رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 25 أكتوبر، 2010 0 تعليق

شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري(58)- ظهور أحكام النبي [ لأكثر الناس (2)

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع  كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: (الاعتصام بالكتاب والسنة) من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الحديث الثاني في الباب:

7354 – حدثنا علي: حدثنا سفيان: حدثني الزهري: أنه سمع من الأعرج يقول: أخبرني أبو هريرة قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله [، والله الموعد، إني كنت امرأ مسكينا، ألزم رسول الله [ على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفقُ بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فشهدت من رسول الله [ ذات يوم، وقال: « من يبسط ردائي حتى أقضيَ مقالتي، ثم يقبضه، فلن ينسى شيئا سمعه مني «. فبسطت بردة كانت عليّ، فوالذي بعثه بالحق، ما نسيت شيئا سمعته منه. (طرفه في: 118).

الشرح:

الحديث الثاني في هذا الباب: باب الحجة على من قال: إن أحكام النبي [ كانت ظاهرة، وما كان يغيب بعضهم من مشاهد النبي [ وأمور الإسلام، هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أيضا بيان السبب في خفاء بعض الأحكام والسنن النبوية على بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم فضلا عن صغارهم، وهو ما ذكره الصحابي الجليل أبو هريرة هاهنا، وهو أن المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، يعني: عقد الصفقات، والبيع والشراء لأنهم يتاجرون ويتكسبون لأجل الرزق لعيالهم وأسرهم، وأن الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، يعني: في بساتينهم، وفي زروعهم والعناية بها، وهذا يبين أن المهاجرين كانوا أصحاب تجارة في الأغلب، وأن الأنصار كانوا أصحاب زراعة وبساتين، رضي الله عنهم أجمعين.

فيقول أبو هريرة ] في هذا الحديث الذي رواه البخاري من طريق شيخه علي، وهو ابن المديني الإمام الحجة المشهور الذي قال البخاري عنه: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند ابن المديني، وإنما يذكره البخاري باسمه مجردا، وتارة يقول: حدثني علي بن عبدالله، ولا يصرح باسمه المديني؛ لأن عليا بن المديني أشيع عنه أنه قال بخلق القرآن، وحصلت فتنة لبعض المحدثين، واجتنب الحديث عنهم وهجرت مجالسهم، تارة بالحق، وتارة بغير الحق، فكان ابن المديني ممن أشيع أنه أجاب إلى خلق القرآن، وربما كان قد أجاب خوفا من الحبس أو من الضرب، وإلا فالثابت والمنقول عنه أنه كان يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق.

أما سفيان فهو ابن عيينة أبو محمد الهلالي شيخ ابن المديني. والزهري قد مضى. والأعرج من المكثرين من الرواية عن أبي هريرة ].

 قال أبو هريرة: «إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله [، والله الموعد» وجاء في رواية مالك عن الزهري في العلم (118) أنه قال ]: ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم يتلو {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} الآيتان من سورة البقرة: 159-160.

يعني أن أبا هريرة كان قد تعرض لشيء من الكلام عليه في زمنه من بعض الناس؛ لأنه كان صاحب حديث كثير، وكان يعقد مجالس التحديث ] وأرضاه في مسجد رسول الله [ وغيره، وقد كان الصحابة يدافعون عنه ويصدقونه فيقولون: نعم قد سمعنا رسول الله [ يقول ذلك، وكان أبو هريرة إذا جاءه السائل وسأله عن حديث وحدثه به عن رسول الله [ قال له: اذهب إلى فلان - من الصحابة - فسيحدثك بمثل ما حدثتك، فيذهب إليه ويصدقه وهذا من باب شد الأزر، ومعاضدة الرواية، وتقوية الخبر.

وجاء في كتاب الجنائز من الصحيح: أن ابن عمر ] قال: أكثر علينا أبو هريرة، فصدقت عائشة أبا هريرة، أي: صدقته في الحديث الذي حدث به. وما كان ] متهما أبدا، وإنما أشاع أعداء السنة من الرافضة والمستشرقين والعلمانيين الكلام على مروياته، ولا سيما في السنين المتأخرة من أجل الطعن في الدين، وصد الناس عن السنن النبوية الشريفة، فيتوصلون بذلك إلى هدم الدين!!

ومن أسباب كثرة الحديث عن أبي هريرة أنه قد مات أكابر الصحابة قبله، وعمّر أبو هريرة إلى ما بعد سنة الستين للهجرة، فاتسعت روايته، وكثر تلاميذه والآخذون عنه من التابعين وغيرهم.

وبين هاهنا سببا من أسباب كثرة تحديثه، وهو أن المهاجرين كانت تشغلهم التجارة، وأن الأنصار كان يشغلهم العمل في زروعم وبساتينهم، وقوله: « كنت امرأ مسكينا» يعني: كنت رجلا مسكينا «من فقراء المهاجرين، ألزم رسول الله [»، وفي رواية مسلم: «أخدم رسول الله على ملء بطني» بمعنى أنه كان يرضى باليسير، ويكتفي بأقل القليل، فيكفيه أن يأكل ما يشبعه ولا يطلب المزيد، وليس لديه تجارة ولا أرض يزرعها ويشتغل بها، ولا هو ممن يطلب مالا ولا أرضا ولا عقارا ولا خدما، ولا غير ذلك، بل كان يكفيه أن يلازم رسول الله [ ويخدمه ويكون بقربه ويسمع حديثه ويشهد أحكامه، ويحفظ عنه.

وكان النبي [ تأتيه هدايا من أصحابه من لبن أو تمر أو غير ذلك، فكان أبو هريرة ] يصيب مما يأتي رسول الله [، ويأوي إلى فقراء الصُّفّة الذين كانوا يبيتون بالمسجد في صفة لهم أي: ظلة؛ إذ لا سكن لهم ولا يلوون على أهل ولا عشيرة؛ لأنهم من فقراء المهاجرين.

وأهل الصفة كانوا يأكلون في المسجد، ويتصدق عليهم الناس؛ لأنهم هاجروا في سبيل الله عز وجل، وتركوا خلفهم ديارهم وأموالهم، وفي بعض الأحيان أهلهم ونساءهم وأولادهم طلبا لمرضاة الله تبارك وتعالى.

وما أعظم هذه الهجرة وأشدها على النفس، إلا إن كانت نفسا مؤمنة مطمئنة، موقنة بثواب الله تبارك وتعالى، قد اشترت الآخرة بالدنيا.

فلذلك شهد أبو هريرة ] ما لم يشهد غيره، وسمع ما لم يسمعوا؛ لأنه كان يلزم رسول الله [، وفي رواية: « فيشهد إذا غابوا، ويحفظ إذا نسوا»، وجاء في رواية البخاري أيضا: «وكنت امرأ مسكينا من مساكين الصفة، أعي حيث ينسون، فشهدت من رسول الله [ ذات يوم»، يعني شهد مجلسا. وفي المسند والترمذي: عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لأبي هريرة: كنت ألزمنا لرسول الله [ وأعرفنا بحديثه.

 قوله [: «من يبسط رداءه» أي: من منكم يفرش ثوبه على الأرض.

قوله: «فلم ينسى شيئا سمعه مني» وفي رواية: «فلن ينس شيئا». وهو وعد صادق منه [، وقد وقع الأمر كما قال، فكان أبو هريرة ] راوية الإسلام، والمقدم من الصحابة في الحديث، فروى ما يزيد على خمسة آلاف حديث نبوي شريف، وليس ذلك لغيره؛ بسبب دعوة النبي [ له، وهو من أعظم أسباب حفظه ].

قوله: « فبسطت بردة كانت علي، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا سمعته منه « وفي رواية أخرى: «فحثا له النبي [ ثلاث حثيات، وقال له: ضُم رداءك» وهذا أيضا سبب من أسباب سعة حفظه وثبوته في صدره، وتفوقه على بقية الصحابة في هذا الباب.

وفي كتاب العلم: «أن أباهريرة قال: يا رسول الله، إني أسمع منك حديثا كثيرا أنساه، قال: «ابسط رداءك»، قال: فغرف بيديه، ثم قال: «ضمه»، فضممته، فما نسيت شيئا بعده.

وقال هاهنا أبو هريرة: فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا سمعته منه».

وهذا من الآيات والمعجزات، والدلائل النبوية، وبركة من بركاته عليه الصلاة والسلام، ولم ير أبو هريرة شيئا بعينيه، فسبحان الله العظيم!

ومن أراد الاطلاع على ترجمة أبي هريرة والدفاع عنه فليراجع كتاب العلامة يحيي المعلمي في الرد على المدعو محمود أبي رية، واسم الكتاب «الأضواء الكاشفة» وهو كتاب نفيس في الرد على محمود أبي رية، الذي طعن في هذا الصحابي الجليل ومروياته، فرد عليه العلامة المعلمي رداً مباركا عظيما في هذا الكتاب.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك