رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 13 أكتوبر، 2015 0 تعليق

دروس وعبر من الهجرة النبوية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه. وبعد: فالناظر في الهجرة النبوية الشريفة، يلحظ فيها حِكماً باهرة، وأحكاما زاهرة، ودروساً عظيمة، وعبراً وعظات مباركة، توجب عليه أنْ يقف أمامها، ويستفيد منها، ويستخلص الفوائد الجمة التي ينتفع بها المؤمنون والمؤمنات، والأفراد والجماعات، بل والأمة جميعا، لا سيما الدعاة إلى دينه، وسبيله ومنهاجه، المقتدون بسنته الشريفة، فمن تلك الدروس والعبر:

أولا - التضحية:

     فالرسولُ الله صلى الله عليه وسلم اضطر إلى مغادرة بلده الذي وُلِد فيه وترعرع، ووطنه الذي نشأ فيه وتربى، وترك أهله وأقرباءه وعشيرته، وقال صلى الله عليه وسلم وهو يغادرها بِنَبْرة من الحزنِ والأسف: «واللهِ إنَّك لَخيْر أرْض الله، وأحبُّ أرْض الله إلى الله، ولوْلا أنِّي أُخْرِجْت منْك ما خرجْتُ». رواه الترمذي.

وهكذا أصحابه -رضي الله عنهم- وعلى رأسهم الصديق أبو بكر رضي الله عنه ، رفيقه في الهجرة، وصاحبه في الغار؛ فإنه قد ترك أسرته وأهله وولده، وتجارته وعمله، وهاجر في سبيل الله تعالى، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم .

     وهذه أمُّ سلمة -رضي الله عنها- وهي أوَّل امرأة مهاجِرة في الإسلام؛ إذْ تقول: «لَمَّا أجْمَع أبو سلمة الخروج إلى المدينة، رَحَّل بعيرًا له، وحَملَنِي وحَمل معي ابنَه سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلمَّا رآه رجالُ بني المغيرة بن مَخْزوم، قاموا إليه فقالوا: هذه نفْسُك غلبْتَنا عليها، أرأيتَ صاحبتنا هذه، علامَ نترُكك تسير بها في البلاد؟ فأَخذوني، وغَضِبَتْ عند ذلك بنو عبد الأسد، وأهوَوْا إلى سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها؛ إذْ نزعتُموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابنِي سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسَنِي بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة حتَّى لحق بالمدينة، ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني، فمكثَتْ سنة كاملة تبكي، حتَّى أشفقوا من حالِها، فخلَّوْا سبيلها، ورَدُّوا عليها ابنها، فجمع الله شَمْلَها بزوجها في المدينة.

     وهذا صُهَيب الرُّومي رضي الله عنه ، لَمَّا أراد الهجرة، قال له كُفَّار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالُك عندنا، وبلَغْتَ الذي بلغت، ثم تريد أن تَخْرج بِمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: «أرأيتم إنْ جعلْتُ لكم مالي، أتخلُّون سبيلي؟» قالوا: نعم، قال: «فإنِّي قد جعلتُ لكم مالي»، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «رَبِح صهيب».

     وعن أنس نحوه، قال: ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة: 207). فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا يحيى، ربح البيع وتلا عليه الآية». رواه الطبراني والحاكم والقصة صحيحة ثابتة.

     وقد رفعهم الله عز وجل بهذه الهجرة درجات عظيمة عنده، وأثابهم بها خير الدنيا والآخرة، فقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 100).

فأخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم المقيم.

ثانيا - ضرورة الجمع بين الأخذ بالأسباب، والتوكل على الله تعالى:

وهذه هي شريعة الإسلام؛ فالتوكل على الله من أعمال قلوب المؤمنين، ومع ذلك لا تهمل الأخذ بالأسباب والعمل النافع.

ويتجلى ذلك من خلال مواقف عدة، منها: استبقاء النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه في فراشه؛ حيث لم يهاجر معه إلى المدينة، وكذا اصطحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه في الرحلة.

ويتجلى كذلك في استعانته بعبدالله بن أريقط الليثي وكان خبيراً ماهراً بالطريق.

     ويتجلى كذلك: في كتم أسرار مسيره وهجرته صلى الله عليه وسلم ، إلا لمن لهم صلة ماسّة من أهله، ومع ذلك فلم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم، ومع أخذه بتلك الأسباب وغيرها، لم يكن ملتفتاً إليها، بل كان قلبه متعلقاً بالله -عز وجل- متوكلاً عليه.

ثالثا - ثبات أهل الإيمان في المواقف الحرجة:

     ويظهر ذلك في جواب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه لمّا كانا في الغار، وذلك لما قال أبو بكر: والله يا رسول الله، لو أنَّ أحدهم نظر إلى موقع قدمه لأبصرنا. فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم مطمئناً له: «ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟» كما حكاه الله في سورة التوبة.

فهذا مثل من أمثلة الصدق والثبات، والثقة بالله تعالى، والاتكال عليه عند الشدائد، واليقين بأن الله -عز وجل- لن يتخلى عنه في تلك الساعات الحرجة ولن يتركه.

وهذه حال أهل الإيمان، بخلاف أهل الكذب والنفاق؛ فإنهم سرعان ما يضعفون عند المخاوف، وينهارون عند الشدائد، ثم لا تجد لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً.

رابعاً - لا لليأس من روح الله تعالى:

     فقد مكثَ النبِيُّ صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، يدعو قومه إلى دين الحق والهدى، سراً وعلانية، فما آمن له إلاَّ قليل، وعاش الظلم من قومه والاضطهاد والنَّكال، وعُذِّب هو وأصحابُه، فلم يكن لِيَثنِيَه كلُّ ذلك عن دعوته، بل زاده إصرارًا وثَباتًا على دينه وعقيدته وإيمانه، ومضى يبحث عمن يقف معه ويسانده ويعينه، فكان أنْ خرَجَ إلى الطائف، باحثًا عن أرض صالحة للدَّعوة، لكنْ وُوجِهَ هناك بأقسى مِمَّا توقَّع، فأُوذي وأُهين، وقُذِف بالحجارة، وخرج من الطَّائف مطرودًا مُهانًا وقد تَجاوز الخمسين من عمره صلى الله عليه وسلم ، ولكن لم يثنه ذلك عن مُواصلة دعوته وتبليغ رسالته، فأخذ يَعْرض نفسه بإصرار على القبائل في مواسم الحجِّ، ويقول: «ألاَ رجل يَحْملني إلى قومه، فإنَّ قريشًا قد منعوني أن أبلِّغ كلام ربِّي» ابن ماجة.

     فرفضَتْ القبائل دعوتَه، حتى شرح الله له صدور الأنصار، فكانت بيعة العقبة الأولى، ثم الثَّانية، وكانت سفارة مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة، الذي هيَّأ البيئة الصالحة لاستقبال الدَّعوة، وتكوين الدَّولة في المدينة النبويَّة، فكانت الهجرة تتويجًا لِعَمَل دؤوب، وصَبْر شديد، وحركة لا تعرف الكلل أو الملل.

خامسا - اليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين:

فالذي ينظر في الهجرة بادئ الرأي، يظن أن الدعوة الإسلامية قد انتهت أو هي إلى زوال واضمحلال؟!

     ولكن الهجرة في حقيقتها تعطي درساً واضحاً في أنَّ العاقبة للتقوى وللمتقين؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلّم بسيرة النبيين والمرسلين قبله، مما قصّه الله عليه في كتابه الكريم، من قصصهم وأخبارهم مع أقوامهم، كما في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (الأحقاف: 35).

     قال ابن جرير: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مثبتا على المضي لما قلده من عبء الرسالة، وثقل أحمال النبوة، وأمره بالائتساء في العزم على النفوذ لذلك، بأولي العزم من قبله من رسله الذين صبروا على عظيم ما لقوا فيه من قومهم من المكاره، ونالهم فيه منهم من الأذى والشدائد (فاصبر) يا محمد على ما أصابك في الله من أذى مكذبيك من قومك، الذين أرسلناك إليهم بالإنذار (كما صبر أولو العزم من الرسل) على القيام بأمر الله، والانتهاء إلى طاعته من رسله الذين لم ينههم عن النفوذ لأمره، ما نالهم فيه من شدة».

فأولو العزم من الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ومن أشبههم، الذين امتُحنوا في ذات الله في الدنيا بالمحن، فلم تزدهم المحن إلا جدا في أمر الله تعالى، وصبراً على طاعته، ويقيناً بموعود الله سبحانه لهم بالنصر.

     وهكذا الداعية إلى الله، والمجاهد في سبيل الله، عليه أنْ يثبت في وجه أتباع الباطل والشر، ولا يهن ولا يضعف في دفعهم وتقويم اعوجاجهم، ولا يهوله أنْ تقبل الأيام عليهم، فيشتد بأسهم، ويجلبوا بخيلهم ورجالهم؛ فقد يكون للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أما العاقبة فإنما هي للذين صبروا، والذين هم مصلحون من عباد الله المتقين.

سادسا - أنَّ مَن حفظ الله حفظه الله:

ويؤخذ هذا المعنى من حال النبي صلى الله عليه وسلم لما تآمر عليه زعماء قريش من المشركين، ليعتقلوه ويسجنوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه، فأنجاه الله -عز وجل- منهم، بعد أن حثا في وجوههم التراب، وخرج من بينهم سليماً معافى.

     وهذه سنة الله الماضية، فمن حفظ الله حفظه الله، وأعظم ما يحفظ به أنْ يحفظ في دينه، وهذا الحفظ شامل لحفظ الدين والبدن والمال والولد والعرض وغيره، وليس بالضرورة أنْ يُعصم الإنسان؛ فلا يخلص إليه أذى ألبتة؛ فقد يصاب به لترفع درجاته، وتقال عثراته، ولكن الشأن كل الشأن في حفظ الدين والدعوة.

سابعا - أنَّ النصر مع الصبر:

     فالمعركة عندما تَطول مع أهل الباطلِ، فإن الغَلَبة والنُّصرة تكون لأصحاب العقيدة الصحيحة، إذا تحلَّوا بالصبر والثبات على المبدأ، فالعاقبة تكون لأهل الحق؛ كما قال الله تعالى حكاية عن نبيه موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128).

     فتأمَّلوا كم مكَث فرعون يقتل في بني إسرائيل قبل مجيء موسى -عليه السلام- ثم كانت العاقبة للمستضعفين بعد صراع طويل ومرير مع أهل الباطل! وتأمَّل كم عانى يوسف عليه السلام في حياته ثم كانت العاقبة له، وعلَّل يوسف عليه السلام نصره بشرطين، ذَكَرهما الله تعالى في قوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 90).

     فهذان الشرطان هما أقوى أسلحة المؤمنين: الصبر والتقوى، كما قرَّر البارئ سبحانه أن التغلب على كيد الأعداء لا يكون إلا بهذين الشرطين، في قوله: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 120).

     وقد كان هيناً على الله -عز وجل- أن يصرف الأذى عن النبي صلى الله عليه وسلم  جملة، وينصره على قومه ابتداء، ولكنها سنة الابتلاء يؤخذ بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه؛ ليستبين صبرهم، ويعظم عند الله أجرهم، وليعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد، ويصبرون على ما يلاقون من الأذى في سبيل الله صغيراً كان أم كبيراً.

ثامنا - حُسن الصُّحبة وقوة المحبة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:

     وتجلَّت في أبْهَى صُوَرِها مع أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه ، لَمَّا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنِّي أُريتُ دار هجرتكم ذات نَخْلٍ بين لابتين» وهُما الحرتان؛ تَجهَّز أبو بكر، فقال له النبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «على رِسْلِك؛ فإنِّي أرجو أن يُؤْذَن لي»، فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبِي أنت؟ قال: «نعم»، فحَبَسَ أبو بكر نفْسَه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيَصحبه، فانتظر أربعة أشهر يعلف راحلتَيْن كانتا عنده، حتَّى أذن الله بالهجرة، فلما أخبَره النبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَم يُصدِّق أنْ يكون صاحِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى قال: الصحبةَ بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نعم»، قالت عائشة رضي الله عنها: «فوالله ما شعرت قطُّ قبل ذلك اليوم، أنَّ أحدًا يبكي من الفرح، حتَّى رأيتُ أبا بكر يبكي يومئذٍ». رواه البخاري.

وعندما خرجا معاً، كان أبو بكر يتقدَّم النبِيَّ صلى الله عليه وسلم في ترَصُّد الأمكنة؛ حتَّى لا يصيب النبي صلى الله عليه وسلم أي أذًى، ويلتفت يمينا وشمالا خشية على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعدائه.

      فروى البيهقي: عن محمد بن سيرين قال: ذَكَر رجالٌ على عهد عمر، فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر! فبلغ ذلك عمر، فقال: والله لليلة من أبي بكر خيرٌ من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار، ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: «يا أبا بكر، ما لك تمشي ساعة بين يدي، وساعة خلفي». فقال: يا رسول الله، أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك. فقال: «يا أبا بكر، لو كان شيءٌ لأحببتَ أنْ يكون بك دوني؟» قال: نعم والذي بعثك بالحق. فلما انتهينا إلى الغار، قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فدخل فاستبرأه حتى إذا كان في أعلاه، ذكر أنه لم يستبرئ الحجرة، فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ. فدخل فاستبرأ، ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل. ثم قال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خيرٌ من آل عمر.

ورواه الحاكم في المستدرك، وقال الذَّهبي: صحيح مُرسل.

تاسعا - من معاني الهجرة للمسلمين عامة:

هجرة الذنوب والمعاصي والسيئات، وأعظمها: هجر ما يُعْبَد من دون الله -تعالى- من الأنداد والأصنام والأوثان، قال تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 5).

وقال صلى الله عليه وسلم : «الْمُسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَن هجر ما نَهى الله عنه» متَّفَق عليه.

وهذه الهجرة تكون في كل زمان ومكان، وباقية إلى قيام الساعة.

وكذا هَجْر العصاة، ومُجانبة مُخالطتهم، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (المزمل: 10)، والهجر الجميل هو الذي لا عتاب فيه.

كما ذكرها الله عن أنبيائه عليهم السلام، فقال عن لوط عليه السلام: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (العنكبوت: 26).

     وهكذا هجرة القلوب إلى الله تعالى، بالإخلاص في التوجُّه إليه سبحانه في السرِّ والعلانية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «فمَنْ كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومَن كانتْ هجرته لِدُنيا يصيبها، أو امرأة يتزوَّجها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه» متفق عليه.

وهناك الكثير من الدروس والعبر والوقفات في هجرته صلى الله عليه وسلم خاصة، وفي سيرته العطرة عامة، نسأل الله أن يعلمنا منها ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، إنه هو العليم الحكيم.  وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك