رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 30 سبتمبر، 2010 0 تعليق

شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (54) وسطيـة الأمـة

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع  كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الباب التاسع عشر:                 

19 - باب قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: 143)، وما أمر النبي [ بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم.

قال البخاري رحمه الله:

7349 – حدثنا إسحق بن منصور: حدثنا أبو أسامة: حدثنا الأعمش: حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله [: «يجاء بنوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب، فتُسأل أمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير؟ فيقول: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ رسول الله [: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.

وعن جعفر بن عون: حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي [ بهذا. (طرفه في: 3339).

الشرح:

الباب التاسع عشر من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح الإمام أبي عبدالله البخاري، باب قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا}، الأمة الوسط فسرها النبي [ في رواية لهذا الحديث الصحيح: بالعدل. رواه البخاري في التفسير (4487). وهي العدالة، فهذه الأمة موصوفة بأنها أعدل الأمم، والعدل: الخيار، وهو خير الأمور وأوسطها، فامتن الله تبارك وتعالى على هذه الأمة بالعدالة والهداية لأوسط الأمور .

قال الطبري: الوسط في كلام العرب الخيار، يقولون : فلان وسط في قومه وواسط، إذا أرادوا الرفع في حسبه. قال: والذي أرى أن معنى الوسط في الآية الجزء بين الطرفين، والمعنى أنهم وسط لتوسطهم في الدين فلم يغلوا كغلو النصارى، ولم يقصروا كتقصير اليهود ، ولكنهم أهل وسط واعتدال ( الفتح 8/ 172 – 173 ) .

 ولا شك أن أهل السنة والجماعة من هذه الأمة الإسلامية، وهم أهل العلم بالقرآن الكريم والسنة النبوية والعلوم الشرعية، هم الذين ينطبق عليهم وصف العدل والوسط والخيار؛ لأن أهل الجهل ليسوا عدولاً، كما هو معلوم، وكذلك أهل البدع ليسوا عدولا، ولهذا استنبط البخاري رحمه الله من هذه الآية: وجوب لزوم جماعة أهل السنة والجماعة، وهم أهل العلم والحديث والأثر .

فقال البخاري: وما أمر النبي [ بلزوم الجماعة، وهم أهلُ العلم.

 وهذا استنباط نفيس، يدل على بعد نظر الإمام البخاري رحمه الله ، وسعة علمه.

وقال الإمام ابن بطال: المراد بالباب: الحض على الاعتصام بالجماعة؛ لقوله تعالى:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (البقرة: 143).

وشرط قبول الشهادة: العدالة، وقد ثبتت لهم هذه الصفة بقوله: {وسطا} (البقرة: 143)، والوسط، العدل، والمراد بالجماعة: أهل الحل والعقد من كل عصر (الفتح) .

وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي [ تأمر بلزوم الجماعة وتنهى عن الفرقة، فمنها: حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ولما سئل عنها [ عنها قال: «هي الجماعة» رواه أهل السنن، وهو حديث صحيح ومشهور، وإن شكك في ثبوته أهل البدع.

وقال أيضا [: «عليكم بالجماعة»، وفي رواية: «الجماعة رحمة والفرقة عذاب» رواه ابن أبي عاصم في (السنة) وعبدالله في (المسند).

وخطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطبته بالجابية من أرض الشام فقال: «عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد» إلى أن قال: «ومن أراد بُحبوحة الجنة، فليلزم الجماعة « رواه ابن أبي عاصم.

و«بحبوحة الجنة» تعني: باحتها وساحتها الواسعة.

وقوله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: 143).

مقتضى ذلك عصمة الجماعة المؤمنة من الخطأ فيما أجمعوا عليه قولا وعملا، وذلك أن الأمة بجماعتها أو بعمومها معصومة من الخطأ، أي: الإجماع على الخطأ! وورد هذا صريحا في الحديث الصحيح فيما رواه ابن أبي عاصم في (السنة) وأحمد وغيرهما: قال [: «لا تجتمع أمتي على ضلالة» رواه الترمذي وابن أبي عاصم والحاكم وغيرهم.

فالجماعة معصومة من الاجتماع على الخطأ، وهذا من فضل الله العظيم على هذه الأمة، في حين أن الفرد معرض للخطأ والضلال؛ ولهذا رغب السلف بلزوم الجماعة، وهي التي تكون على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله [، بفهم سلف الأمة الصالحين، وحضوا على ملازمتها، وحذروا من مفارقة جماعة المسلمين القائمة بالكتاب والسنة قولا وعملا واعتقادا.

ومجرد حدوث اختلاف بينك وبين أحد من جماعة المسلمين السابقة الذكر، فإنه لا يبيح لك أن تفارق جماعتهم وتهجرهم! وتلحق بسواهم! وهذا يحصل لكثير من أفراد المسلمين، أنهم يحصل بينهم وبين إخوانهم القائمين بالكتاب والسنة سوء فهم واختلاف، فيدعوه ذلك إلى مفارقتهم! بل ربما الانتساب إلى دعوات أخرى مخالفة ومبتدعة!

فلا بد من الصبر إذًا على لزوم جماعة المسلمين، وهو واجب من واجبات الاعتصام بالكتاب والسنة؛ لأنه لا يحصل الاعتصام إلا بذلك والمراد بالجماعة كما ذكرنا: أهل العلم المجمعون على التزام الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.

وهو الأصل في المسلمين عامة، وبلاد المسلمين، أنهم على هذا الطريق، إلا من شذ وابتدع، أو تأثر بجماعة بدعية، أو دعوة خارجية ونحو ذلك.

ثم روى البخاري -رحمه الله- من طريق شيخه إسحق بن منصور وهو ابن (بهرام الكوسج)، التميمي المروزي، ثقة ثبت، قال: حدثنا أبو أسامة، وهو حماد بن أسامة القرشي الكوفي الثقة الثبت، قال: حدثنا الأعمش، ومر معنا مرارا، واسمه سليمان بن مهران الكوفي، قال: حدثنا أبو صالح وهو السمان ومر أيضا، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله [: «يُجاء بنوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب ، فتُسأل أمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير» أي: يجحدون الرسالة، يجحدون أن يكون قد جاءهم نذير ورسول من عند الله تعالى، فالله تعالى سيسأل الأمم عن الرسل هل بلغوا رسالاته؟ وسيُسأل الرسل عنا: هل أجبناهم واتبعناهم؟ كما قال سبحانه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ} (الأعراف: 6) وقال: {َيَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} (المائدة: 109) وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ} (القصص:65)، وقال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزُّخرف:44).

وقال النبي [ في خطبة الوداع: «وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» رواه مسلم.

والمشركون سيُسألون يوم القيامة عن شركهم بالله تعالى، وكذبهم عليه سبحانه، وتكذيبهم لرسله، وافترائهم على دينه ورسله وملائكته عليهم السلام ، كما قال: {وَجَعَلُوا المَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (الزُّخرف: 19).

وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَالله لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} (النحل: 56)، وهكذا كل من كذب على الله تعالى أو نسب إلى دينه ما ليس منه، أو أخرج منه ما هو منه، فأحل المحرمات، أو حرم المباحات؛ اتباعاً لهواه أو لأهواء الناس وأذواقهم ومصالحهم ، فويل له من يوم يُسأل فيه عن ذلك كله، كما ذكر لنا كتاب الله.

والله تعالى أرسل الرسل ، وأنزل الكتب؛ لئلا يكون للناس عليه حجة ولا عذر، كما قال تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما} (النساء: 165).

وقال سبحانه: {يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير} (المائدة: 19).

وقوله هنا في الحديث: «فيقول: من شهودك؟» أي: فيقال لنوح عليه السلام: من شهودك؟ أي من يشهد لك أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة، ونصحت لأمتك؟ لأن أمته تنكر رسالته؛ طلبا لنجاتهم من النار والعذاب، كما قال الله عنهم: {ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} (الأنعام : 22 – 24).

فالمشركون يحلفون بالله يوم القيامة إنهم ما كانوا مشركين!

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: يا بن عباس سمعت الله يقول: {والله ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام: 23). قال : أما قوله {والله ربنا ما كنا مشركين} فأنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة ، فقالوا: تعالوا فلنجحد! فيجحدون، فيختم الله على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم ، ولا يكتمون الله حديثا.

(حسن التحرير 2/111).

قوله: «فيقول: محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون».

وزاد الإمام أحمد: أن هذه الأمة إذا جيء بها لتشهد لنوح عليه الصلاة والسلام يقال لهم: «ما علمكم أن نوح عليه الصلاة والسلام قد بلغ؟ فيقولون: أخبرنا نبينا [ أن الرسل قد بلغوا فصدقناه».

 فهذا قول الأمة المسلمة يوم القيامة، أنها تشهد للرسل بأنهم قد بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وجاهدوا في الله تعالى حق الجهاد، حتى توفاهم الله، فيشهدون لنوح عليه السلام.

 وليس الأمر خاصا لنوح عليه الصلاة والسلام، بل هو لجميع الأمم، ولجميع الرسل، ثم قرأ [ الآية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة : 143).

 وهذا الحديث قد رواه أيضا أبو أسامة عن جعفر بن عون عن الأعمش بالسند نفسه، والقائل: وعن جعفر بن عون، هو أبو أسامة الذي روى عن الأعمش الرواية السابقة.

 وقيل: إن قوله «وعن جعفر بن عون...» هو من قول الإمام البخاري؛ فيكون هذا السند معلقا عنده من هذا الطريق. 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك