رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 20 ديسمبر، 2010 0 تعليق

شرح كتاب: (الاعتصام بالكتاب والسنة) من صحيح الإمام البخاري (63)- كراهيـة الاختـلاف

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع  كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الباب السادس والعشرون: باب كراهية الخلاف

الحديث الأول:

7364 – حدثنا إسحق: أخبرنا عبدالرحمن بن مهدي، عن سلام بن أبي مطيع، عن أبي عمران الجوني، عن جندب بن عبدالله قال: قال رسول الله [: « اقرأوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه «. (طرفه في 5، 6).

الحديث الثاني:

7365 – حدثنا إسحق: أخبرنا عبد الصمد: حدثنا همام: حدثنا أبو عمران الجوني، عن جندب بن عبدالله: أن رسول الله [ قال: «اقرأوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه».  وقال يزيد بن هارون، عن هارون الأعور: حدثنا أبو عمران، عن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (طرفه في 5، 6).

الشرح:

قول البخاري رحمه الله تعالى: باب كراهية الاختلاف، أي: في الأحكام الشرعية وغيرها؛ وذلك لأن الاختلاف يؤدي إلى التنازع والجدال، ويؤدي إلى التفرق في الجماعة، وأما الاختلاف الجائز فهو الذي لا يؤدي إلى الجدال والخصومة، ولا إلى جحد الحق الواضح، أو لبس الحق بالباطل، ولا يؤدي إلى التفرق بين المؤمنين؛ فإن هذا غير منهي عنه بالشرع، لأنه سنة الله تعالى في خلقه، قال سبحانه: {ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} (هود: 118 – 119).

فيخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، أي على دين واحد، وهو الإسلام، وما شاء الله يقع لا محالة، لكن اقتضت حكمته حصول الخلاف بين الخلق في الحق، وكل يرى أنه على الصواب، وعلى الصراط المستقيم!

ومن هداه الله للحق، فقد رحمه.

وقال تعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} (الروم: 22).

فمن آيات الله الدالة على عظمته، وكمال قدرته، وسعة علمه، اختلاف هذه المخلوقات الكثيرة بالأحجام والأشكال والصور والأفكار والأفهام  والاتجاهات وغير ذلك.

فالاختلاف سنة كونية، لكن يجب توجيهها وتهذيبها بالشرع القويم.

وقد وقع الاختلاف بين الصحابة في أمور كثيرة ليست من أصول الإيمان أو الدين؛ لذلك لم يفترقوا فرقا ولا أحزابا! فاختلفوا في تفسير بعض آيات القرآن، واختلفوا أيضا في أشياء من العمليات والفقهيات، ولم يؤد بهم ذلك إلى التفرق ولا التنازع والخصام، كما هو معلوم من حال السلف رضوان الله عليهم أجمعين.

وقد ذكر أهل العلم أن الاختلاف على نوعين:  خلاف قوي سائغ: وهو الاختلاف الذي يستند إلى النصوص الشرعية، أن يكون لكل من المختلفين حجة شرعية من كتاب أو سنة؛ فإن هذا اختلاف قوي جائز.

أما النوع الثاني من الاختلاف: فهو الخلاف الضعيف، وهو ما إذا كان أحد المختلفين يحتج بحجة ضعيفة، إما غير واضحة الدلالة، وإما يحتج بحديث ضعيف، لا يثبت سنده، والأضعف من ذلك: أن يستند إلى مجرد الرأي والاجتهاد في مقابل النص! فإن معارضة النص بالرأي، أو بمجرد الاجتهاد الشخصي والاستحسان، محرمة عند جميع الأئمة المحققين، من السابقين واللاحقين، لأنها تقدُّم بين يدي الله ورسوله.

وقد أورد البخاري في هذا الباب حديثين:  فالحديثان الأول والثاني هما حديث واحد، لكن قد ساقه بإسنادين. وهو قوله [: «اقرؤوا القرآن» حث على قراءة القرآن، والمداومة على قراءته.

قوله «ما ائتلفت» أي: ما اجتمعت عليه قلوبكم، وكانت قلوبكم عليه غير مختلفة، فما دمتم متفقين في قراءته وتدبر معانيه، وأسراره، حصلت لكم البركة والهداية والنور.

قوله: «وإذا اختلفتم عليه فقوموا عنه» أي: إذا حصل بينكم اختلاف في فهم المعاني، وتعارض في الفهم، فدعوا هذا الاختلاف ولا تبالغوا فيه، فإن لم تدعوه فقوموا عنه؛ لأن كثرة الاختلاف والجدل الذي لا يحسم بينكم، تؤدي إلى التفرق، وتؤدي إلى حصول الضغائن والكراهية والحقد.

 وليس معنى الحديث النهي عن المناظرة أو المباحثة في القرآن، التي تقوم على العلم والدليل والأثر؛ فإن علماء الأمة لم يزالوا يتناظرون ويستنبطون معاني التنزيل، ويوقف بعضهم بعضا على لطائف الكتاب العزيز وأحكامه وأسراره، فليس هذا هو الممنوع، وإنما الممنوع ما يؤدي إلى الاختلاف، المؤدي إلى التفرق والضغينة والحقد.

الحديث الثالث: قال البخاري رحمه الله:

7366 – حدثنا إبراهيم بن موسى: أخبرنا هشام، عن معمر، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباس قال: لما حُضر النبي [ قال - وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب - قال: « هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده». قال عمر: إن النبي [ غلبه الوجع، وعندكم القرآن، فحسبنا كتاب الله. واختلف أهل البيت، واختصموا: فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله [ كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي [ قال: « قوموا عني». قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله [ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، من اختلافهم ولغطهم. (طرفه في: 114).

  الشرح:

الحديث الثالث: في هذا الباب - باب كراهية الاختلاف - ما حصل عند احتضار النبي [، أي: في مرض موته [، أنه قال لمن كان في البيت من كبار الصحابة الذين حضروا عنده: « هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده» أي: ادعوا لي من يكتب، لآمره بكتابة كتاب لكم، لن تضلوا بعده أبدا.

فقال عمر: «إن النبي [ غلبه الوجع، وعندكم القرآن، فحسبنا كتاب الله» أي: يكفينا ما عندنا من الوحيين، فالإسلام قد اكتمل؛ فلا نشق على نبينا [ بالكتابة بهذه الحال.

قوله « واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر « أي: كان بعضهم يقول: إن النبي [ غلبه الوجع، فلا يكلف بالكتابة مع مرضه، ومنهم من قال: بل لنمتثل أمره، ولنكتب ما يريد أن يمليه علينا، وهذا اختلاف لكل من الطرفين فيه وجهة مقبولة، وإن كان الامتثال أقرب إلى الحق وأصوب.

قوله «فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي [» قال: «قوموا عني» أي: لما كثر اختلافهم عنده، ضجر من ذلك وكرهه، وأمرهم بالقيام عنه؛ حسما لمادة الاختلاف.

فالحاصل أن الرسول [ من حرصه على هذه الأمة ورحمته بها، وشفقته عليها، أراد أن يكتب لهم كتابا يبين لهم بعض الأمور على وجه التصريح، وإن كانت هي مذكورة في القرآن، ومنصوصا عليها في الحديث النبوي عنه [، ويمكن الوصول إليها بيسر وسهولة، لكن النبي [ أراد أن يزيده لهم بيانا وتوضيحا.

أما عمر رضي الله عنه وبعض الصحابة الذين كانوا بالبيت معه، فرأوا حال النبي [، وما به من الوجع والمرض والضعف؛ فأشفقوا عليه، وقصدوا التخفيف عنه، وكرهوا أن يكلفوه كتابة شيء وهو في مثل هذه الحال، وعلم الفاروق عمر رضي الله عنه بفقهه وعلمه، أن هذا الكتاب إنما هو على وجه الاستحباب، لا على وجه الوجوب بأدلة يأتي ذكرها.

وهذا هو الصحيح الذي عليه عامة الصحابة؛ لأن النبي [ كان قد نزل عليه قوله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} (المائدة: 3)، قبل أن يموت بشهرين أو أكثر، فعلم المسلمون اكتمال الدين والشريعة، ونزل عليه أيضا قوله سبحانه: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}.

 لكن النبي [ - كما قلنا - أراد أن يزيد الأمة بيانا وتوضيحا، زيادة على ما كان قد قام به [ من البيان، والتوضيح، والإرشاد، والدلالة.

 لكن لما حصل الاختلاف في مجلسه [، ذهبت البركة، وقال [ «قوموا عني»: أي أعرض عن الكتابة، ولو كانت الكتابة واجبة متحتمة، لما تركها النبي [ لاختلافهم مهما كان، كما هو معلوم لكل مسلم؛ لأنه حينئذ يخالف أمر الله له بالبلاغ.

 وقد تأسف ابن عباس رضي الله عنهما على ترك النبي [ الكتابة للصحابة؛ لأن فيها فضلا على كل حال، فقال: « إن الرزية كل الرزية، ما حال بين رسول الله [ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم» وذلك أن الاختلاف كان سببا في حرمان المسلمين من هذا الكتاب، الذي أراد النبي [ أن يكتبه لهم.

وهو كما قلنا هو من باب التتميم والزيادة، وإلا فعند المسلمين ما هو واضح وكاف في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله [.

فهذا الحديث: يدل على شؤم الاختلاف، وحصول ما يكره بسببه، فمن شؤم الاختلاف أن يحرم المسلم بعض الخير، وبعض البركة، ولا سيما إذا صاحبه اللغط وارتفاع الأصوات، أو الغضب الشديد ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك