رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 1 نوفمبر، 2010 0 تعليق

شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (59)- إقـرار النبـي صلى الله عليه وسلم حُجّـة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع  كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الباب الثالث والعشرون:

23 –  باب من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة، لا من غير الرسول.

7355 – حدثنا حماد بن حميد: حدثنا عبيدالله بن معاذ: حدثنا أبي: حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن المنكدر قال، رأيت جابر بن عبدالله يحلف بالله: أن ابن الصياد الدجالُ، قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم.

الشرح: الباب الثالث والعشرون - باب من رأى ترك النكير - يعني ترك الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم حجة، لا من غير الرسول فإنه ليس بحجة، والنكير: هو المبالغة في الإنكار، وقد مرّ معنا أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي: ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، فكل ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير فهو حجة في دين الله تعالى.

واتفق العلماء على أن تقريره صلى الله عليه وسلم حجة أيضا، فما يفعل بحضرته، أو يطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم فيرضاه، أو يصل إليه خبره ويسكت عنه، أن هذا كله دال على الإباحة؛ لأن العصمة النبوية تأبى السكوت عن المنكر أو عن الباطل. 

ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يُقر أحدٌ على باطل أبدا، أي: في عهده صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يفعل أحد باطلا أو محرما ثم يسكت عنه الوحي، ولو لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحضره  فإن الله تعالى يبلغه بواسطة الوحي.

فسكوته إذاً صلى الله عليه وسلم يدل على أقل الأحوال على الإباحة، أما غير الرسول صلى الله عليه وسلم – وهو موضوع الباب - فإن سكوته لا يدل على الجواز؛ لأن غير الرسول صلى الله عليه وسلم لا عصمة له من الخطأ - كما هو مقرر عند أهل السنة - فقد يسكت نسيانا أو سهوا أو جهلا أو خوفا أو تأويلا أو غير ذلك من الأسباب.

أما الرسول صلى الله عليه وسلم فليس كأحد من الناس؛ فلا يفعل بحضرته شيء ثم يسكت عنه مع حرمته، أما غيره فقد قال كثير من أهل العلم: إنه لا ينسب لساكت قول، فمجرد السكوت لا يدل على الموافقة، ولهذا قال من قال من أهل العلم: إن الإجماع السكوتي ليس بحجة؛ لأن سكوت العالم عن شيء لا يكون دليلا على الجواز؛ لاحتمال أنه لم يبلغه الحكم، أو أنه سكت خوفا من المخالفة أو غير ذلك كما ذكرنا.

لكن الراجح أنه إذا قال المجتهد قولا وانتشر ولم يخالفه غيره فهو حجة، بشرط ألا يخالف نصا من كتاب أو سنة.

وقد روى البخاري في هذا الباب حديثا واحدا عن حماد بن حميد، وهو الخراساني، وهو الحديث الوحيد له في الصحيح، وفيه لين، لكنه متابع فقد أخرجه مسلم وغيره من طرق.

عن عبيد الله بن معاذ وهو ابن نصر بن حسان العنبري، ثقة حافظ. وسعد بن إبراهيم هو ابن سعد بن عبدالرحمن بن عوف الزهري، ثقة. ومحمد بن المنكدر التيمي المدني، ثقة حافظ، من المكثرين في الرواية عن جابر رضي الله عنه. وسعد بن إبراهيم، ومحمد بن المنكدر من طبقة واحدة، ولهذا تعد هذه الرواية من رواية الأقران عن بعضهم البعض.

 قال: « رأيت جابر بن عبدالله يحلف» يعني: أنه شاهده حين حلف بالله عز وجل أن ابن الصياد، وفي رواية: «أن ابن صياد» بدون ألف ولام، وفي رواية مسلم: « يحلف بالله أن ابن الصياد الدجالُ». قوله: «قلت تحلف بالله»؟! قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم ينكره صلى الله عليه وسلم ».

فجابر رضي الله عنه لما سمع عمر رضي الله عنه يحلف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم  أن ابن الصياد هو الدجال، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم جابر من هذا التقرير والسكوت - إقرار النبي صلى الله عليه وسلم عمر - على كلامه ذلك، اعتبره حجة واحتج به، لكن هذا مقيد بألا يعارضه التصريح بخلافه، فإن قال النبي صلى الله عليه وسلم أو فعل بخلاف ذلك دل على نسخ ذلك التقرير، إلا إذا ثبت دليل الخصوصية.

 والحديث صريح في أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم كان عند الصحابة حجة معمولاً بها، فجابر هاهنا احتج بإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على أن ابن الصياد هو الدجال.

وأما مسألة: هل كان ابن صياد هو الدجال الذي يخرج آخر الزمان أم لا؟

فالراجح - والله تعالى أعلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم تردد في شأنه أولا؛ ولهذا سكت، ولم ينكر على عمر في ذلك المجلس؛ إذ جاء في قصة ابن صياد أن عمر رضي الله عنه قال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن يكن هو فلن تسلط عليه «. يعني: إن يكن ابن الصياد هو الدجال، فلن تمكن أنت من قتله؛ لأن الذي يقتل الدجال هو عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو كائن آخر الزمان، وإن لم يكن هو الدجال، فلا خير لك في قتله، فتردد النبي صلى الله عليه وسلم في ابن الصياد - والله أعلم - لعدم الوحي إليه فيه كما سيأتي.

ووردت أحاديث كثيرة في ابن الصياد، استدل بعض الصحابة بها على أنه هو الدجال بما رآه منه، فمن ذلك كما رواه عبدالرزاق بسند صحيح: عن ابن عمر قال: « لقيت ابن صياد يوما، ومعه رجل من اليهود فإذا عينه قد طفئت، وهي خارجة مثل عين الجمل، فلما رأيتها، قلت: أنشدك بالله يا ابن صياد، متى طفئت عينك؟ قال: لا أدري والرحمن، قلت: كذبت لا تدري وهي في رأسك، قال: فمسحها ونخر ثلاثا، فزعم اليهود أني ضربت بيدي صدره، وقلت له: اخسأ فلن تعدوا قدرك، فذكرت ذلك لحفصة، فقالت حفصة: اجتنب هذا الرجل، فإنما يتحدث أن الدجال يخرج من غضبة يغضبها «.

ووردت أحاديث تدل على ذلك أنه ليس هو الدجال، فأخرج الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: « صحبني ابن صياد إلى مكة فقال لي: ماذا لقيت؟ يزعمون أني الدجال. يعني أنه يشكو إليه ما يقول الناس فيه، أنهم يقولون عني أني أنا الدجال، ثم قال له: ألست سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنه لا يولد له، قلت: بلى ! قال: فإنه قد وُلد لي، قال: أولست سمعته يقول: لا يدخل المدينة ولا مكة ! قلت: بلى، قال: فقد ولدت بالمدينة، وها أنا أريد مكة ».

وورد في الحديث أنه خرج حاجا مع أبي سعيد وأصحابه. فهذا الأحاديث يَستدل بها من قال إن ابن صياد لم يكن هو الدجال.

وقال البيهقي رحمه الله في حديث الباب: ليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على حلف عمر، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان متوقفا في أمره ثم جاءه الثبت من الله تعالى بأنه غيره، على ما تقتضيه قصة تميم الداري، وبه تمسك من جزم بأن الدجال غير ابن صياد، وطريقه أصح، وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في الدجال.

قال الحافظ ابن حجر: قلت: قصة تميم الداري أخرجها الإمام مسلم من حديث فاطمة بنت قيس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس، وذكر أن تميما الداري ركب في سفينة مع ثلاثون رجلا من قومه، فلعب بهم الموج شهرا، ثم نزلوا إلى جزيرة فلقيتهم دابة كثيرة الشعر  فقالت لهم: أنا الجساسة، ودلتهم على رجل بالدير- أي بالقصر- قال: فانطلقنا سراعا فدخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيته قط خلقا، وأشده وثاقا - يعني أنه مربوط وموثق بشدة - ومجموعة يداه إلى عنقه بالحديد، فقلنا: ويلك ! ما أنت...» فذكر الحديث.

قال: وفيه: - أي في هذا الحديث - سألهم عن نبي الأميين: هل بعث؟ وأنه قال: إن يطيعوه خير لهم، وأنه سألهم عن بحيرة طبرية، وعن عين زُغر، ونخل بيسان - وكلها بفلسطين - وفيه أنه قال لهم: إني مخبركم عني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة» انتهى.

فهذا قول الدجال لتميم الداري صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين كانوا معه في الجزيرة.

فلا يمكن الجزم لمن قرأ هذا الحديث بأن ابن صياد هو الدجال، ومن جزم أن ابن صياد هو الدجال فهو لم يسمع بقصة تميم؛ لأنه يستحيل الجمع بين من كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة صغيرا قريبا من الاحتلام، وبين من رآه الصحابة رجلا كبيرا مسجونا في جزيرة من جزر البحر، موثقا بالحديد، يستفهم من الصحابة عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم ، هل خرج أم لا؟!

فهذا الحديث والله تعالى أعلم مما يدل على أن ابن صياد ليس هو الدجال، وأما جابر رضي الله عنه فقد حلف على ما كان اطلع عليه من عمر رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال النووي: قال العلماء: قصة ابن صياد مشكلة، وأمره مشتبه، لكن لا شك أنه دجال من الدجاجلة، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه في أمره بشيء، وإنما أوحي بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة؛ فلذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يقطع في أمره بشيء، بل قال لعمر: «لا خير لك في قتل...» الحديث.

قال: وأما إسلامه وحجه وجهاده فليس فيه تصريح بأنه غير الدجال؛ لاحتمال أن يختم له بالشر. فقصته أشكلت على كثير من الصحابة فضلا عن غيرهم.

 وورد أنه كان يأتيه شيطانه كما في الصحيح، وربما كان هذا في أول حياته في صغره ثم رجع عنه لما كبر؛ إذ ورد عنه إسلامه وحجه، وروى أبوداود: عن جابر قال: فقدنا ابن صياد يوم الحرة.

قال ابن حجر: صحيح. أي: لعله قتل يومئذ، والله تعالى أعلم. والحديث يدل أيضا على جواز الحلف بما يغلب على الظن.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك