رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 18 أكتوبر، 2010 0 تعليق

شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (57) ظهور أحكام النبي صلى الله عليه وسلم لأكثر الناس

 

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع  كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الباب الثاني والعشرون

22 – باب الحجة على من قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة، وما كان يغيب بعضهم من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمور الإسلام.

الحديث الأول: قال البخاري رحمه الله:   7353 - حدثنا مسدد: حدثنا يحيى، عن ابن جريج: حدثني عطاء: عن عبيد بن عمير قال: استأذن أبو موسى على عمر، فكأنه وجده مشغولا فرجع، فقال عمر: ألم أسمع صوت عبدالله بن قيس؟ ائذنوا له، فدعي له، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: إنا كنا نؤمر بهذا. قال: فائتني على هذا ببينة أو لأفعلن بك، فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد إلا أصاغرنا، فقام أبو سعيد الخدري فقال: قد كنا نؤمر بهذا، فقال عمر: خفي علي هذا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ألهاني الصفق بالأسواق. (طرفه في: 2062).

الشرح:

الباب الثاني والعشرون: باب الحجة على من قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة، وما كان يغيب بعضهم من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمور الإسلام.

عقد الإمام البخاري هذا الباب لبيان أن كثيرا من الصحابة، بل من أكابر الصحابة، من كان يغيب عنه بعض ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يفعله، من الأقوال والأعمال فيستمر هو على ما كان قد اطلع عليه أو علمه من القرآن أو السنة، وربما كان منسوخا لعدم اطلاعه على الناسخ، وإما أن يستمر على البراءة الأصلية.

ومعلوم أن فعل الصحابي يكون حجة ما لم يعارض نصا من كتاب أو سنة، وأقوال الصحابة وفتاويهم أيضا حجة شرعية ما لم تعارض نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عن الله تبارك وتعالى.

ولا يتصور أن الصحابة يخالفون نصا عمدا! لكن يقع ذلك منهم بسهو أو نسيان أو عدم اطلاع على النص أو على الناسخ، فحاشاهم عن المخالفة عمدا.

فمن قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة للناس، فإنما هو للأكثر والأغلب، وإلا فهناك بعض الأحكام والسنن المنقولة عن نبينا صلى الله عليه وسلم قد خفيت على بعض الصحابة، بل على بعض علماء الصحابة وأكابرهم.

 فمن ذلك: حديث أبي بكر رضي الله عنه في الجدة، وذلك أنه رضي الله عنه خفي عليه نصيب الجدة من الميراث، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه: أنه صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، والحديث في الموطأ.

وحديث ابن مسعود رضي الله عنه في الرجل يعقد على المرأة ثم يطلقها ويريد أن يتزوج أمها، فأجازه.

وتجويزه بيع الفضة المكسرة بالصحيحة متفاضلا.

ثم رجوعه عن الأمرين لما سمع من غيره من الصحابة النهي عنهما.

وحديث عمر رضي الله عنه هاهنا في الاستئذان.

وتقدم معنا: أن عمر كان يتناوب في النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو ورجل من الأنصار، فينزل هذا يوما وهذا يوما، ويخبر كل منهما الآخر بما سمع وشاهد من النبي صلى الله عليه وسلم.

وهناك أمثلة كثيرة مذكورة في مظانها من كتب الفقه وأصوله، ككتاب: أعلام الموقعين للإمام ابن القيم وغيره، في بيان رجوع كثير من الصحابة عن قضايا وأحكام كانوا قد حكموا وقضوا بها، أو أفتوا بها، ثم رجعوا عنها لما علموا أن الدليل بخلافها.

وقال ابن بطال: إن البخاري رحمه الله أراد الرد على الرافضة والخوارج الذين يزعمون أن كل أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وسننه منقولة بالتواتر! ولا يجوز العمل بما لا ينقل متواترا!

 وهذا القول مردود بما صح أولا من الأحاديث الكثيرة أن الصحابة رضي الله عنهم كان يستفيد بعضهم من بعض، ويرجع بعضهم إلى ما رواه غيره، وهم أفراد.

وقد انعقد الإجماع عند السلف على العمل بأحاديث الآحاد، وعليه العمل عندهم، وأنها حجة بنفسها.

وهي الأحاديث التي يرويها الواحد والاثنان والثلاثة ولا تبلغ حد التواتر، والتواتر هو رواية الجم الغفير من الرواة عن مثلهم.

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث الرسل إلى الملوك والأمم، وكانوا أفرادا وآحادا، وكان يرسلهم بدعوة الإسلام كله، عقيدة وشريعة، فلو كان الآحاد والأفراد من الناس لا تقوم بهم الحجة على الخلق، لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسلهم!

والأدلة والأمثلة في الباب كثيرة، وأول من ردّ على هذا القول المنحرف: الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه (الرسالة)، ثم تتابعت الردود، ولشيخنا الإمام الألباني رحمه الله تعالى رسالة نفيسة في هذا الباب اسمها:  (الحديث حجة بنفسه). مطبوعة.

أما الحديث الأول في هذا الباب، فيرويه البخاري عن شيخه مسدد وقد مضى. عن يحيى وهو ابن سعيد الأنصاري وهو من شيوخ ابن جريج، عن ابن جريج وهو عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج المكي، قال: حدثنا عطاء، وهو ابن أبي رباح المكي، قال: عن عبيد بن عمير وهو ابن قتادة الليثي أبو عاصم المكي، من كبار التابعين، وكان قاصّ أهل مكة، مجمع على ثقته.

قوله: «استأذن أبو موسى على عمر» فكأنه وجده مشغولا بجلسائه فلم يلتفت إليه، فرجع من حيث أتى.

قوله: « فقال عمر: ألم أسمع صوت عبدالله بن قيس؟ ائذنوا له، فدعي له». وكان قد انصرف بعد أن استأذن ثلاث مرات، كما في الروايات الأخرى لهذا الحديث.

قوله « فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: إنا كنا نؤمر بهذا «يعني: كنا نؤمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، أن يستأذن الرجل على أخيه ثلاثا، فإن أذن له وإلا انصرف.

قوله: «قال له عمر: فائتني على هذا ببينة أو لأفعلن بك «يعني: لأنزلن بك عقوبة لدعواك هذه ! وهذا من تشديد عمر رضي الله عنه في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: «فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد إلا أصاغرُنا» وفي رواية أن القائل: هو أبي بن كعب، وأصاغرنا أي: أصغرنا سنا؛ وذلك للتدليل على أن هذا الأمر من الوضوح والظهور ما يعلمه الجميع.

قوله: « فقام أبو سعيد الخدري فقال: قد كنا نؤمر بهذا، فقال عمر: خفي عليّ هذا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ألهاني الصفقُ بالأسواق» الصفق بالأسواق هو التبايع؛ لأنه كان يتاجر لكسب الرزق لعياله ويستغني عن الناس.

فهذا الحديث فيه أبين حجة، وأوضح دلالة على أنه قد يخفى على الصحابي الجليل بعض سنن النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه؛ لغيابه عن بعض مجالس النبي صلى الله عليه وسلم بحكم الحاجات التي لا ينفك عنها البشر.

وفيه أيضا حجة واضحة على ثبوت خبر الواحد، وأن الصحابة كان الشاهد منهم يبلغ الغائب ما شهد من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وأن ذلك الغائب عن ذلك المجلس كان يقبل ممن حدثه من الصحابة ما يقوله ويعتمده ويعمل به.

وإنما طلب عمر رضي الله عنه من أبي موسى الأشعري الحجة والبينة على حديث الاستئذان، من باب زيادة الاطمئنان وليس من باب الرد للخبر، وإنما كان عمر رضي الله عنه يتثبت ويشدد في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتساهل الناس في الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويتجرؤوا على الدين، ولأن الرواية عنه دين وشريعة، فما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم دين يعمل به وحجة على الخلق أجمعين.

والدليل على أن عمر كان يقبل حديث الآحاد: حديث عبدالرحمن بن عوف لما شهد له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، ولما شهد به بخبر النبي [ في حديث الطاعون، وهو: « إذا وقع الطاعون بأرض فلا تخرجوا فرارا منه، ولا تقدموا عليه».

وحديث عمرو بن حزم في التسوية بين الأصابع في الدية، وكان عمر رضي الله عنه يفرق بين الأصابع فيقول: هذه منفعتها أكبر من هذه، فيجعل في هذه غير ما يجعله في الأخرى من الأصابع، فشهد بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل في الأصابع عشرا من الإبل، فأخذ به عمر رضي الله عنه وقضى به.

وحديث الضحاك بن سفيان في توريث المرأة من دية زوجها، فقد كان لا يورث المرأة من دية الزوج، وحديث سعد بن أبي وقاص في المسح على الخفين، وغيرها من الشواهد على أن الصحابة رضي الله عنهم كان يبلغ الشاهد منهم الغائب، وأن الغائب كان يقبل ما يسمع منه، ويعمل به.

وذكر البخاري من كتاب العلم في صحيحه أن عمر رضي الله عنه كان يتناوب النزول إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم هو ورجل من الأنصار، فينزل هذا يوما وهذا يوما، ويخبر كل واحد منهما الآخر بما غاب عنه، يعني أن عمر رضي الله عنه كان له إبل، وكان يشغله العمل فيها عن بعض مجالس النبي صلى الله عليه وسلم ، فاتفق هو وأخ له من الأنصار على أن ينزل هو يوما، ويبقى الأنصاري في إبله يأخذ مكانه، ثم في اليوم الآخر ينزل الأنصاري ويبقى عمر عند الإبل، ويخبر كل واحد منهما صاحبه بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وبما شاهده من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.

يعني أن عمر لم يأخذ كل العلم مشافهة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل بعضه مشافهة وبعضه بالواسطة، وفعل ذلك الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بغير نكير منه صلى الله عليه وسلم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك