رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 8 أغسطس، 2016 0 تعليق

النيّـــات في قــراءة القرآن الكريم(5)

التاركين للذكر وإنْ كان فيهم حياة، فلا اعتبار لها بل هم أشبه بالأموات!؛ إذْ لا يشعرون بما يشعر به الأحياء الحقيقيون، المشغولون بطاعة الله سبحانه

أعظم الذِّكر: تلاوة كتاب الله تعالى، وكذلك الأذكار التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها

 

 

تعظيم النيات واستحضارها، هي تجارة قلوب الصالحين، من الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان، والعلماء الربانيين؛ فإنهم كانوا يعملون العمل الواحد ولهم فيه نياتٌ كثيرة، يحصل لهم بها أجورٌ عظيمة على كل نية، فعندما تتعدد النيات على العمل الواحد، والطاعة الواحدة، يتضاعف الأجر، وتكثر المثوبة، فتكسب أجراً على كل نيه تنويها على العمل الواحد الذي تؤديه مرة واحدة، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: «النيِّة أبلغ من العمل».

ونستكمل في هذه الحلقة الكلام عن بعض النيات، التي يَحسن أنْ نَنْويها عند قراءة القرآن الكريم:

نحتسبُ قراءته سبباً لحياة قلوبنا وأرواحنا:

1- كما في قول الله جل وعلا: {أَوَمَن كَانَ مَيتًا فَأَحيَينَهُ وَجَعَلنَا لَهُ نُورًا يَمشَي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ منهَا} الأنعام:122.

حيث تشبّه الآية الكريمة الكافر بالميت، وتشبّه الهداية إلى الإسلام بالحياة، أي أنّ المؤمن المهتدي قبل هدايته كان بمنزلة الميت، وبعد ذلك ونتيجة لاهتدائه أعطي نورًا يهتدي به في مصالحه.

- قال ابن كثير: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا، أي: في الضلالة، هالكاً حائراً، فأحياه الله، أي: أحيا قلبه بالإيمان، وهداه له ووفقه لاتباع رسله. {وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} أي: يهتدي به كيف يسلك؟ وكيف يتصرّف به؟ والنور هو: القرآن، كما رواه العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال السدي: الإسلام، والكل صحيح.

     {كمن مثله في الظلمات} أي: الجهالات والأهواء، والضلالات المتفرقة، {ليس بخارج منها} أي: لا يهتدي إلى منفذ، ولا مُخلّص مما هو فيه، وفي مسند الإمام أحمد: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله خَلَقَ خَلقه في ظُلمةٍ، ثم رشَّ عليهم من نوره، فمَنْ أصابه ذلك النور اهتدى، ومَن أخْطأه ضلَّ».

كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة: 257.

وكما قال تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} الملك: 22، وقال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ} هود: 24.

وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ} فاطر: 19 - 23.

والآيات في هذا كثيرة، ووجه المناسبة في ضرب المثلين هاهنا بالنور والظلمات، ما تقدم في أول السورة: {وجعل الظلمات والنور} الأنعام: 1.

     وزعم بعضهم: أن المراد بهذا المثل: رجلان مُعَينان، فقيل: عمر بن الخطاب هو الذي كان ميتا فأحياه الله، وجعل له نوراً يمشي به في الناس. وقيل: عمار بن ياسر. وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها: أبو جهل عمرو بن هشام، لعنه الله. والصحيح أن الآية عامة، يدخل فيها كل مؤمن وكافر.

وقوله تعالى: {كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} أي: حسنا لهم ما هم فيه من الجهالة والضلالة، قدرا من الله وحكمة بالغة، لا إله إلا هو ولا رب سواه. انتهى

2- وقال تعالى {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} الشورى: 52- 53.

{وكذلك} أي: كما أوحينا إلى سائر رسلنا، {أوحينا إليك روحا من أمرنا} قال ابن عباس: نبوة. وقال الحسن: رحمة. وقال السدي ومقاتل: وحيا. وقال مالك بن دينار: يعني القرآن. {ما كنت تدري} قبل الوحي {ما الكتاب ولا الإيمان} يعني: شرائع الإيمان ومعالمه.

{ولكن جعلناه نورا} قال ابن عباس: يعني الإيمان. وقال السدي: يعني القرآن {نهدي به} نرشد به {من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي} أي لتدعو {إلى صراط مستقيم} يعني الإسلام.

{صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} أي: أمور الخلائق كلها في الآخرة. (انظر البغوي).

وقال الطبري: واختلف أهل التأويل في معنى {الروح} في هذا الموضع، فقال بعضهم: عَنى به الرحمة.

ذكر من قال ذلك: عن قتادة عن الحسن في قوله: {روحا من أمرنا} قال: رحمة من أمرنا.

وقال آخرون: معناه: وحياً من أمرنا.

وقد بينا معنى الروح فيما مضى، بذكر اختلاف أهل التأويل فيها بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وقوله: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} يقول - جل ثناؤه - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: ما كنت تدري يا محمد، أي شيء الكتاب، ولا الإيمان، الذيْن أعطيناكهما.

     {ولكن جعلناه نورا} يقول: ولكن جعلنا هذا القرآن، وهو الكتاب نوراً، يعني ضياء للناس، يستضيئون بضوئه الذي بيَّن الله فيه، وهو بيانه الذي بين فيه، مما لهم فيه في العمل به الرشاد، ومن النار النجاة {نهدي به من نشاء من عبادنا} يقول: نهدي بهذا القرآن، فالهاء في قوله «به» من ذكر الكتاب.

ويعني بقوله: {نهدي به من نشاء} نسدد إلى سبيل الصواب، وذلك الإيمان بالله {من نشاء من عبادنا} يقول: نهدي به من نشاء هدايته إلى الطريق المستقيم من عبادنا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. انتهى.

2- وعن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ الذي يَذْكُرُ رَبَّهُ، والَذِي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ». متفقٌ عليه.

     لا يقصد النبي -صلى الله عليه وسلم - بالحياة هنا الحياة المحسوسة، التي يشترك فيها المسلم الذاكر مع باقي الناس؛ وإنما يقصد بها حياة الروح، وروح الحياة، يقصد الحياة التي عبَّر عنها الله -تعالى- بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} الأنفال: 24.

فهذه الحياة متحققة بالاستجابة لأمر الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.

     وفي هذا الحديث الشريف: بيانٌ لفضل الذكر؛ إذْ به تَظهر الحياة على الذاكرين، ولما يُضفيه عليهم من نور العبادة، وما يصل إليهم من الأجر، كما أنّ التاركين للذكر وإنْ كان فيهم حياة، فلا اعتبار لها بل هم أشبه بالأموات!؛ إذْ لا يشعرون بما يشعر به الأحياء الحقيقيون، المشغولون بطاعة الله سبحانه.

ومن جميل ما قيل في موت قلوب الغافلين عن الذِّكر:

فنسيانُ ذِكـْــرِ اللهِ مـــوتُ قـــلوبِهم

                                             وأجْســـامُهم قبلَ القُبورِ قبورُ

وأرواحُهم في وحشةٍ منْ جُسُومهم

                                             وليس لهم حتى النُّشورِ نشورُ

     وأعظم الذِّكر: تلاوة كتاب الله تعالى، وكذلك الأذكار التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها، مثل: التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، والحوقلة والحسبلة والاستغفار، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة، كما أنّ الذكر يطلق على المواظبة على العمل بما أمر الله -تعالى- به، كالصلاة والزكاة والصيام وغيرها، وكذا قراءة ومدارسة الحديث النبوي، ومدارسة العلم والعقيدة والفقه والسيرة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك