القرينة أو الدليل على أن المراد الاستحباب، واستدلوا لذلك بأدلة كثيرة.

      منها: قوله سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور 63)، فدل قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} على أن مخالفة أمره [ أو نهيه، فيه وعيدٌ وتحذير وتهديد من الله سبحانه وتعالى، أن يصيب من خالف أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالفتنة في دينه، أو العذاب الأليم.

       ومنها قوله تبارك وتعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين} (النور: 54).

     أي: هو [ عليه أداء الرسالة، وأنتم يجب عليكم قبولها، والعمل بها واتباعها، وستسألون عن ذلك، لأنها أمانة.

     ومنها قوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، وأن ما جاء عن الرسول يجب على الأمة الأخذ به واتباعه، والعمل به، ولا تحل مخالفته، وأن حكمه عليه الصلاة والسلام كحكم الله تعالى، لا عذر لأحد في تركه.

وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} (الحجرات: 1).

      فخاطبهم تعالى باسم الإيمان بوجوب الأدب، من امتثال أمر الله سبحانه ورسوله عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز تقديم قول أحد على قول الله تعالى ولا قول رسوله [.

وقال [: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه».

وقال: « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌ « متفق عليهما.

فهذه الأدلة وغيرها كثير تدل على ما سبق،  وقد ذكرها مبسوطة مشروحة الإمام أبو محمد ابن حزم في كتابه «الإحكام في أصول الأحكام» فمن شاء أن يرجع إليها فليرجع.

     قال: « إلا ما تعرف إباحته « أي: إذا أمر أمرا يفيد الإباحة نحو قوله حين أحلوا «أصيبوا من النساء» فهذا أمر يفيد الإباحة وليس الوجوب، لأنه إذن لهم في جماع نسائهم، لأنهم يعلمون أن الجماع يفسد الحج والعمرة.

قوله « قال جابر: ولم يعزم عليهم، ولكن أحلهن لهم» وهذا حديث جابر في الحج: أن أصحاب رسول الله [ حين خرجوا من المدينة أحرموا بالحج، فلما قدم النبي [ مكة، قال لهم: من كان ساق الهدي فليبق على إحرامه، ومن لم يسق الهدي فليجعلها عمرة وليتحلل وليجعلها عمرة ويتمتع للحج.

      قوله «وأمرهم بأن يصيبوا من النساء»: يعني بأن يجامعوا نساءهم، لأن المحرم إذا طاف وسعى في عمرته، فقد حلّ، أما من كان قد ساق الهدي وصار قارنا، فليس له أن يحل، ولا أن يقرب النساء، حتى يذبح هديه، لأن الجماع من مفسدات النسك.

    فأمر النبي [ لهم بأن يجعلوها عمرة واجب، لكن إصابة النساء لم يكن مطلوبا منهم على وجه الوجوب، وإنما المراد به الإباحة، فهو أمر بعد حظر، وفي كتب الأصول: أن الأمر بعد الحظر، يرجع إلى ما كان عليه، فيفيد الإباحة إذا كان بالأصل مباحا، ويفيد الوجوب إذا واجبا، فمثال الإباحة، قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (المائدة: 2)، فحرّم الله تبارك وتعالى على المحرم الصيد، لكن قال سبحانه وتعالى بعده: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ} يعني: من إحرامكم (فَاصْطَادُوا) يعني: أباح لهم الصيد إذا أحلوا من إحرامهم، ولم يكن ذلك الأمر واجبا عليهم.

      ومثله قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة:10)، فهذا الانتشار في الأرض، وإباحة البيع والشراء بعد صلاة الجمعة، ليس على الوجوب، وإنما هو أمر للإباحة، لأن البيع والشراء مباح، فيرجع إلى ما كان عليه.

       أما قول أم عطية رضي الله عنها: «نهينا عن اتباع الجنائز» فإن نهي النبي [ النساء عن اتباع الجنائز، كان حظرا بعد إباحة، فكان ظاهرا في التحريم، فأم عطية تقول: « نهينا عن اتباع الجنائز» يعني إنهن كن يتبعن الجنائز، ثم نهين عن ذلك، والنهي بعد الإباحة يفيد التحريم، لأن النهي يرفع البراءة الأصلية، ويرفع الإباحة، وينقلها إلى التحريم.

      وأما قولها: «ولم يعزم علينا» فهذا فهمها رضي الله عنها من نهيه [، وليس من كلام النبي [، وقد قال العلماء: الحجة في مروي الراوي، لا في فهمه واستنباطه وفتواه عند الاختلاف.

      فالنبي [ نهى النساء عن اتباع الجنائز، فكان ذلك مانعا لهن من اتباع الجنائز، بالإضافة إلى أدلة أخرى، كقوله [: «لعن الله زوّارات القبور» رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.

فهو مما يؤيد النهي السابق.

       وحديث جابر المذكور شرحه وتفصيله في كتاب الحج من الصحيح، والحجة منه هاهنا: أن النبي [ أمرهم أن يحلوا، فقال «لهم أحلوا وأصيبوا من النساء « فأوجب عليهم الإحلال، وأما إصابة النساء فهذا أمر بعد حظر يفيد الإباحة فقط كما سبق.

وأما قوله [: « قد علمتم أني أتقاكم لله، وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون، فحلوا» فالنبي [ يخبرهم أنه أتقى الناس لله رب العالمين، وأعلم الناس بالله تعالى وشرعه ودينه وحلاله وحرامه، وأبر الناس وأرحمهم بهم كما وصفه الله {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة: 128).

       لكن الذي منعه [ من الإحلال كما يحلون، هو أنه كان قد ساق الهدي معه من المدينة فصار قارنا، والصحابة رضي الله عنهم لم يسوقوا الهدي، فلما أمرهم بالإحلال، شق عليهم أن يحلوا وأن يكون حالهم غير حاله، وأن يجامعوا نساءهم، ولم يبق بينهم وبين قدوم منى وعرفة إلا خمس ليال ؟! فبين لهم النبي [ أن هذا من شرع الله تعالى، وأن هذا من دينه، وهو [ لا ينطق عن الهوى، بل هو من أعلم الناس بأمر الله عز وجل، وبكتاب الله تعالى وبدينه، وهو أصدقهم وأبرهم وأتقاهم، وأرحمهم بالناس.

      وأما الحديث الثاني: فهو في نافلة المغرب الأذان والإقامة، وهو قوله [ في حديث عبدالله المزني رضي الله عنه: « صلوا قبل صلاة المغرب، قال في الثالثة: لمن شاء، يعني كرر هذه العبارة «صلوا قبل صلاة المغرب».

      وفي رواية قال: « صلوا قبل المغرب ركعتين، قالها ثلاثا، ثم قال في الثالثة: لمن شاء « فهذه النافلة التي بين الأذان والإقامة ليست واجبة، وهذا الحديث فيه دليل على أن الأمر منه [ يفيد الوجوب، ولولا أنه قال في الحديث: «لمن شاء» لكان الأمر على الوجوب، لكنه أردف أمره بما يدل على التخيير بين الفعل والترك، فقال [: « لمن شاء «ليبين أن الصلاة قبل المغرب إنما هي نفل مستحب، وليست واجبة، فصارف الوجوب هاهنا قوله [ « لمن شاء».

     وقول الراوي: «خشية أن يتخذها الناس سنة» أي: طريقة لازمة لا يجوز تركها، وليس المقصود هنا بالسنة هي النافلة المستحبة، لا، إنما المقصود بالسنة ما كان بمعنى الهدي الواجب، لأنه [ أمر بها، وأمره يفيد الوجوب كما سبق.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك