رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 13 ديسمبر، 2010 0 تعليق

شرح كتاب: (الاعتصام بالكتاب والسنة) من صحيح الإمام البخاري (62) – (الإسرائيليات)

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع  كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الباب الخامس والعشرون: قال البخاري رحمه الله:

25 – باب قول النبي [: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء».

الحديث الأول:

7361 – وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيبٌ، عن الزهري: أخبرني حميد بن عبدالرحمن: سمع معاوية يُحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعبَ الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين ُيحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب!

الحديث الثاني:

7362 – حدثني محمد بن بشار: حدثنا عثمان بن عمر: أخبرنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول اله [: « لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: {آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل...} الآية (البقرة: 136). (طرفه في: 4485).

الحديث الثالث:

7363 -  حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا إبراهيم: أخبرنا ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبدالله: أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل على رسول الله [ أحدث؟! تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا!  ألا ينهاكم ما جاء من العلم عن مسألتهم؟! لا والله، ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم . (طرفه في: 2685).

الشرح:

الباب الخامس والعشرون: باب قول النبي [ « لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء « وهذا الحديث قد جاء مرفوعا عند أحمد وغيره: عن النبي [، وهذا المرفوع فيه مجالد بن سعيد وفيه ضعف، لكنه يتقوى بطرق أخرى عند البزار وغيره، والحديث: أن عمر ] أتى النبي [ بصحيفة من التوراة، فقرأها على رسول اله [، فغضب النبي [، وقال: «لا تسألوهم عن شيء» وجاء أيضا أنه قال: «لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني».

وجاء أيضا في مصنف عبدالرزاق: عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: « لا تسألوا أهل الكتاب فإنهم لن يهدوكم، وقد أضلوا أنفسهم فَتُكَذِّبوا بحق، وتُصَدِّقوا بباطل» . فهذا النهي منه [ هو عن سؤالهم عما لا نص فيه من شرعنا، كسؤالهم عن بعض التفاصيل التي وردت في قصص القرآن مثل قصة أصحاب الكهف، في أي زمان كانوا، وما أسماؤهم، واسم ملكهم، وما أشبه ذلك في تلك القصة، وكذلك بعض التفاصيل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وقومه وما حصل لهم في مصر، وما حصل لهم بعد الخروج، وما أشبه هذا.

 أما ما ذكر تفصيله في القرآن، فإن السائل لا يسأل أهل الكتاب لأنه مكتف بما في القرآن، أما ما كان في أخباره موافقا لشرعنا وإخبارنا عن الأمم السالفة فإنه مقبول.

وعلى هذا فإخبار أهل الكتاب على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: ما وافق بأيدينا من القرآن والسنة الصحيحة، فهذا نقبله ونصدقه .

النوع الثاني:  ما خالف ما بأيدينا من القرآن والسنة، فهذا نرده ونكذبه.

النوع الثالث: هو الذي لا يخالف ولا يوافق، فهذا لا نصدقه ولا نكذبه، وإنما نقول إذا حدثنا أهل الكتاب به: {آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة 136).

وأما قوله تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك} (يونس: 94).

فمعناه: اسأل أهل الكتاب المنصفين والراسخين في العلم، فإنهم سيقرون بصدق رسالتك، وما جئت به؛ لأن ما عنك موافق لما عندهم في كتبهم؛ ولهذا قال سبحانه: {لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين}.

 أما الحديث الأول في الباب فقال البخاري: قال أبو اليمان، وأبو اليمان هو الحكم بن نافع البهراني من شيوخ الإمام البخاري المشهورين ، وتقدم، وعدم تصريح البخاري بقوله: حدثنا أبو اليمان، إما لكونه أخذه عنه مذاكرة، وإما لكونه فاته سماعه منه، لكن قد ورد عند الإسماعيلي التصريح بالسماع منه، أو لكونه أثرا موقوفا، لكن الراجح أنه سمعه منه ولم يصرح بالسماع هاهنا . قال: أخبرنا شعيب وهو ابن أبي حمزة، تقدم . قال: عن الزهري، تقدم . قال: أخبرني حميد ابن عبدالرحمن، وهو ابن عوف الزهري.

قال: سمع معاوية - وهو ابن أبي سفيان الصحابي - يحدث رهطا، يعني: جماعة من قريش بالمدينة، وذلك لما حج معاوية رضي الله عنه.

قوله: «وذكر كعب الأحبار» كعب الأحبار هو: كعب بن ماتع بن عمر بن قيس الحميري، كان في حياة النبي [ رجلا لكنه كان على اليهودية، عالما بكتابهم حتى إنه كان يقال له: كعب الأحبار، والحبر هو العالم، وأسلم في عهد عمر، وقيل في خلافة أبي بكر، وقيل: أسلم في عهد النبي [، ولكنه تأخرت هجرته فلم ير النبي [، فيكون على هذا مخضرما، ثم إنه سكن المدينة في خلافة عمر، ثم تحول عنها في خلافة عثمان إلى الشام، فسكنها إلى أن مات بحمص في خلافة عثمان ].

أما قول معاوية: « إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين، الذين ُيحدثون عن أهل الكتاب» أي: يحدثون عن كتبهم، فيشمل التوراة والإنجيل.

ومعنى « نبلو» نختبر، أي: يقع في بعض ما يخبرنا به شيء من الكذب، وهذا مدح لكعب الأحبار رحمه الله، أنه كان أحسن من يحدث عن أهل الكتاب، وأكثرهم بصيرة به، وأعرفهم بأخبار أهل الكتاب، ولم يقصد معاوية أن كعب الأحبار كان يكذب ! وإنما كان ينقل ما يقع في كتب أهل الكتاب، وكتب أهل الكتاب قد وقع فيها شيء من الكذب؛ لكونهم بدلوا وحرفوا كما هو معلوم، فالمعنى أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبا لا أنه يتعمد الكذب؛ لأن كعبا رحمه الله كان من أخيار الأحبار، كما قال ابن الجوزي وابن حبان وغيرهما في توجيه كلام معاوية.

وأخرج ابن سعد: عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير قال: قال معاوية: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده لعلم كالبحار، وإن كنا فيه لمفرطين.

أما الحديث الثاني: فيرويه البخاري -رحمه الله- عن شيخه محمد بن بشار وتقدم . قال: حدثنا عثمان بن عمر وهو ابن فارس العبدي البصري ثقة . قال: أخبرنا علي بن المبارك وهو الهُنائي، ثقة . عن يحيى بن أبي كثير الطائي، ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل أحيانا. عن أبي سلمة وقد تقدم.

عن أبي هريرة قال: « كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام» فقال النبي [: «لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: {آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة 136).

فالرسول [ كره أن يسمع المسلمون من أهل الكتاب تفسيرهم للتوراة؛ لأن التوراة دخلها التحريف والتبديل والكذب والتغيير وكتب فيها من أقوال الناس ما ليس منها، فقال [: «لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم» وهذا كما قلنا في الذي لا يوافق ما عندنا ولا يخالفه، فإننا نتوقف فيه، أما ما وافق ما عندنا فإننا نقبله، وما خالف ما عندنا فإننا نرده ولا نقبله.

وحاصل الأحاديث: أن النبي [ أراد لأهل الإسلام أن يستغنوا بما عندهم من القرآن الكريم والسنة النبوية، وهي أخبار صحيحة حديثة طرية لم يدخلها شيء من اللعب أو التغيير أو التبديل، فأراد أن يستغني أهل الإسلام بكتابهم كما قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} (العنكبوت: 51).

أي: ألم تكفهم آيات القرآن البينات، وما جاء فيه من الدلالات الواضحات، والمعجزات الظاهرات، التي وردت في كتاب الله القرآن، وما فيه أيضا من الأحكام الشرعية، والآداب المرعية، والهداية للعالمين، والخير الكثير، والعلم الغزير، والغيوب المتقدمة والمتأخرة، وقصص الأولين، والهيمنة على الكتب السابقة، وتصحيح ما وقع فيها من الأخطاء، فهو في الحقيقة كفاية وغنية عما سواه، والشفاء من جميع الأمراض الحسية والنفسية.

فالقرآن الكريم فيه غناء عن بقية الكتب السماوية الموجودة الآن، والمنسوبة إلى الرسل، فضلا عن غيرها من الكتب الأرضية، والتي كتبها البشر بحسب عقولهم وعلومهم وأهوائهم، فإذا كان القرآن فيه غناء لنا عن التوراة والإنجيل، أفلا يغنينا عن بقية الكتب الأرضية التي كتبها الخلق ؟! وما فيها من الأخطاء والأهواء ؟! بل هذا من باب أولى!

فواعجبا لطوائف من أهل الإسلام، انبهرت بعلوم العصريين وكتبهم، فزينت للمسلمين الإقبال عليها بغثها وسمينها، بل وعلى القوانين الأوروبية الفاجرة والحكم بها بين الناس، والتي تبيح الفواحش والمحرمات، بل لا تبالي بالشرك برب الأرض والسموات، مع الإعراض عما جاءت به الرسل الكرام، وعما في كتاب الله سبحانه وتعالى، من حكم وأحكام وقصص ومواعظ وتذكير، نعوذ بالله مولانا من الفتنة والخذلان!

أما الحديث الثالث والأخير في الباب: فقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، وهو المنقري التبوذكي، ثقة ثبت . قال: حدثنا إبراهيم وهو ابن سعد الزهري، ثقة حجة . قال: أخبرنا ابن شهاب، تقدم . قال: عن عبيد الله بن عبدالله وهو ابن عتبة بن مسعود الهذلي، الفقيه الثقة الثبت .

قال: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء» وهذا استفهام فيه إنكار، إنكار على من سأل أهل الكتاب عن شيء من الدين والشرع؟!

قوله: «وكتابكم الذي أنزل على رسول الله أحدث» يعني: هو أقرب الكتب إلى الله عز وجل، فكيف يأخذ الإنسان بالقديم المنسوخ أكثره، ويترك الجديد الناسخ لما تقدم ، والقرآن هو الحديث القريب العهد بالله تبارك وتعالى، كما قال تعالى {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} (الأنبياء: 2).

قال ابن كثير وغيره: {محدث} أي: جديد إنزاله، فهو آخر الكتب السماوية نزولا. انتهى.

ويقال كذلك لكل كلام يبلغ الإنسان: حديث، وقد سمى الله كتابه حديثا، فقال: {فليأتوا بحديث مثله} (الطور: 34).

وقال: {أفمن هذا الحديث تعجبون} النجم: 59.

قوله: «تقرؤونه محضا لم يشب» أي: خالصا لم يدخله شيئا من الخلط أو اللبس، كاللبن المحض الذي لم يشب بالماء.

قوله: «وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه ...» أي: حدثكم الله تعالى في القرآن بذلك التبديل والتغيير، كما قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 78).

والذي دفعهم إلى ذلك هو ليشتروا به ثمنا قليلا، من أجل مصالحهم، من أجل أن يأكلوا به عرضا من الدنيا قليلا، وقد قال أهل التفسير: إن الدنيا بأسرها ثمن قليل بالنسبة للآخرة، أي لو أعطي العبد الدنيا بأسرها ليبدل كلام الله تعالى، لكانت ثمنا قليلا بالنسبة لحظه ونصيبه في الآخرة.

قوله: «ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم» وفي رواية: «مساءلتهم» يعني: ألا ينهاكم ما سمعتم في كتاب الله تعالى، من تحريفهم وتغييرهم وتبديلهم وكذبهم، عن أن تسألوهم عما في أيديهم.

قوله: «لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل إليكم « يعني: ما رأينا العكس! أي ما رأينا أحدا من أحبار اليهود، ولا رهبان النصارى يسألونكم عما في أيديكم من كتاب الله تبارك وتعالى، ويستفيدون من علوم القرآن والسنة النبوية، فلم أنتم تسألونهم وتقبلون عليهم، وتعظمونهم؛ فإن هذا خلاف ما أمر الله تعالى به، وخلاف ما ينبغي أن يكون عليه أهل الإسلام، من الاستغناء عما في أيدي الناس من الأقوال والأعمال والأحكام والمعتقدات والكتب، فما في أيدينا كاف لنا معاشر المسلمين.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك